مؤتمرات الحج
منافع الحج كثيرة وهداياه للحجاج وفيرة، ومن أي جهة نظرنا له فسنجده نعمة وعزة لأمة الإسلام منّ الله بها عليهم، إذ شرع لهم أن يشهدوا فيه منافع لهم، وقد أحسن المخلصون من أبناء هذه الأمة حين جعلوا الحج منارا لتداول شؤون المسلمين والحديث في همومهم، ومن ذلك المؤتمرات التي تقيمها رابطة العالم الإسلامي سنويا في أيام الحج، فأحببت مشاركتهم ضمن عنوان رأيت أن تداوله الجاد مفيد للمسلمين جميعا.
مصطلح الأقليات «لم يكن معروفاً في الماضي ، وقد نشأ في القرن الماضي، وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب، وفي مقدمة هذه الهيئات (رابطة العالم الإسلامي) وبعدها (منظمة المؤتمر الإسلامي)، حيث استعملت كلمة الأقلية، وهي ترجمة لكلمة (minrite) التي تعني مجموعة بشرية ذات خصوصيات، تقع ضمن مجموعة بشرية متجانسة أكثر منها عدداً، وأقوى منها صوتاً، تملك السلطان أو معظمه».
«لقد شهد التاريخ مآسي كثيرة للأقليات بسبب الخصومة بين الأقليات وبين الأكثرية، ولسنا بصدد سرد تاريخي لمجازر للأقليات ما زال العالم يعيشها في نهاية القرن العشرين».
هذان اقتباسان وردا في كتاب (صناعة الفتوى وفقه الأقليات) للشيخ عبد الله بن الشيخ محفوظ بن بيّه، وإذا كان نظر الشيخ في كتابه متجها نحو الأقليات الإسلامية في بلاد الغرب، فاني أود الاتجاه بمقالي للأقليات الدينية أو النسبية (اثنية) المتواجدة في بلاد المسلمين.
فهي أقليات تعيش أزمة حقيقية مع محيطها الأكثري، أو يعيش محيطها أزمة حقيقية معها بسبب سوء الفهم لها والرفض التام للاعتراف بها، وان كانت الأزمة في شدتها وضعفها تختلف باختلاف البلد أو الدولة، وباختلاف الثقافة الدينية والحياتية السائدة، إذ الفرق واضح بين ثقافة دينية وحياتية مرنة وبين أخرى متحجرة ومتشددة، لكنها قضية عامة في كل الدول الإسلامية، دون الحاجة إلى تخصيص أو استثناء.
وهي محل النظر للأعداء والمستعمرين، الذين يبذلون أقصى جهودهم لإبقاء هذه الأقليات خارج المعادلة الداخلية، عسى أن تسعفهم الظروف يوما في التعامل معهم، والاستفادة من ورقتهم لمصالح خارجية ترتبط بما وراء البحار، وحتى ذلك الحين فإن دول الاستكبار العالمي تعتبر التعامل الناقص معهم مشوها لقوانين الإسلام وللدول الإسلامية التي يتفيئون ظلها، كما أن العديد من المنظمات الحقوقية الموجهة قد أخذت طرقها للعالم الإسلامي عبر استفادتها من التعامل الطارد والمتشنج للأكثريات المهيمنة على العالم الإسلامي.
الغريب في الأمر أن صراخ الأقليات يتعالى ومطالبتها برسم طرق الاندماج العملي مع محيطها تتزايد، لكن محيطها الاجتماعي وإرادتها السياسية تتعامل معها إما بالتجاهل والإقصاء أو بالاتهام والتخوين.
وإني لأتأمل أن تتبنى فعاليات الحج المتعددة ومؤتمراته الجميلة والمفيدة إعلان الحديث عن هذه المشكلة واجتراح الحلول لها، وتحويلها من العمل الدهاليزي المغلق والتلقف الخارجي البغيض إلى فضاء العلن بحثا عن علاج داخلي يقوم على العدل والدمج.
لا اشك قيد أنملة أن مجموعة طيبة من الدراسات والأوراق والأفكار التي تتلمس الطريق يمكنها أن تنزع فتيل الأقليات في مختلف الأقطار العربية والإسلامية، وأن تخرج هذه الورقة من أدراج التخطيط العدواني على الأمة، ليتعامل معها باعتبارها أزمة ومشكلة لكنها داخلية وقابلة للشروع في العلاج.
وأعتقد أن إنشاء لجان منبثقة عن مؤتمرات الحج السنوية، التي تعقد في هذه البقعة الطاهرة، والتي تعني بالتواصل مع هذا القطر أو ذاك، يمكنها أن تكون قنوات مناسبة لحركة الرأي والتصور بين هرم السلطة السياسي أو الديني في أي بلد وبين تلك الأقليات، مع أن أفضل الأمور هو التواصل المباشر، لكننا نتحدث الآن عن إشكالية قائمة سنعتبر أي مقاربة لها خير من تركها تستفحل، وخير من المبادرات الأجنبية التي تتلقف هذا التشنج وذاك الانفعال.
آن الأوان ليكون الحديث عن هذه القضية مكشوفا دون خجل أو وجل وان يكون الحج الذي أراده الله ملتقى دينيا للمسلمين في كل أصقاع الأرض، هو الأرضية المناسبة ليرى المسلمون أنفسهم في خندق واحد، يعالجون فيه قضاياهم الداخلية مهما كانت شائكة وحساسة.
فنحن في زمن الجرأة واقتحام المشاكل والتشنجات بغية حلها، وإخراجها من ممنوعات تغري غيرنا بالاقتراب منها، إلى مسموحات نمنحها قسطا من أفكارنا وآرائنا بغية العثور على حل، وهذا هو المسلك الذي مهد سبيله خادم الحرمين الشريفين بتأكيده وإصراره على الحوار الوطني.