الغربة في الوطن
اعتادت أذهاننا أن تجعل مفهوم الغربة مقابل الوطن، فالمسافر عندنا غريب والمتواجد في وطنه ليس غريباً، وفهمنا أن من يتحدث لغة قوم فهو بعيد عن الغربة، بينما من يجهل لغة قوم يعيش بينهم فهو مركوس في الغربة.
لقنّا كذلك أن من يعيش في دولته، ويحمل جنسيتها، ويمتلئ جيبه ببطاقاتها وأوراقها ورسمياتها فهو محتضن، والغريب هو اللاجئ أو البدون، الذي لا يحمل رسميات الدولة التي يقطن فيها ولا يستمتع بصورته ممهورة بختمها.
هكذا فهمنا الغربة، وجود خارج الوطن، ولغة غريبة عن الناس، وفقد للبطاقات الشخصية وجواز السفر، أما الحرمان من الحقوق المتشعبة والملازمة للمواطنة وحمل الجنسية فلم نعتبرها غربة، بل قبلناها تحت مسميات صنعنا أرضية القبول لها في قلوبنا، فرفضنا غربتنا في بلداننا، وخففناها لـ (مواطن محروم) من حقوقه للونه أو لمذهبه أو للغته أو لأي سبب آخر ولكنا لسنا غرباء ونحن في بلداننا وبين قومنا.
في استحضاره لبعض مفاهيم عاشوراء يشير المرحوم الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين لمفهوم الغربة في كتابه الرائع (عاشوراء) يتساءل عن المقصود من الغربة التي عاشها الحسين في كربلاء فيقول:
«إن الإمام الحسين سكن مدة طويلة في حياة أمير المؤمنين في الكوفة، وذلك بعد بيعة الإمام علي انتقل من المدينة إلى الكوفة. كذلك انتقلت كل العائلة الشريفة مع الإمام إلى الكوفة. الحسن والحسين وزينب وبقية البنات والأولاد. الكوفة على مرمى حجر من كربلاء، يعني أن الإمام سكن في العراق، ومع ذلك في عبارات موجودة في الزيارات وفي الشعر وفي اللغة الشعبية «اللهم بغربة أبي عبد الله»».
فأي غربة هذه والإمام الحسين كان قريباً من هذه المنطقة، يعرف لغتها، ويعرفه أهلها، يكمل الشيخ بقوله:
«إن مفهوم الغربة هذا، هو أحد المفاهيم الإسلامية الدقيقة جداً في موضوع الفكر، وفي موضوع الإنسان. ما هي مظاهر الغربة؟ ماذا يصيب الغريب؟ يكون الغريب غالباً ضعيفاً، لأنه في مكان لا يعرف فيه أحداً؛ ويكون الغريب غالباً محتاجاً، لأنه يكون بعيداً عن مصادر ثروته، والمصادر التي يمكن أن يأخذ منها المال والطاقة وما إلى ذلك. يكون الغريب غالباً وحيداً، أو شبه وحيد لأنه لا يوجد حوله من يؤنسه ويسلّيه».
ثم يشير رحمه الله أنه لا معنى لغربة الحسين بما مر من الضعف والحاجة والبحث عن أنيس، ليؤكد أن الغربة هنا هي غربة القضية، وغربة الشرعية التي حاول الظالمون انتزاعها منه، وغربة النهج الذي جعلوه وراء ظهورهم، وغربة الفكر الذي حاول الرسول أن يرسخه في المسلمين.
فحين يكون التكوين السياسي طارداً، والفكر السائد طارداً، والفتاوى المتتالية طاردة، والحراك اليومي طارداً، هنا تكون الغربة ويكون الإنسان بل والمجتمع كله غريباً.
الغربة أن تؤكد بلسانك وبصماتك وأفعالك وتاريخك أنك مسالم ومحب للخير ومنسجم مع الجميع، لكنك ترى من يشكك في نزاهتك ووطنيتك لتعيش الغربة والإقصاء في كل شيء، وكأن الآذان قد صمت، يحدثنا يوم كربلاء أن الحسين كان يجتهد في رفع كل لبس محتمل في عقول أعدائه الذين جاءوا لقتاله، فيبين لهم حسبه ونسبه ومكانته ودواعي موقفه، ويطلب منهم التأمل والتفكر والتأني فيما يريدون أن يقدموا عليه من قتله وسبي عترته ، لكن شمر بن ذي الجوشن يختصر الموقف والجواب ليقول للحسين : «يا بن فاطمة إنا لا نفهم ما تقول».
الغربة أن تشعر بمحدوديتك في العدد، وأنت تئن وتصرخ وتتوجع، لكنك في واد وبقية شعبك في واد آخر، مستعدون للذهاب لأفغانستان وللشيشان ولباكستان وللعراق ولغزة ولكل مكان يسمعون فيه مستغيثاً من المسلمين، لكنهم يكتفون بالتفرج عليك وكأنك لست بشراً ولا شريكاً في الأرض ولا أخاً في الدين ولا نظيراً في الخلق.
الغربة أن لا تؤتمن على دائرة رسمية في منطقتك لأنك لست أهلاً للأمانة، فكل الدوائر بما فيها دوائر الخدمات البسيطة تحتاج إلى مهارات خارقة يؤتى بها من آخر الدنيا بكامل طاقمها الإداري والتنفيذي لتشعر بالغربة في دائرة مدخلها يقابل باب منزلك.
الغربة أن يتواصل معك بعض بني قومك من العقلاء والكرماء الأحرار، فتبدأ المواقع الإلكترونية البغيضة حملة التشويه لمجتمعك والضغط عليهم، تأتي هذه الحملة من جهات مختلفة بعضها على الأقل لا دخل له في القضايا الدينية والعقدية.
الغربة هي أن نذكر الغريب في نهجة ومواقفه وصلابته ونقول في أنفسنا ما أشبه الليلة بالبارحة فهل تركتنا بعدك غرباء يا أبا عبد الله لنعيش بعضاً من ألمك وظلمك وحرمانك؟.