مباهاة الإسلاميين بحقوق الإنسان وتقصيرهم تجاهها
لا يمكن لأي باحث منصف في النصوص والتشريعات الإسلامية أن ينكر الاهتمام المميز بقضايا حقوق الإنسان في الفكر والتشريع الإسلامي، مما يجعله الأعمق والأسبق اهتماماً بهذا الموضوع من كل الأديان والمدارس الأخرى، بما فيها الحضارة الغربية الحديثة.
لقد أكدت آيات القرآن الكريم، قبل انبثاق مواثيق حقوق الإنسان في أوربا بعشرة قرون، على كرامة الإنسان، وحفظ حقوقه المادية والمعنوية بكل تفاصيلها وجزئياتها، واعتبرت أن أي انتهاك لشيء من هذه الحقوق يشكل عدواناً ومناوءة لله تعالى ولدينه ورسله، تستوجب غضب الله تعالى وسخطه وعقوبته ونكاله.
فالاعتداء على حياة فرد واحد من البشر يعتبره القرآن الكريم عدواناً على البشرية جمعاء، وإبادة لها، يقول تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾.
والكرامة حق إلهي منحه الله تعالى للإنسان من حيث هو إنسان، وبغض النظر عن أي صفة أخرى، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾.
ويؤكد القرآن الكريم حرية الإنسان في آرائه ومعتقداته ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾.
وحتى أنبياء الله تعالى لا يحق لهم ممارسة أي ضغط، أو إكراه على حرية المعتقد والرأي، ويقتصر دورهم على الدعوة والتبليغ فقط، يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لأمن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.
وفي مجال حماية الحقوق المادية، يتوعد القرآن الكريم من يسلب شيئاً من أموال الآخرين ـ كاليتامى مثلاً ـ بأشد العذاب، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾.
وعن حماية الحقوق المعنوية، يقول تعالى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾.
وفي السنّة النبوية مئات النصوص والأحاديث التي اقتبس منها الفقهاء تشريعات الإسلام في حفظ حقوق الإنسان المادية والمعنوية، كأحكام القصاص والديات، والوظائف الاجتماعية، ومناهج الأخلاق والآداب.
واستيعاب الحديث عن حقوق الإنسان في النصوص والتشريعات الإسلامية يحتاج إلى بحوث مفصلة، لكن ما أريد مناقشته هو دور الإسلاميين في تبني قضايا حقوق الإنسان والدفاع عنها.
هناك كثير من المباهاة والاعتزاز لدى (الإسلاميين) أمام الحضارة الغربية بأسبقية الإسلام وأفضلية اهتمامه بحقوق الإنسان، وهو أمر صحيح على مستوى النصوص والتعاليم والأحكام. أما على صعيد الممارسة والواقع فيجب الاعتراف بالقصور والتقصير، وأن الآخرين سبقونا وتقدموا علينا بمسافات بعيدة.
ويمكن رصد بعض مواقع تخلفنا ـ كمسلمين ـ في مجال حقوق الإنسان ضمن المحاور التالية:
* التأخر في البلورة والصياغة التقنينية لقضايا حقوق الإنسان، ذلك أن النصوص الدينية غالباً ما تكون عامة مطلقة، تحتمل مختلف التفاسير، وتتفاوت حول تفاصيل تطبيقاتها آراء العلماء، وحتى التشريعات والأحكام الفقهية، المرتبطة بحقوق الإنسان، غالباً ما تكون صياغتها من قبل الفقهاء على شكل فتاوى لتبيين الحكم الشرعي للفرد المسلم.
والخطوة المتقدمة التي حصلت في المجتمعات الغربية هي الصياغة التقنينية الواضحة لحقوق الإنسان على شكل وثائق وقوانين ومعاهدات، تأخذ صفة الإعلان الملزم على المستوى المحلي أو العالمي.
فعند انبثاق الثورة الفرنسية أصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية بتاريخ 26 آب/أغسطس سنة 1789، إعلان حقوق الإنسان والمواطن في سبع عشرة مادة تضمنت مبادئ في الحقوق والحريات، وعندما صدر الدستور الفرنسي سنة 1791 كان هذا الإعلان ديباجة له وجزءاً منه، وفي دستور 1793، الذي أقره المؤتمر الوطني (الكونفنسيون)، أضيفت مواد أخرى لإعلان حقوق الإنسان والمواطن تتعلق بالمجال الاقتصادي والاجتماعي، وأصبح ذا خمس وثلاثين مادة من أصل 124 مادة هي كل الدستور.
وبعد إنشاء الأمم المتحدة أقرت جمعيتها العامة في 10 كانون الأول/ديسمبر سنة 1948 (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) ويقع في ثلاثين مادة، ثم أُلحقت به اتفاقيتان، الأولى بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والثانية بشأن الحقوق المدنية والسياسية مع برتوكول اختياري بشأن الاتفاقية الثانية، وذلك بتاريخ: 16 كانون الأول / ديسمبر 1966.
على الصعيد الإسلامي، ومع وجود تحفظات على بعض النقاط الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فقد بدأت فكرة إصدار إعلان إسلامي لحقوق الإنسان سنة 1979، من قبل منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضم الدول الإسلامية، حيث قرر المؤتمر الإسلامي العاشر لوزراء الخارجية تشكيل لجنة مشاورة من المتخصصين لإعداد لائحة بحقوق الإنسان في الإسلام، وقد أحيلت على المؤتمر الحادي عشر الذي قام بدوره بإحالتها على لجنة قانونية، وعرض النص المعدّل على مؤتمر القمة الإسلامي الثالث، ولكنه أحاله على لجنة أخرى، ووافق المؤتمر الرابع عشر لوزراء الخارجية في (دكّا) على المقدمة وأول مادة فيه، وأحال باقي المواد على لجنة ثالثة، ثم تتابعت المؤتمرات مؤكدة عليها، إلى أن عقد اجتماع طهران في ديسمبر 1989، وأعدَّ الصيغة النهائية التي تمت الموافقة عليها نهائياً في المؤتمر التاسع عشر لوزراء الخارجية في القاهرة، وهكذا تكون اللائحة قد مرّت بمجملها في عشرة مؤتمرات للخارجية: (فاس، إسلام آباد، بغداد، نيامي، دكّا، صنعاء، عمان، الرياض، طهران، القاهرة) وثلاثة مؤتمرات للقمة في (الطائف، والدار البيضاء، الكويت) ومجموعة من جلسات الخبراء، واستغرقت هذه الولادة العسيرة للإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان عشر سنوات، أما التزام الدول الإسلامية عملياً بهذا الإعلان فقد يحتاج إلى عشرات أخرى من السنوات!
* ضعف الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان في الخطاب الإسلامي، فبينما نجد اهتماماً كبيراً بالقضايا العقدية والعبادية، وحتى الشأن السياسي أخذ حيزاً من الاهتمام في الخطاب الإسلامي المعاصر، لكن قضية حقوق الإنسان لم تنل مستوى من الطرح والاهتمام إلا بشكل محدود، غالباً ما تكون منطلق الدفاع عن الإسلام أمام من يتهمه بتجاهل حقوق الإنسان، وللتباهي بموقعية حقوق الإنسان في التراث الإسلامي، أو تكون في سياق عرض الظلامات التي يتعرض لها المسلمون والإسلاميون بالاحتكام إلى مواثيق حقوق الإنسان.
* واقع الانتهاك لحقوق الإنسان، حيث تفرد مختلف التقارير الدولية مساحة واسعة لكثير من بلدان العالم الإسلامي، لرصد انتهاكات حقوق الإنسان فيها، على مختلف المستويات.
ولا يقتصر التجاوز لحقوق الإنسان في كثير من بلدان العالم الإسلامي على الجهات الحكومية الرسمية، بل إن بعض ألوان العلاقات السائدة في المجتمع تتضمن حيفاً وتجاوزاً لحقوق الإنسان، في العلاقات الأسرية، وفي التعامل بين الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة الانتماء.