تبني الاهتمامات الكبرى
الاهتمامات الذاتية للإنسان تفرض نفسها عليه، فهو يحب ذاته ويسعى لمصلحته الذاتية، وهذا أمر مشروع ومقبول، إلا أنه من غير المقبول أن ينحصر الإنسان في سجن اهتماماته الذاتية، فلا يفكر إلا في نفسه، ولا يهتم إلا بذاته، ولا يتحمل أي مسؤولية تجاه مجتمعه وأمته. ومعنى ذلك أن الإنسان لا يعرف نفسه، ولو عرف نفسه لرأى أنه أكبر من أن ينحصر في همومه الذاتية، وقد وهبه الله سبحانه وتعالى طاقات وقدرات، هي من أجل أن يقوم بدور كبير من خلال وجوده وحياته. ولا ينبغي للإنسان أن يستصغر نفسه فيهتم بذاته فقط، فهو خليفة الله في الأرض، ومكلف من قبله تعالى بعمارة الكون، وبنشر وتطبيق القيم الفاضلة في المجتمع الإنساني.
من ناحية أخرى فإن القسم الأكبر من مصالح الإنسان الذاتية مرتبط بالآخرين، وخاصة في هذا العصر، حيث أصبحت أمور البشر متداخلة، لدرجة أنه قد ينشأ مرض في بلدٍ في أقصى الأرض ولكنه ما يلبث أن ينتشر ويغزو مختلف البلدان في العالم، وقد تُطرح فكرة في مكان ما ولكنها بعد وقت قصير، لا يتجاوز اللحظات والدقائق، تكون منتشرة على مستوى العالم كلّه. وهذا كلّه يؤكد تداخل المصالح الذاتية بمصالح المجموع، ومن سبل خدمة الإنسان لذاته أن يخدم المجموع، فيأخذ حصته من المجموع.
ولهذا يربي الإسلام أبناءه على الاهتمامات الكبرى، فيهتم المسلم بالشؤون الكبرى في مجتمعه وأمته والعالم أجمع. وهذا ما تؤكده النصوص والتعاليم الدينية، ومنها قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾. والشهادة بمعنى الحضور، أي ليكون لكم حضور في ساحة العالم، ويكون لكم رأي، وفاعلية، ورقابة على ما يجري في المجتمع البشري كله، فأنتم شهداء على الناس كلهم، وليس على مجتمعكم فقط.
ولا يصل الإنسان فرداً ومجتمعاً إلى هذا الأفق من الاهتمامات الكبرى إلا بثلاثة شروط:
أولاً: الوعي، بأن يعي الإنسان ذاته ويعي ما حوله.
ثانياً: الارتقاء بالمشاعر والاهتمامات الإنسانية، فيتألم لآلام الناس، ويفكر في أوضاعهم، بخلاف الأناني الذي لا يفكر إلا في ذاته، فإنه لا يستطيع أن يخرج إلى أفق الاهتمامات الكبرى.
ثالثاً: الثقة بالذات، بأن يرى الإنسان نفسه قادراً على أن يعمل شيئاً، وأنه كفؤٌ لذلك.
وتعاليم الإسلام تدفع الإنسان بهذا الاتجاه، ولهذا كان المسلم في سالف الزمن يشعر بمسؤولية تجاه مجتمعه كله، انطلاقاً من قول رسول الله : (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، بل على مستوى العالم، ولذلك حين سئل أحد المجاهدين المسلمين ـ وهو ربعي بن عامر ـ في الحرب مع الفرس: (ما جاء بكم؟ قال: الله جاء بنا، وهو بعثنا لنُخْرج مَنْ يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).
بينما نجد في المجتمعات الغربية كيف أن الناس فيها يطمحون للقيام بأدوارٍ عالمية، ويقومون بمساعٍ كونية، فهناك عدد كبير من المؤسسات انطلقت لتعمل على مستوى العالم. فقد عُقدت أخيراً اجتماعات لمجلس التفاهم العالمي، في مدينة الملك عبد الله الاقتصادية في رابغ، ولمدة ثلاثة أيام بدءاً من الأحد 5 جمادى الأولى 1430هـ الموافق 10 مايو 2009م وتم تغطية الحدث في الصحافة، ووسائل الإعلام.
ومجلس التفاهم العالمي، يهدف إلى حشد خبرات وطاقات ومعارف سياسيين بارزين، تولوا مناصب عُليا في بلدانهم، لتقديم توصيات وحلول عملية لصانعي القرار حول المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها العالم. وأنشئ قبل سبعة وعشرين عاماً سنة 1983م. وقد حضر هذه الاجتماعات التي عُقدت في السعودية مئتا شخصية من مختلف أنحاء العالم، لمناقشة أوضاع البشرية وخرجوا بتوصيات وبتقارير حول أوضاع البشرية بشكل عام. كما حظيت هذه الاجتماعات برعاية رسمية، واستقبل الملك الأعضاء المشاركين ومنهم:
السيد جان كريتيان رئيس وزراء كندا الأسبق، وهيلموت شيمدت المستشار الألماني الأسبق ومحمد خاتمي الرئيس الإيراني الأسبق، وياسو فوكودا رئيس وزراء اليابان السابق.
وهذه المؤسسة واحدة من عشرات، أو مئات المؤسسات هناك، ومن بين المؤسسات في تلك المجتمعات أيضاً: نادي مدريد لنشر الديمقراطية في العالم، ويضم عدداً من الشخصيات والمفكرين على مستوى العالم، ولهم اجتماعاتهم المنتظمة من أجل أن ينشروا الوعي الديمقراطي في مختلف أنحاء العالم. وهناك منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات العفو الدولية، وغيرها. وما بالنا نحن لا يكاد الواحد منا يهتم حتى بالحارة التي يعيش فيها؟! فتجد أن أحدنا يعيش في حارةٍ تفتقر إلى العديد من الخدمات، ويعاني فيها الناس من بعض المشكلات، وسكان الحي لا يجدون أنفسهم معنيين بأن ينشؤوا لهم مجلساً لحيِّهم من أجل معالجة مشاكلهم في الحي الذي يعيشون فيه. وأيضاً على المستوى المذهبي نفشل في إيجاد الأطر الجامعة التي تجمعنا.
والعجيب في الأمر أنه في الوقت الذي تستضيف فيه بلادنا إحدى المؤسسات على المستوى العالمي وهي: مجلس التفاهم العالمي.
البيئة التي نعيشها لا تشجع على مثل هذه الاهتمامات، فتفاعل الناس وتجاوبهم مع العمل التطوعي ضعيف جداً. في حين أن المنظّمات الموجودة على مستوى العالم غالباً ما تموَّل من القطاع الخاص: الشركات ورجال الأعمال.
والمتدينون من المجتمع تعودوا على تمويل الأعمال المألوفة: مجلس عزاء أو بناء مسجد أو ما شابه ذلك، أما تمويل منتدى ثقافي، أو جائزة للإبداع، أو تشجيع للأنشطة الفكرية والثقافية في المجتمع، فهذه الجوانب بعدُ لم تدركها أذهان الكثير من الناس.
فتجد أن الناس لا يستطيعون التعاون مع بعضهم إلا حينما تتطابق كل الآراء والخصوصيات، أما حين تختلف المذاهب أو التوجهات ضمن المذهب الواحد، فإن أمر العمل الجمعي يكون في عداد المستحيل.
علينا أن نخجل من أنفسنا كمسلمين، إذ كيف نفشل في تكوين الإطارات التي تهتم بمعالجة مشاكلنا وقضايانا، بينما نجد العالم يعج بالمنظمات والمؤسسات والإطارات التي تهتم بمختلف القضايا على المستوى الإنساني العام. إننا بحاجة إلى ثقافة جديدة، وإصلاح سياسي، حتى يستطيع الناس أن يتحركوا وأن يمارسوا فاعليتهم بحرية ضمن الأنظمة والقوانين، التي تحمي تلك الحريات. كما أننا بحاجة إلى بيئة اجتماعية ثقافية تشجع على مثل هذه التوجهات، وعلى كل منا أن يتحمل مسؤوليته بالمقدار المتاح له.
وكذلك على المستوى المذهبي والوطني علينا أن ننطلق ضمن هذا الأفق الذي يريده لنا الإسلام، كما يقول تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.