الخطاب الجديد وواقع السياسة الأميركية
طبيعة الإنسان أنه يحب ذاته، ويريد لها النفع والمصلحة، ويريد إبعاد الأذى والضرر عنها. لذلك فإنه ينجذب إلى كل من يقدم له منفعة ومصلحة، وينفر ويعادي من يسبب له الضرر والأذى، وقد ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها).
وكذلك على مستوى المجتمعات والأمم، فكل مجتمع من المجتمعات، وكل أمة من الأمم، إذا رأت أن جهة ما تقدم لها خيراً ومنفعة فإنها تحب تلك الجهة وتنشدّ إليها. أما إذا وجدت الأمة أن جهة ما تسيء إليها وتضر بمصالحها فالأمر الطبيعي أن يكون هناك كره وعداء لتلك الجهة.
في الآونة الأخيرة انطلقت بعض الأصوات في الساحة الأميركية من بعض المفكرين والساسة لتطرح تساؤلاً عريضاً بعد أن رأت موجة العداء الصاخبة في العالم الإسلامي ضد الإدارة الأميركية، والسؤال هو: لماذا العرب والمسلمون يكرهون أميركا؟
وعيّنت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق ممثلاً خاصاً من أجل تحسين سمعة أميركا في العالم العربي والإسلامي، لأنهم رأوا أن هناك عداءً ونفوراً كبيراً في أوساط العرب والمسلمين تجاه أميركا. وبالأمس جاء الرئيس الأميركي الجديد أوباما وألقى خطاباً في القاهرة للتصالح مع العالم العربي والإسلامي. وبالفعل كانت في خطابه نقاط إيجابية وهو يعكس نوعاً ما لغة جديدة تختلف عن لغة الغطرسة السابقة، إلا أنه في خطابه ركّز على وجود الإرهاب والعنف.
وهذه مغالطة واضحة، فنحن نُدين الإرهاب والعنف ولا نقبله، والسؤال الذي نطرحه: كيف ومتى انطلق هذا العنف؟ إنه كان ردّ فعل لسياسات العداء التي اعتمدتها الإدارات الأميركية. ولسنا في مورد تبرير هذا العنف والإرهاب وإنما نحن في مورد التحليل والتفسير.
الإدارة الأميركية أوصلت أوساط المسلمين إلى حالة من الإحباط، بسبب مواقفها المستمرة الداعمة للعدوان من قبل الصهاينة، الذين يحتلون أراضي المسلمين، وينتهكون حرماتهم ومقدساتهم، ويسفكون دماءهم كل يوم، وأميركا تدعمهم دعماً صريحاً واضحاً في كل المجالات. ودائماً هي بالمرصاد لقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة التي تدين بعض عدوان إسرائيل، ودائماً تستعمل حق النقض (الفيتو) لإسقاط أي قرار لإدانة إسرائيل مهما كان عدوانها بشعاً وكبيراً، كما رأينا في أحداث غزة الأخيرة. إضافةً إلى احتلال أميركا للعراق، وما أثارته من فوضى، واحتلالها لأفغانستان، ودعمها للحكومات المستبدة في العالم العربي والإسلامي، كل هذه الأمور أثارت الغضب في نفوس المسلمين، ومن الطبيعي أن تكون هناك كراهة لأميركا.
والآن هل يكفي أن يأتي الرئيس الأميركي ويلقي خطاباً فيه نبرة تصالحية؟!
هنا لا بد أن نثير نقاطاً:
الأولى: هذه اللغة الجديدة ما كانت لتصدر عن الإدارة الأميركية لولا وجود المقاومة والممانعة في أوساط الأمة، فهي التي جعلت الإدارة الأميركية تعيد النظر في مواقفها.
إن مجيء هذا الرئيس وخطابه إنما هو تعبير عن توجه وشعور داخل أميركا، وفي مؤسساتها السياسية والفكرية، بضـرورة إعادة النظر في مواقف أميركا تجاه قضايا العرب والمسلمين، وهذا لم يحصل إلا بوجود المقاومة والممانعة. وإلا لو كانت الأرض منبسطة أمامهم ولو لم تتحرك الشعوب ضدهم، لما وجدوا داعياً لتغيير تلك اللغة و لإعادة النظر في تلك المواقف.
الثانية: وعي الشعوب تجاوز محاولات الخديعة والتضليل، فما عادت الشعوب تخدع بخطابات تصالحية وبكلمات وجمل برّاقة.
الشعوب تنتظر تغييراً في السياسة الأميركية وتنتظر فعلاً على الأرض، وليس قولاً في خطاب. ماذا يفيدنا أن يقول الرئيس الأميركي خطاباً وديّاً تجاهنا، ولكنه يعطي لإسرائيل الصواريخ والأسلحة الفتاكة التي تفتك بأبنائنا وشعوبنا، ويعطي لإسرائيل المواقف الداعمة لها في مجلس الأمن والأمم المتحدة، ويعطي لإسرائيل ما تحتاج من الدعم المالي والاقتصادي. ما عادت شعوبنا تقبل مثل هذه الأساليب وهذه الخدع.
إن المطلوب هو تغيير السياسات على الأرض، وتغيير هذا الموقف المنحاز للظلم والعدوان الصهيوني على العرب والفلسطينيين.
الثالثة: علينا أن نسعى لتكامل المواقف، فمن يسمون بقوى الاعتدال، عليهم أن يعرفوا أنهم بحاجة إلى قوى الضغط والمقاومة.
الصهاينة مع كل دعم أميركا لهم يضغطون على الإدارة الأميركية، وتنطلق مظاهراتهم أمام القنصلية الأميركية في القدس ضد الإدارة الأميركية، هؤلاء الذين يجدون كل شيء من أميركا يمارسون الضغط، ونحن الذين نتلقى كل الإساءات من أميركا مطلوب منا أن نرفع الرايات البيضاء؟
ينبغي أن تتكامل المواقف، فما دامت لنا حقوق ينبغي أن تكون هناك مقاومة. وأخطر شيء على الأمة أن ينخدع بعض العرب والمسلمين، وينجرّوا إلى الصـراع والصدام الداخلي لكي يحارب بعضنا بعضاً. فإذا كانت أميركا وإسرائيل لهما مصلحة في مواجهة البرامج النووية الإيرانية، فهل لنا نحن العرب مصلحة في ذلك؟ ولمصلحة من تبقى إسرائيل متفردة بالقوة النووية في المنطقة؟ وإذا كانت أميركا وإسرائيل منزعجة من مواقف المقاومة في لبنان وفلسطين، فلماذا نحن أيضا نشعر بالانزعاج منها؟
هذا التفكير الذي ينظر إلى المسائل بعينٍ واحدة هو خطأ كبير. فلا بد وأن تتكامل المواقف والأدوار، فقوى الاعتدال لن تحصل على شيء إذا لم يكن هناك مقاومة وممانعة. والدليل على ذلك مسيرة العقود الماضية، فقد مضى أكثر من ستين سنة ونحن نعيش في ظل الشعارات وصدور القرارات من المنظمات الدولية ولكن لم نجن شيئاً.
ينبغي أن تكون ثقتنا بالله سبحانه وتعالى، وأن يكون اعتمادنا على قوانا الذاتية، وليس على رحمةٍ قد تحل في قلب هذا الرئيس أو ذاك، وإنما يجب أن نتجه إلى داخلنا ونرتب أمورنا كأمة كبيرة مترامية الأطراف تستطيع أن تنتصف لنفسها وأن تنتزع حقوقها بمختلف الأساليب والوسائل المشروعة.