الشيخ الصفار في حوار مع قناة العالم الفضائية (الجزء الأول)
الجزء الأول: 15 رمضان 1429هـ
مقدم البرنامج: فؤاد عباس الخرسا
مقدم البرنامج: السلام عليكم.. في القطيف، وفي عمر مبكر كانت البداية، وكانت الانطلاقة، لينتقل بعدها إلى الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ثم الحوزة في قم، ثم حوزة الرسول الأعظم في الكويت، والسيدة زينب في دمشق، ومنها يعود إلى القطيف مجدِّدًا مسيرة الفكر والدعوة.
صاحب أكثر من تسعين كتابًا وكتيبًا ومؤلَّفًا، تنوعت بين: «التعددية والحرية في الإسلام»، و: «التسامح وثقافة الاختلاف»، و: «المذهب والوطن»، و: «الأحادية الفكرية في الساحة الدينية».
إنه حامل رسالة الوعي، ورسالة الحركة التي لا تهدأ في سبيل وحدة الإسلام، والوحدة الإسلامية، والتقريب بين المذاهب، إنه العالم والمفكر السعودي المقدَّر من قبل المراجع الدينية في بلده، وفي العالم الإسلامي، اسمحوا لي أن أرحب بسماحة الشيخ حسن الصفار، ضيف «مراجعات» لهذه الليلة:
أهلًا وسهلًا سماحة الشيخ.
الشيخ الصفار: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: نرحب بكم في هذه الحلقة من مراجعات، طبعًا المراجعات معكم ستكون غنية، وقد لا تكفيها ساعة أو ساعتان، لكن سنحاول أن نتوقف عند المحطّات البارزة، وبالخصوص المحطات الفكرية منها والدعوية، لاسيما فترة الانطلاق وتكوين الشخصية.
قبل أن أبدأ الحوار معكم ونغوص في المراجعات، اسمح لي أن أتوقّف مع هذا التقرير، الذي يلقي الضوء على شخصيتكم و نبذة عن حياتكم.
التقرير: ولد الشيخ حسن الصفار عام 1377ﻫ، الموافق لعام 1958م، في مدينة القطيف، من المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية، تعلّم القرآن الكريم في الكتاتيب الأهلية في القطيف، ثم درس المرحلتين الابتدائية والمتوسطة في المدينة نفسها، وقد كانت بدايته الحوزوية في مدينة القطيف، ثم هاجر إلى النجف الأشرف في العراق عام 1971م، حيث شكلت حوزتها العلمية منعطفًا في مسيرته العلمية، وهناك تعرف إلى كبار المراجع، كالسيد أبو القاسم الخوئي (ره)، والإمام الخميني (ره)، وأعجب بفكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر (ره)، وغيرهم من العلماء، غادر الحوزة العلمية في النجف الأشرف، إلى بلدته القطيف للمشاركة في إحياء ذكرى عاشوراء، وقرّر عدم العودة إلى النجف، وذلك إثر الاعتقالات التي طالت العديد من طلاب الحوزات العلمية في العراق بتهمة الانخراط بالعمل السياسي هناك.
يمَّم وجهه ـ بعد ذلك ـ شطر حوزة قم المقدسة، وهناك تعرف أكثر إلى تلاميذ الشهيد الصدر وعلماء قم، وقد أضافت هذه المرحلة إلى وعيه السياسي الكثير من الرصيد، الذي لازمه فيما بعد عندما قرّر الدخول في معترك السياسة والتغيير الاجتماعي.
في عام 1973م، التحق بحوزة الرسول الأعظم في الكويت، وقد فتحت له آفاقًا جديدةً في مسألة المناهج الإسلامية، والثقافة المرتبطة بالواقع، فشرع يؤسس للأفكار التي عُر ف بها فيما بعد، وإثر هذا الاحتكاك في حوزة الرسول الأعظم في الكويت قرّر الشيخ حسن الصفار العودة إلى مسقط رأسه القطيف، بزاد فكري وثقافي وعلمي أهَّلَهُ لأن يقوم بأدوار بالغة الأهمية في تلك المرحلة.
المقدم: سماحة الشيخ، عودة إلى البدايات والانطلاقة الأولى: القطيف، في تلك المرحلة التي نحاول أن نرجع معك فيها إلى الماضي، كان هناك المدرسة الأخبارية والمدرسة الأصولية، الأولى: تقوم على حديث الأئمة دون إعمال العقل إلى حدٍّ مّا، بينما الثانية: تقرّ مبدأ الاجتهاد، سماحتكم اخترتم الثانية وآمنتم بها في الفكر الشيعي الذي مارستموه لاحقًا من خلال الدعوة ومؤلفاتكم وكتبكم، لماذا كان هذا الخيار؟ لأبدأ من هذه النقطة.
الشيخ الصفار: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين.
في البداية أُسجل تقديري لهذا البرنامج المفيد، برنامج «مراجعات»؛ لأنه يسلِّط الأضواء على تجارب نحتاجها ويحتاجها هذا الجيل، وستكون ثروةً للأجيال القادمة، أرجو أن يكون هذا البرنامج مفيدًا وثريًا دائمًا، وذلك باختياراتكم الموفَّقة للشخصيات التي تتحاورون معها، وبالمحاور التي تطرحونها في اللقاء معهم.
المقدم: نشكركم على هذا التقييم على كل حال.
الشيخ الصفار: المدرستان الأخبارية والأصولية مدرستان تختلفان في أدوات وآليات الاستنباط للأحكام الشرعية.
فالمدرسة الإخبارية: ترى الاكتفاء بعنصرَي الكتاب والسنة، ولا ترى للإجماع والعقل دورًا أساسًا في استنباط الأحكام الشرعية.
بينما المدرسة الأصولية: أضافت عنصرين آخرَين، هما: الإجماع والعقل إلى جانب الكتاب والسنة في استنباط الأحكام الشرعية.
وقد كانت المدرسة الأخبارية هي المدرسة السائدة سابقًا في العالم الشيعي، ولكن في القرون الأخيرة بدأت المدرسة الأصولية تكون هي الغالبة. وقد خاضت كلٌّ من هاتين المدرستين معارك وصراعات علمية طويلة، كانت الغلبة فيها للاتجاه الأصولي، ومما يؤسف له أنْ تحوّل الصراع في بعض الأحيان إلى صراع اجتماعي، ولّد فرقة بين أتباع الاتجاهين، وما كان مفترضًا هو أن تقتصر حالة التجاذبات والصراعات على الحوار العلمي فقط.
وينبغي أن نشير إلى أن هناك بعض التطرُّف في كلا المدرستين، كما أن هناك الشيء الكثير من الاعتدال، فمن يقرأ الشيخ يوسف البحراني (ره) في الحدائق الناضرة ـ رغم أنه من المدرسة الأخبارية ـ يجد لديه الكثير من الإنصاف والاعتدال، وهو يعد مدرسة أخبارية معتدلة في مجال الخلاف بين هذين العنصرين.
وحينما نعود إلى منطقة القطيف، نجد أننا ما كنّا نعيش فيها صراعًا بذلك المعنى؛ لأن الصراع إنما يحصل حينما تكون هناك حالة علمية فقهية حوزوية، بمعنى أن يكون هناك فقهاء ضمن هذه المدرسة وفقهاء ضمن تلك المدرسة، فيخلق جوًّا من النقاش والحوار، يحتدم الصراع تارة، ويخفّ أخرى، فيكون هناك صراع بين المدرستين.
وما كان موجودًا في منطقة القطيف ـ في الغالب ـ هو وجود أتباع للمدرستين فقط، إذ يوجد فقهاء من الجانبين، ولكن لم تحصل في ساحة المنطقة ما يمكن أن نُعبّر عنه بأنه صراع بين المدرستين. نعم، كانت تحصل بعض الخلافات البسيطة بين الأتباع، أما العلماء فكانت علاقتهم ضمن المستوى والحوار العلميَّيْن.
المقدم: فقط للتوضيح سماحة الشيخ، تريد أن تقول بهذا المعنى أنَّه ما مِن إشكال علمي تفسيري اجتهادي بين المدرستين، إنما الأمر كان يحصل بين الأتباع. لكني إلى الآن لم أعرف تمامًا إلى أي مدرسه انتميتم، فقد تحدثْتَ بشكل عام؟
الشيخ الصفار: حينما نشأتُ في المنطقة كانت الأمور فيها قد استقرّت ـ أو كادت أن تستقر ـ لسيادة الاتجاه الأصولي، والاتجاه الأخباري كان اتجاهًا محدودًا قياسًا إلى عدد العلماء المنتميين له، وكذلك الأتباع المنتمين لهذا الاتجاه.
أما المدرسة التي كنتُ أنتمي إليها، فقد كنتُ ضمن المدرسة الأصولية، لكن هذا ـ في الأصل ـ لم يأتِ نتيجة اختيار، فكما تعلمون أنَّ غالب الناس تكون انتماءاتهم الدينية والمذهبية والمدرسية ـ ضمن المذهب الواحد ـ تبعًا لأسرهم وللبيئة العائلية التي ينشأون فيها. فالأسرة التي نشأتُ فيها كانت ضمن المدرسة الأصولية، فمن الطبيعي أن أجد نفسي ضمن هذه المدرسة. ولكنِّي بعد أن اتجهت للدراسة الدينية وبدأت أطَّلع على معالم المدرستين (الأخبارية والأصولية)، تأكَّدَتْ عندي القناعة بهذا المنهج في ذلك الوقت، كما تَأَكَّدَتْ لديَّ القناعة بأن المدرسة الأخبارية حصل فيها تطوير وتغيير، فما عادت بالصورة السابقة نفسها التي كانت عليها قبل قرنين، وبخاصّة مع وجود علماء وفقهاء مثل الشيخ محمد أمين زين الدين (ره) في النجف الأشرف، حيث يُعَدُّ ضمن المدرسة الأخبارية، ولكن علاقته مع المدرسة الأصولية وتداخله مع وسطها العلمي كان عاليًا وكبيرًا، مما جَسّر هذه العلاقة وأنهى أي كلام عن الخلاف أو النزاع.
المقدم: سماحة الشيخ، بعد هذه المقدمة الغنيّة، التي أعطتنا فكرةً عن وجود هاتين المدرستين وتفسيرك لمضمونهما والخلاصة التي وصلت إليها، فَلْأَدخل هنا في الأجواء والمحيط، فعندما بدأتَ بدراسة كتاب «قطر الندى وبلّ الصدى» وكتاب «شرائع الإسلام» كانت المدارس الحوزوية في القطيف ـ ونتحدث هنا بصراحة ـ محاصرة، والتعامل الرسمي معها كان حسّاسًا للغاية.
أولًا: كيف تجاوزتم هذه الحالة والحصار من جهة، والإصرار على التعليم من جهة أخرى؟، لنتعرفْ إلى هذا الجانب على الأقل.
الشيخ الصفار: التعليم الديني في القطيف كان محدودًا، ولم يكن مُتَمَظْهِرًا على شكل حوزات علمية، أي إنه ـ في المرحلة التي نشأتُ فيها ـ كان كل عالم من العلماء يجد له مُتّسعًا من الوقت وتكون عنده إمكانية للتدريس، يلتفّ حوله بعض الراغبين في دراسة العلوم الدينية، ولم يكن هؤلاء ـ وقتذاك ـ يشكّلون ظاهرة وحالة منتشرة، إذ كان الذين يدرسون العلوم الحوزية في محافظة القطيف عددًا قليلاً، لا يتجاوزون ثلاثين أو أربعين شخصًا، وكان كل عالم من هؤلاء له أربعة أو خمسة من الشباب الذين يستفيدون منه ويدرسون على يديه، ومن ثَمّ لم يكن هناك مظهر يتأثر بالضغوط التي يمكن أن تمارس ضدّه، بالإضافة إلى أنَّ تلك المرحلة لم تكن الحالةُ المذهبية مَعْرَضًا للضغوط السياسية بهذا الشكل الذي رأيناه فيما بعد، فقد كانت الحالة هادئة، ولم يكن هناك ما يلفت النظر أو التحسُّس لأي مشكلة ظاهرة واضحة، لم نكن نجد مشكلة فيما يرتبط بمسألة الدراسة الدينية في القطيف.
المقدم [مقاطعًا]: ولكن قيل إن هذه الحسينيات أو الحوزات ـ على قِلَّة عددها ـ إلا أنها كانت محاطة إلى حدٍّ مّا بالرقابة أو بالمتابعة، وإن لم تكن الحساسية بالشكل الذي يفهمه البعض الآن. ولكنّي أريد أن أتحدث عن هذه النقطة سماحة الشيخ، بصراحتك ـ مع أنك محسوب على الاعتدال، ونحاول أن نطرح الموضوع معك من أكثر من زاوية ـ: قيل إن الظهور بالعنوان الشيعي تلك المرحلة كان ـ إلى حدٍّ مّا ـ محظوراً، بحيث تعرّض العديد من العلماء للاعتقال لمجرّد ثبوت تلقّيهم للعلوم الدينية. وإذا ما تجاوزنا فكرة الاعتقال، هل أثّرت هذه الأجواء فيكم؟ وهل دعْوَتُكم ـ لاحقًا ـ لفتح حوار بين السنة والشيعة ساهمت فيها هذه المناخات؟
الشيخ الصفار: يمكنني أن أقسّم الوضع ـ على المستوى المذهبي في منطقة القطيف والأحساء ـ إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: التي عايشتُها قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ففي هذه المرحلة لم تكن هناك مشاكل كبيرة واضحة، وهذا يعود لسببين:
السبب الأول: إن الشيعة كانوا في حالة ركود وسبات، وكان نشاطهم متواضعًا وتقليديًّا؛ يصلّون في المساجد، ويقيمون في حسينياتهم مراسم العزاء في المناسبات، ولم تكن هناك مظاهر صارخة أو واضحة للنشاط والفاعلية الدينية.
السبب الآخر: أن الحكومة لم تكن تلحظ في الحالة الشيعية شيئًا يسبِّب القلق الأمني؛ لأن الأمور لم تكن مُسَيَّسَة، لهذا لم تكن هناك ضغوط واضحة على النشاط الديني، الذي كان ـ في غالبه ـ يمثّل حالة من البساطة.
المقدم [مقاطعًا]: حتى مسألة الحساسية المذهبية ـ برأيكم ـ لم تكن قائمة في هذه المرحلة بالتحديد؟
الشيخ الصفار: كان الناس يشعرون بأنهم لا يعيشون متساوين مع بقية المواطنين فيما يرتبط بفرص الوظائف العليا، وكذلك فيما يرتبط بتنمية منطقتهم اقتصاديًّا، كانوا يجدون أنَّ منطقتهم تحتاج إلى كثير من الخدمات، و إلى كثير من العمران، وبالإضافة إلى هذين الأمرين كان هناك ـ أيضًا ـ حظر ثقافي، فالكتب الشيعية لم يكن مسموحاً لها أن تدخل أو أن تُتَدَاوَل.
المقدم [مقاطعًا]: هذا من الممنوعات؟
الشيخ الصفار: كان هذا في السابق، وفي المجال الإعلامي، لم يكن هناك أي فرصة لأحد من الشيعة ـ وبخاصة على المستوى الديني ـ أن يكون له بروز وظهور إعلامي، ولم يكن هناك من يطمح لذلك.
كانت الحالة هادئة في تلك المرحلة، وكانت هناك بعض المشاكل السياسية، ولكن ليس ضمن الحالة المذهبية، وإنما كانت هناك حركات وطنية يسارية انخرط فيها بعض من أبناء الشيعة، فالواقع الذي كانوا يعيشونه كان يدفعهم للبحث عن اتجاهات ثوريّة وحركيّة، وفي تلك الحقبة كانت المرحلة الناصرية في الوطن العربي، وكانت الأحزاب تعمل، مثل: حزب البعث في العراق وسورية، والحزب الشيوعي في اليمن الجنوبي، فتفاعل بعض أبناء الشيعة في المنطقة الشرقية مع هذه الأطروحات، وانتظموا ضمن هذه الحركات، بل أصبحوا نشطين وفاعلين فيها سياسيًّا، فحينما تفتَّحَتْ مداركي آنذاك شعرتُ بأن هناك معركة سياسية، كانت الدولة تعتقل بعض هؤلاء، وكانت الأسر تعيش حالة من التوجس وبخاصّة في السنوات: 1967، 1968، 1969م، التي كنّا نعيش فيها ضغوطًا على الأطراف المنتمية للتوجهات اليسارية والوطنية، كانت الحالة الدينية بمنأى عنها، فلم يكن هناك أي نوع من الصدام بينها وبين أجهزة الدولة.
المقدم: إذًا أنتم تفصِلون بين المعترك السياسي والمعترك الديني والمذهبي؟
الشيخ الصفار: هذا قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، أما بعد انتصار الثورة، فكانت مرحلة أخرى.
المقدم: قبل الوصول إلى انتصار الثورة، وكيف تمّ التعامل معها في القطيف، نريد أن نبقى في الأحساء والقطيف، فعندما كنتم تدرسون الدراسة الحوزوية، تحوّلت القطيف إلى حاضرة علمية وبالخصوص بعد عودة العديد من القطيفيين الذين درسوا في النجف الأشرف، وأثّروا لاحقًا في الحركة العلمية.
بمن تأثرت في تلك المرحلة طالما نتحدث عن التكوين، سماحة الشيخ؟
الشيخ الصفار: نعم، في تلك المرحلة لم تكن هناك حالة علمية حوزوية في القطيف، وإنما في مرحلة أسبق، حيث كان يطلق على القطيف ـ في بعض الأحيان ـ النجف الصغرى، لأن فيها عددًا من الفقهاء والمجتهدين وبحوث الخارج، بينما في المرحلة التي بدأتُ فيها دراستي، كانت مرحلة جفاف وأفول للحالة العلمية داخل القطيف والأحساء، فما تتحدثون عنه من نشاط علمي وحوزوي هو ما نعيشه الآن هذه الأيام. في فترة وجودي في القطيف تأثرت بعدد من العلماء، واستفدت منهم، وكان في طليعتهم الشيخ فرج العمران، والشيخ عبد الحميد الخطي. الشيخ فرج العمران كان عالم القطيف الأول على المستوى الشعبي والاجتماعي، توفي سنة 1398ﻫ = 1978م، كان قريبًا من الناس ومحبوبًا عندهم، وكان يبسّط المسائل الشرعية بما يتناسب مع فهم الناس، وعمل كثيرًا على نشر الحالة الدينية، عبر اهتمامه بإقامة صلاة الجماعة في مختلف القرى، لدرجة أن بعض القرى التي لم يكن فيها علماء يقيمون صلاة الجماعة، كان (ره) يذهب بنفسه في كل سنة إلى هذه القرى ويبقى في كل قرية عدة أيام ليقيم بينهم ويؤمّهم في صلاة الجماعة، فكانت له جولات سنوية على مختلف المناطق، شجّع الناس فيها على دفع الخمس والحقوق الشرعية، كما شجعهم على إقامة المناسبات الدينية، كإحياء ليلة القدر وأمثالها.
هذا العالم تأثرتُ به كثيرًا، فكنت ـ وأنا ادرس في الصف الرابع الابتدائي أي في التاسعة من عمري ـ في العطلة الصيفية أذهب صباحًا إلى مجلسه وأقوم بالخدمة في المجلس، فأقدم الماء والقهوة للحاضرين في مجلسه، وكنت أستفيد مما يطرح من المسائل الفقهية في إجابته للسائلين.
وقد امتاز هذا الشيخ بأنه اهتمّ بكتابة مذكراته، فكان يسجّل أي حادثة أو أمر يحدث له، فيكتب عن سفراته وعمّن يزوره ومن يلتقي معه، ويكتب عن الرسائل التي تأتي إليه والأسئلة التي توجه له، وعمل من ذلك موسوعة تحت عنوان: «الأزهار الأرجيّة في الآثار الفرجيّة»، طبع منها خمسة عشر جزءًا، وقد قرأتُ هذا الكتاب أكثر من مرة وتأثرت به كثيرًا؛ لأنه كان مدخلاً لأتعرّف ـ عن طريقه ـ إلى الحالة الدينية في العالم الشيعي بشكل عام. كما أنني استفدت من الشيخ في أسلوب تعامله مع الناس، وفي تواضعه وإقباله عليهم، واستمرّ حضوري لمجلسه العامر سنتين أو ثلاث سنوات تقريبًا، فكنت أواظب على حضور مجلسه أثناء العُطَل الصيفية، فتأثرت به كثيرًا، وكان هو أول عالم ديني تأثرت به في حياتي شخصيًّا (ره).
المقدم: هل تأثُّرك ـ سماحة الشيخ ـ ذهب باتجاه محدّد، إذ من الطبيعي أن تتأثّر بالطريقة التي كان يدرس فيها أو بطريقة إجابته أو بالدرجة العلمية التي وصل إليها، (الاجتهاد مثلاً)، هل كان هناك جانب محدّد اعتبرته جانبًا يجب أن يكون شيئًا من شخصيتك الدعوية اللاحقة وتوقفت عنده وتعمّقت فيه؟
الشيخ الصفار: أهم جانب استفدته من الشيخ هو تعريفي بالوسط الديني، وتشجّعت من خلاله على الانخراط فيه، إذ قدَّم لي صورًا وانطباعاتٍ جاهزة عن المراجع والعلماء وخطباء المنابر وعموم الشخصيات الدينية، لقد تعرفت إلى الفقه من خلال دروسه.
المقدم: سأكتفي في هذه المرحلة القطيفية إن جاز التعبير سماحة الشيخ، لننتقل بعدها إلى النجف الأشرف، وإلى الشخصية المتقدّمة التي تكوّنت، سأعود إليها ولكن بعد التوقف عند فاصل قصير.
[فاصل إعلاني]
المقدم: أعود إليكم مشاهدينا لمتابعة هذه الحلقة من مراجعات مع سماحة الشيخ حسن الصفار. سماحة الشيخ، توقفنا قبل الفاصل عند تأثرك بعالِمين في القطيف هما: الشيخ فرج العمران، والشيخ عبد الحميد الخطي، ربما كان هناك علماء آخرون تريد أن تذكرهم في هذا السياق قبل أن نتحول معك إلى النجف الأشرف والمرحلة الجديدة التي فتحت في طريقك العلمي والدعوي.
الشيخ الصفار: من العلماء الذي تأثرتُ بهم في القطيف الشيخ علي المرهون، وكان عالم المحلّة التي كنا نقطنها في منطقة الدبّابيّة، ومسجدهُ قريب من بيتنا، فكنت أحضر صلاة الجماعة معه وأذهب مع والدي (ره) إلى مجلسه، وكان له مجلس خطابي في ليالي شهر رمضان المبارك في حسينية (ميّاس)، في مجلسه تعرفت إلى معارف الدين؛ لأنّه كان يخصِّص كل ليلة لبحث موضوعٍ عقيديّ، يبدأ بالأصول الخمسة كما هي في المذهب الشيعي: التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد. وفي كل ليلة يتناول واحدة من هذه الأصول بلغة واضحة وميسّرة ومقنعة، بعد ذلك ينتقل إلى فروع الدين، فيخصّص ليلة عن الصلاة وأخرى عن الصوم، وثالثة عن الزكاة، وهكذا بقية فروع الدين، فاستفدت من مجلسه في التعرف إلى المعالم والمعارف الدينية، كما استفدت أيضًا من أخلاقه، وتواضعه، وتعامله مع الناس.
المقدم: هذا الأمر ميّزه عن غيره من العلماء سماحة الشيخ، وبخاصّة اللّذَين ذكرتهما على الأقل؟
الشيخ الصفار: لم يكونا خطيبين (الشيخ فرج العمران والشيخ عبد الحميد الخطي)، بينما هذا العالم (الشيخ علي المرهون) كان خطيبًا، والخطابة كانت تعطيه فرصة أن يقدم هذه المعارف بطريقته الشعبية الجماهيرية المقبولة والمقنعة.
كما أنني تأثرت ببعض الخطباء في مجال سلوكي طريق الخطابة، ومن أبرز الخطباء الذين تأثرت بهم في القطيف: الشيخ الخطيب عبد الحميد المرهون، فقد كان خطيبًا لامعًا في المنطقة، وكنت أرتاح لأسلوبه في طرحه للقضايا التاريخية والاجتماعية، بل كنت أتقمّص طريقته في الطرح، فأحفظ الكثير من الموضوعات التي يطرحها وأقلّده في طرحها، ومن الخطباء الذين تأثّرتُ بهم أيضًا الشيخ سعيد أبو المكارم، إذ كنت أتردّد على مكتبته العامرة، لأنه يملك مكتبة تُعَدُّ من أكبر المكتبات الخاصّة في منطقة القطيف ببلدة العوامية، وكذلك الخطيب السيد هاشم المير الصفواني، هؤلاء عدد من الخطباء الذين تأثرت بهم في بلدي القطيف.
المقدم: سماحة الشيخ، كما نتحدث عن مرحلة البداية، يهمّنا أيضًا الحديث عن مرحلة التتمّة، إذ من المهم الحديث عن أولئك الذين تأثرت بهم ليس فقط في البدايات إنما استمر تأثرك بهم سواء على مستوى مدرستهم الدينية أو على مستوى الخطابة، فعندما ذهبْتَ إلى النجف الأشرف لا بدّ أنها كانت محطّة مهمّة في حياتك، فالنجف كانت تعيش مرحلة علمائية متقدِّمة إذا جاز القول، حيث سماحة السيد محسن الحكيم (ره)، والسيد أبو القاسم الخوئي (ره)، والسيد محمد باقر الصدر (ره).. ماذا أضاف هؤلاء السادة العلماء لشخصيتكم؟
الشيخ الصفار: ذهبت إلى النجف الأشرف بعد وفاة الإمام السيد محسن الحكيم (ره)، وكانت قد بدأت زعامة ومرجعية المرجع السيد أبو القاسم الخوئي، وكنتُ وقتها في الرابعة عشر من العمر، وكان هناك مجموعة من الطلاب والفضلاء من القطيف والأحساء الذين كانت أكثر علاقاتي في وسطهم الطلابي، ولكنني كنت أتردّد وأحضر بعض مجالس العلماء والفقهاء وأستفيد مما يطرح في تلك المجالس، فمما هو معلوم أن طالب العلم حينما يأتي إلى الحوزة العلمية، يبدأ بدراسة المقدّمات، ويحتاج إلى فترة من الزمن حتى يصل إلى مستوى البحث الخارج ويحضر عند الفقهاء المراجع، لكن للمراجع والفقهاء مجالس مفتوحة، بعضها يومية، وبعضها الآخر مجالس أسبوعية، ويكون هناك مجال لطلاب العلم أن يأتوا إلى هذه المجالس ليلتقوا مع المراجع بشكل مباشر ويسألوهم ويستفيدوا من كلامهم، ولكني حينما كنت متواجدًا في الحوزة النجفية استفدت من الوسط القطيفي والإحسائي الموجود في النجف بالدرجة الأولى.
المقدم [مقاطعًا]: لكن المراجع الذي ذكرناهم سماحة الشيخ..
الشيخ الصفار: كان السيد الخوئي، وكان السيد الشاهرودي، وكان الشهيد محمد باقر الصدر، وكان عدد من العلماء الكبار والفقهاء الموجودين في الحوزة العلمية، وكنت أحظى بزيارتهم والدخول عليهم، وقد لفت نظري فكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر، فهو ـ كما تعلمون ـ يمتاز عن بقية الفقهاء ـ في عصره ـ بأن لديه أطروحات فكرية معاصرة، فقدّم: «فلسفتنا»، و«اقتصادنا»، و«البنك اللاربوي»، و«الأسس المنطقية للاستقراء»، وهذه الكتب أثارت انتباهي واهتمامي إلى بُعْد آخر غير الثقافة الدينية التقليدية التي جئتُ بها من القطيف، فكان لديّ حرص أن أدرس فكر السيد محمد باقر الصدر منذ ذلك الوقت.
المقدم: في هذه المرحلة ـ سماحة الشيخ ـ نتحدث عن النجف الأشرف في بداية السبعينيات، حيث كان النجف الأشرف يضجُّ بالحركة العلمية، وربما إلى جانبها السياسية أيضًا، وذلك من خلال الموضوعات التي كانت تطرح، ومن خلال كبار المرجعيات ـ الذين أشرت إليهم الآن ـ، وكان هناك بعض الأحزاب الإسلامية الشيعية التي تأسست، حيث كانت السياسة ـ على كل حال ـ منطقة محرّمة, أولًا كيف تعاملت مع هذا المناخ، وأنت الآتي من مدرسة دينية إلى حدٍّ ما محدودة بهذا الشكل، حيث كنتم تشاهدون العديد من رجال الدين يقتادون إلى معاقل السلطة في تلك الحقبة لقيامهم بالشأن السياسي؟
الشيخ الصفار: أودّ هنا أن أشير إلى أن من المشاكل التي يعانيها طلبة العلوم من مختلف المناطق في الحوزات العلمية أنهم يصبحون أُسارى لأبناء مناطقهم، وللمحيط أو للجالية الموجودة هناك، فحينما يذهب طالب العلم من القطيف ـ مثلاً ـ، أو من البحرين أو من الأحساء إلى النجف أو إلى قم، فإنه من الطبيعي أن يكون هناك من سبقه من منطقته، وهم أكبر منه سنًّا، وهؤلاء يصنعون جوًّا معينًا فيما بينهم، بحيث يستوعبون أيّ قادم جديد من منطقتهم، وغالبًا ما يصبح هؤلاء الطلاب محكومين بجوّ الجالية الموجودة هناك, الجالية القطيفية كانت حريصة على الابتعاد عن أي أمرٍ سياسي, وكانو يحذرون الطالب الجديد من الاقتراب إلى ما يرتبط بالسياسة.
المقدم: هل كان ذلك بدافع الخوف من الاضطرار إلى العودة إلى البلد وما يمكن أن تثيره هذه الأمور من نتائج سلبية؟
الشيخ الصفار: كان ذلك خوفًا من تأثيراته عليه في النجف إذا اقترب من السياسيين ومن الجهات السياسية، إذ يمكن أن يعتقل، بفعل السلطة الحاكمة في العراق آنذاك، حيث كانت تراقب النشاط الطلابي، فمن كان منهم متصلًا بالجهات السياسية ـ مثل حركة الشهيد السيد محمد باقر الصدر ـ، أو مقترباً من حزب الدعوة، كانت تسلط عليه الأضواء.
المقدم: هل اعتقل الكثير من الطلبة؟
الشيخ الصفار: اعتقل عدد من الطلبة اللبنانيين وعدد من القطيفيين من وسط البيئة العلمية القطيفية في النجف الأشرف، ولذلك كنتُ كأيّ طالب قادم إلى النجف آخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، فما كنت أقترب من الأجواء السياسيّة.
وهنا أودّ الإشارة إلى أمرين مهمّين، هما:
الأمر الأول: أنّ أحد الطلاب القطيفيين ـ وهو الشيخ عبد الجليل بن مرهون الماء، من جزيرة تاروت، وكان قد سبقنا إلى النجف، وله اهتمام أدبي، وقد توفي (ره) مؤخّرًا ـ كان منفتحًا على حركة الإمام الخميني أيامَ تواجده (قده) في النجف، في الوقت الذي كُنَّا نُحذَّر من الذهاب إلى بيته باعتبار الأجواء السياسية السائدة وقتها، إذ من الممكن أن تتسبّب هذه الزيارات في إحداث بعض المشاكل.
المقدم: تُحذَّرون مِنْ قِبَلِ مَنْ؟
الشيخ الصفار: من قِبَل بيئتنا القطيفية، في هذا الوقت كان الشيخ عبد الجليل الماء يتواصل مع بيت الإمام الخميني (ره) في النجف، فكان يأتي لنا ببعض الكتيبات وبعض البيانات، وأتذكر أنني اطّلعتُ على كتاب الحكومة الإسلامية للإمام الخميني ـ وكان يطبع على شكل أجزاء (في خمسة أجزاء) ـ عن طريقه.
وقد لفتت نظري هذه الأطروحات التي قرأتها في كتاب الإمام الخميني، ما دفعني أن أطلب منه أن يأخذني معه إلى بيت الإمام، وكان ذلك أول لقاء تعرفت به إلى الإمام الخميني، وكنت وقتها في بداية توجهي الدراسي، وقد كان ذلك في بيته في النجف الأشرف، وأنا تعرفت والتقيت مع الإمام، ولكني كنت كأي طالب من الطلبة الذين يأتون إلى مجلسه ويستفيدون من وجوده (ره)، ومن هذه اللحظة بدأت أنتبه إلى شيء آخر وبعد آخر في الحوزة النجفية، وهو أن هناك من الفقهاء من يتبنون اهتمامات غير تلك الاهتمامات التقليدية، ومن أبرزها الاهتمامات السياسية.
أما ما قادني إلى الشهيد الصدر هو طرحه الفكري المتنوّر، ولذلك أقبلتُ على دراسة «فلسفتنا» و«اقتصادنا»، وأنا لم أدرسهما على يد عالم، إنما أخذت الكتابين، وكنت أقرأ فيهما، وطلبتُ من بعض الفضلاء أن يسمحوا لي بأن آتي إليهم كي يشرحوا لي بعض المصطلحات وبعض الأفكار الموجودة في الكتابين التي قد لا تكون واضحة لي بالقدر الكافي.
المقدم: سماحة الشيخ، ربما تجاوزنا ما له علاقة بالملاحقات والاعتقالات التي كانت تحدث للطلبة، وأنت قد أشرتَ إلى هذه النقطة، فذكرتَ أن من بينهم لبنانيين، وعراقيين، وقطيفيين، هل أنتم من خلال التجربة ـ لأن المراجعة هي معكم ـ كنتم تشعرون يومًا مّا أنكم مراقبون من هذه السلطة في بلادكم، وأنكم ـ ربما بعد العودة، بسبب الظروف السياسية في النجف ـ تكونون في دائرة مَن يُحاسب؟ هل كان هذا الشعور يصاحبكم، وأنتم في النجف الأشرف، وبالخصوص أن سلطة البعث في تلك المرحلة هجّرتْ عشرات الآلاف من العراقيين من أصول إيرانية إلى إيران؟ هل كنت تخاف أن يصلك الدور بهذا المعنى؟
الشيخ الصفار: لم أكن أشعر بهذا الهاجس، والسبب في ذلك أنني كنت أنتمي إلى جالية تعيش نوعًا من الاستقرار والحماية، فالسلطات (مخابرات النظام العراقي) كانت تنظر إلى الجالية القطيفية والأحسائية أنها جالية بعيدة عن الاهتمامات السياسية، ولذلك ما كانت الأضواء مسلّطة علينا كجالية، هذا أولًا، وثانيًا: لأني كنت صغيرًا في السن، وما كان لي دور باز أو واضح، وأجهزة المخابرات إنما تتعقب العناصر التي لها بروز ولها فاعلية.
المقدم: لكن لنتحدث عن الطلبة القطيفيين تحديدًا ـ وأنتم منهم ـ، هل كانوا بدائرة المراقبة والمتابعة؟
الشيخ الصفار: آنذاك لم يتميز هذا الأمر في السنتين اللّتين كنت فيهما في النجف، لكن فيما بعد حصلت إشكالية بالفعل، واعتقل بعض الطلبة من الجالية القطيفية، وقد انهاروا تحت التعذيب، وطلب منهم أن يعترفوا أن معهم أشخاصاً آخرين وأنهم على اتصال بالسفارة السعودية، وأن لديهم اهتمامات سياسيّة ضد الحكومة في العراق، وأنهم على صلة مع حزب الدعوة ومع حركة الشهيد الصدر، فبدأتْ حملة اعتقالات في أوساط الطلبة القطيفيين، وكنتُ وقتها متواجدًا في القطيف للمشاركة في موسم عاشوراء وصفر، ووصلتني الأخبار أن هناك اعتقالات في النجف.
المقدم: نجوتَ من الاعتقال، إذ كان من الممكن أن يطولك الأمر لو كنت موجودًا؟
الشيخ الصفار: كان ذلك ممكنًا، ولربما خسرت تجربة كان من الممكن أن يستفاد منها. وبسبب هذه الأحداث عزمتُ مع عدد من الطلاب، ألا نعود بعد شهر صفر لنستأنف دراستنا في النجف، وتوجَّهْنا بدلاً من ذلك إلى إيران، إلى الحوزة العلمية في قم.
المقدم: هنا أدخل معك إلى الانتقال إلى قم، فالنجف يبدو أنها لم تشبع طموحك، فاضطررتم إلى الانتقال إلى الحوزة القمّية؟
الشيخ الصفار: على العكس من ذلك، فأجواء النجف أجواء جاذبة، فمن يعيش فيها لا يسهل عليه أن يخرج منها.
المقدم: توجهتم إلى قم، حيث كانت معالم حوزتها تتشكل على يد السيد البروجردي، أولًا: أنتم تأتون إلى قم من بحر النجف الأشرف، هل شكّلت لكم هذه المحطة تجربة جديدة مختلفة عن تجربة النجف الأشرف، أم هي استكمال لحوزة النجف الأشرف؟ وهل التقيتم في قم مع كبار العلماء؟
الشيخ الصفار: انتقلت إلى قم، وكان هناك جالية قد انتقلت من الطلاب العرب من العراقيين من أصول إيرانية، وكذلك عدد من المشايخ اللبنانيين، وأذكر من الجالية اللبنانية: الشيخ عبد الأمير شمس الدين، والسيد جعفر مرتضى، والشيخ حسين الكوراني، وغيرهم، وبالإضافة إليهم كان هناك بعض طلبة العلم من البحرين محدودي العدد، إضافة إلى المجموعة التي جاءت من القطيف، إذ كنا حوالي خمسة عشر إلى عشرين جئنا من القطيف، وأصبحنا ندرُس في الحوزة العلمية في قم، ولأن بيئة قم كانت بيئة جديدة علينا، وكان هناك فاصل لغوي، فما كنا نعرف اللغة الفارسية إلا بعدما اضطررنا إلى تعلمها.
المقدم [مقاطعًا]: لم تكن إلزامية، لكن حتى تتواصلوا مع الآخرين؟
الشيخ الصفار: نعم، كان تعلُّم الفارسية اختياريًّا، لكني وجدت نفسي محاطًا بالبيئة العربية في قم، وهي البيئة التي كانت ـ أيضًا ـ تفصلني عن التواصل والتفاعل مع المحيط الإيراني والاستفادة منه، وهو ما شعرت به لاحقًا.
وفي قم كانت هناك مؤسسة دينية يديرها السيد شريعتمداري، وهو العالم الذي لم يكن مصنفًا في ذلك الوقت ضمن الخط الحركي والثوري، بل على العكس، إذ كانت له صلات وعلاقة مع نظام الحكم الشاهنشاهي في إيران، لتسيير أمور الحوزة ضمن قناعته، وكان الطلاب اللبنانيون والعراقيون من جذور إيرانية ضمن هذه المؤسسة (دار التبليغ الإسلامي).
المقدم: هل هذا كان يتعارض مع توجهاتك ومبادئك وأنت الذي تعرفت إلى الإمام الخميني (ره) في النجف الأشرف؟
الشيخ الصفار: كنت أتلقى تحذيرًا هناك بألَّا تتكرر المشكلة التي حصلت في النجف، وأن ما يجب أن نتوجّه إليه هو أن نهتم بدراستنا الحوزوية، وألا نختلط بالإيرانيين وبالتيارات والاتجاهات السياسية الموجودة في وسطهم، ولكني ـ حينها ـ كنت منفتحًا على بعض العراقيين الحركيين، إذ كان هناك عراقيون منتمون لمنظمة العمل الإسلامي، أو حركة السيد الشيرازي في كربلاء، وكان لهؤلاء انشداد لحركة الإمام الخميني؛ لأن الإمام الخميني حينما جاء إلى العراق استُقبِلَ في كربلاء من قبل السيد الشيرازي استقبالًا حافلًا، فكان للكربلائيين ـ آنذاك ـ نوع من الانشداد ـ وبخاصة لدى شبابهم ـ إلى حركة الإمام الخميني، وعبر هؤلاء كان لديّ مجال للانفتاح ومتابعة أخبار الحركة القائمة في إيران آنذاك، فكانوا يوصلون لي ويطلعوني على بعض الخطابات الجديدة التي كانت تصدر من الإمام الخميني في النجف، وكانوا يوصلون لي بعض كتب الدكتور علي شريعتي، وبعض كتب الشهيد مطهري، فكنت ـ عبر هذه العلاقة مع هؤلاء الكربلائيين العراقيين ـ أتابع وأواكب حركة الإمام الخميني، لكن في الخفاء، لأنّ الجوّ الذي كنت أعيش فيه ما كان يسمح لي بان أتظاهر بهذا الشيء من الاهتمام والعلاقة.
وفي قم استفدت أيضاً من العلماء الذين هم تلامذة لمدرسة الشهيد الصدر..
المقدم: جيّد، هل كان لديكم مقاربة ـ إذ ربما الظرف وقتها لم يكن كافيًا حتى تجرون هذه المقاربة ـ بين تجربتكم في النجف الأشرف، وبين التجربة التي استجدت في قم؟ هل كنتم تقيمون هذا التوازن بين التجربتين أم أنهما تجربتان مختلفتان؟
الشيخ الصفار: بالنسبة لي كانت التجربة في النجف أثرى من التجربة في قم؛ لأن الأجواء الأدبية والثقافية التي كنت أتفاعل معها في النجف كانت تثري تجربتي وتفيدني، ولكن في قم لم أكن قادرًا على التفاعل مع الأجواء الفارسية الإيرانية، والوجود العربي كان جديدَ التكوُّن، ولكنّي استفدت من تلامذة مدرسة الشهيد الصدر، حيث كانوا متواجدين هناك، مثل: سماحة الشيخ محمد علي التسخيري، والشيخ محمد سعيد النعماني، والشيخ حسين الكوراني، الذين استفدت منهم، فكانوا يدرسون حلقات الشهيد الصدر وكتب وأفكار الشهيد الصدر، وكانت هناك مجلة اسمها مجلة الهادي يكتبون فيها مواضيع فكرية وثقافية، وكنا نتعاون معهم، بل كنْتُ من المبادرين لإقامة احتفالات خاصة بالطلاب العرب في المناسبات الدينية، إذ كنا نقيم احتفالات وتلقى كلمات في المناسبات الدينية، وأثْرَتْني فترة قم بالانفتاح الفكري على توجهات حزب الدعوة وعلى مدرسة السيد الشهيد محمد باقر الصدر.
المقدم: بالطبع ستكون لنا محطة خاصة وموسعة أكثر في قم وتأثركم ثم نختمها بالعودة إلى السعودية إلى القطيف، لكن بعد قم كان لكم زيارة إلى حوزة الرسول الأعظم في الكويت، التي لم يكن فيها حوزة علمية مشهود لها، ولكنكم التقيتم هناك بالسيد محمد الشيرازي، هل هو الذي دفعكم إلى الانضمام إلى منظمة العمل الإسلامي وكان له تأثير في هذا الأمر ومن ثَمّ أطْلَلْتم لاحقًا على انتصار الثورة الإسلامية وكوّنتم فكركم الذي حمل بعض معانيها؟ هل يمكن أن نقول ذلك؟
الشيخ الصفار: ذهبت إلى الكويت خطيبًا، وهناك تعرفت إلى ٍالمدرسة الدينية التي أسسها المرجع السيد محمد الشيرازي، الذي كان قد نزح من كربلاء العراق إلى الكويت وأقام مدرسة دينية هناك، وقد انفتحتُ على هذه المدرسة في البداية كمجرد انفتاح وعلاقة، كما انفتحتُ على بقيه العلماء في الكويت، إذ كان يقيم في الكويت حينها سماحة الشيخ على الكوراني، وكنت أذهب إليه وكان يحضر بعض مجالسي، وكنت أستفيد من أفكاره وتوجيهاته وكان هناك الميرزا حسن الحائري، وهو مرجع المدرسة التي يطلق عليها بالمدرسة الشيخيّة.
المقدم: سماحة الشيخ، المحطة المرتبطة بالكويت تستحق وقفات خاصة، وكذلك العودة إلى القطيف.
أشكركم على هذا اللقاء في جزئه الأول على أن نتابع معكم في جزئه الثاني ما يرتبط بالمراحل اللاحقة التي ذكرناها، على أن نكون في هذا الجزء قد ساهمنا في إبراز أهم محطاتكم.
نشكرك سماحة الشيخ حسن الصفار على هذا اللقاء ونشكر مشاهدينا على متابعته الجزء الأول من مرجعات مع سماحة الشيخ حسن الصفار والى اللقاء.