حق الاجتهاد وشرعية الاختلاف في الرأي
في تاريخ المعرفة الإسلامية هناك صراع قديم، بين المحافظين الذين يتوجسون الخوف والريبة، ويعتريهم القلق، تجاه أيﱢ رأي آخر أو أيﱢ تطوير أو تغيير، وهذا صنف من العلماء ومن المشتغلين في المجال المعرفي في تاريخ الأمة، والصنف الآخر هو: المتحرر من هذه المخاوف، الذي يمارس حقه في الاجتهاد وإبداء الرأي، وإن كان مخالفاً للسائد منافيا للمشهور..
إنه صراع قديم جديد، والكلام الآن حول مسألة الانفتاح والتقارب يسلط الأضواء على هذه المعركة، فمعركة حرية الرأي مظهر من مظاهر الصراع، ذلك أن الاتجاه المحافظ يريد أن يحتكر الشرعية، وكأن ما يقوله ويتبناه هو الأصل وهو الشرع، وأن من يطرحون الرأي الآخر المخالف للسائد، يشكك في دينهم، ويرمون بالابتداع والضلال وما إلى ذلك، هذا صراع قديم، والمسألة فيه لاترتبط بالعمل السياسي، فبعض الناس - كما نقرأ في بعض الكتابات - يثيرون هذا القلق من هذه الدعوات، بأنها دعوات توظف لأغراض سياسية، بينما المسألة واقعة ضمن هذا الصراع بين هذين الاتجاهين، وهي أعمق وأقدم من هذا الأمر، فهناك في تاريخنا الكثير من العلماء كانت لهم اجتهادات مخالفة للرأي السائد، وكان تعدد الاجتهاد - سواء في المسائل العقدية أو المسائل الفقهية أو المسائل التاريخية - أمرا مقبولا، فعلى سبيل المثال، لدى الشيخ الصدوق رحمه الله وهو من مؤسسي العلم والفكر في المذهب الجعفري - كتاب الاعتقادات، جاء بعده تلميذه الشيخ المفيد رحمه الله وكتب ردا في كتاب سماه «تصحيح الاعتقاد»، وخالف الشيخ الصدوق في 43 مسألة كلامية وكتاب مطبوع ومعروف، ولكن هناك بعض الأوساط وبعض العناصر يتسرعون في اتهام من يخالفهم الرأي، بينما تاريخنا حافل بمثل هذه القضايا.
وقد حصل في تاريخنا الكثير من المآسي التي يمكن أن تكون تحت عنوان الإرهاب الفكري. وهو أمر امتد إلى هذا العصر أيضا، إذ نجد مثل هذه الحالات ، فها هو الإمام الخميني رحمه الله كان يتألم في أحد خطاباته مما عاناه - حسب وصفه - من المتقدسين الرجعيين والمتحجرين، فمن شدة ماواجهه منهم الإمام كان يطلق عليهم هذه الصفة، بأنهم رجعيون ومتحجرون وأنهم يتظاهرون بالقداسة، وقد وصل بهم الأمر انهم - بسبب تشجيع الإمام وتدريسه للفلسفة - إلى أن ابنه الشهيد مصطفى الخميني كان عندما يذهب إلى المدرسة الفيضية ويشرب من كأس ماء، لايشرب بقية الطلبة والمشايخ من نفس الكأس، حتى يطهرونه، لأن الذي شرب منه ابن من يدرس الفلسفة في الحوزة، إلى هذا الحد!! وقد استعمل الإمام عبارات قاسية وعنيفة تجاه هذه الحالة وهؤلاء المتقدسين ، يقول في خطاب له لمجلس الشورى:«إن بوسع أحد أن يقف بوجههم، إن الحرارة التي تجرعها أبوكم الشيخ من هؤلاء المتحجرين لم يتجرعها مطلقا من كل الضغوط والصعوبات الأخرى»، أي أن الإمام الخميني يضع ماعاناه من نظام الشاه ومن سياسية أميركا وضغوط الاستكبار العالمي في كفة، وضغوط هؤلاء المتحجرين المتظاهرين بالقداسة في كفة أخرى.
إن ما أريد التنبيه عليه في هذه النقطة، أن هناك تيارين في كل مجتمع فيما يخص الشأن الديني والفكري، وبإمكان كل تيار أو اتجاه أن يطرح رأيه ووجهة نظره،ولكن عليه- في المقابل- أن يسمح للآخرين بطرح رأيهم، وكذلك أن يبدي رأيه فيما يطرح الآخرون، ولكن دون اللجوء إلى أجواء الإرهاب الفكري، فالتشكيك في دين الطرف الآخر، وإخراجه من المذهب، ووصفه بالارتداد والضلال والبدعة وما إلى ذلك، تجاوز للحدود، واستهداف شخصي، وإسقاط لأناس محترمي الشخصية ، ولا يتناسب والحرية الفكرية، وحق المخالفة في الرأي، ولا ينبغي أن يسود في أي مجتمع، فهو حالة سلبية، لاتساعد على تنمية الفكر والمعرفة في هذه المجتمعات وأوساطها.