ملحق الرسالة ينشر أولى المكاشفات مع الشيخ الصفار
نشر ملحق الرسالة بجريدة المدينة أولى المكاشافات مع سماحة الشيخ حسن موسى الصفار، وذلك يوم الجمعة 17 شعبان 1425هـ (1 أكتوبر 2004م)، وذد أجرى الحوار مع سماحته الأستاذ عبد العزيز محمد قاسم.
وهذا نص ما نشره الملحق:
* حديث سمو ولي العهد شكّل لنا إيذاناً بمرحلة جديدة وزادت تطلعات الناس وانتعشت آمالهم
* (التقيّة) إحدى ضحايا الصراع الطائفي وهو مفهوم ديني تنكّر له البعض وهذه أدلتي
* في مراحل نشأتي الأولى لم يكن لدى انفتاح على أي عالم من أهل السنة وثقافتي في حدود البيئة الشيعية فقط
* على رغم دعواتنا للعلماء من أهل السنة لم يزرنا سوى الشيخ صالح الدرويش وكان حضوره حدثاً لمجتمع القطيف.
* بعض المناهج في التعليم تتحدث عن بعض الممارسات الشيعية حديثاً قاسياً ولكن التوجيه في بيئتنا يوضح لنا الأمور بشكل يتناسب مع مذهبنا
* يجب ان يركز التعليم على المشتركات العامة وألا يكون هناك تركيز على التحريض ضد الآخر
---------------------------------------------------------------------------------
أجرى الحوار : عبدالعزيز محمد قاسم
-------------------------------------------------------------------------------------
بعد غياب طويل عن (الرسالة) ها قد عادت (مكاشفات) من جديد لمحبيها ومتابعيها, وهذه المرة بلون مختلف جدا ولرجل معمّم مثير للجدل حتى بين أبناء طائفته. تعمدنا استضافة الشيخ حسن الصفار أحد أقطاب طائفة الشيعة بالمملكة العربية السعودية استجابة منا لدعوات سمو ولي العهد حفظه الله المستمرة ، والتي تحض المجتمع وأفراده وعلماء الأمة على عدم الانغلاق والانفتاح على مختلف المذاهب، وهي الرسالة الجلية التي تتبدى دوما في تلك الرعاية الأبوية لمؤتمرات الحوار الوطني، وحيث يحرص حفظه الله في كل أحاديثه على حثّ أطياف المجتمع الفكرية على الحوار والالتقاء وبلورة أرضية نتعايش فيها جميعا, نحن الذين نتفيء ظلال وطن يسكن منا القلوب وننعم بخيراته. .
حرصا منا على كل ذلك ولأجل وطن متماسك النسيج ومترابط البنيان كان اختيارنا للشيخ حسن الصفار. وأعرف أن كثيرين من أحبتنا الذين لم يعتادوا ذلك, ومازالت حواجز نفسية عميقة الجذور ومترسبة من الماضي تقف حائطا صلدا أمام أية محاولات للحوار والقفز على تلك الإشكاليات التاريخية المتوارثة، والتي تقف عائقا حقيقيا أمام أية محاولة للتفاهم والتعايش بله عن الاعتراف والقبول.
ربما كان في ذلك بعض الحق, وأعترف باستحالة فكّ تلك المداميك المذهبية المتمنعة, لكننا نسعى هنا الى البحث عن صوت معتدل لدى الآخر الطائفي، شريكنا في الوطن، كي نصل معه الى أرضية مشتركة نتعايش من خلالها تحت مظلة الوطن الواحد. وما نتمناه من الأخوة الأحبة المعترضين هو إدراك حقيقة أن اللعبة السياسية هي في الصميم من المشكلة, ولعلهم قرأوا مواقف المتربصين بمجتمعنا وتماسكه ورسالته وهويته, كما عكسها بيان لجنة الحريات الدينية في الكونغرس الأمريكي ، وما انطوى عليه من عزف فاضح وصارخ على الوتر الطائفي في بلادنا، والخلاصة أننا نأمل من الأخوة أن يتلمسوا بحق ظروف المرحلة التي نعيش, علما بأن هذه المكاشفات أجريت قبل ذلك التقرير بأكثر من أسبوع.
أزعم أن ثالث سبب لي في اختيار ضيفي, هو تقديم وثيقة تاريخية يستفيد منها المجتمع والدعاة تحديدا والأكاديميون والباحثون في جامعاتنا, وذلك عبر محاولة تقديم توثيق معقول للحراك السياسي والاجتماعي والفكري لدى شريحة كبيرة من مواطني المملكة تضرب بجذورها في تاريخ المنطقة.
ولعلها المرة الأولى في صحافتنا التي يلقى فيها الضوء على طرائق التنشئة الاجتماعية وظروف المعيشة لهذه الفئة، فضلاً عن كيفية تلقيهم للعلوم المذهبية عبر سبر دقيق ستطالعونه في حلقات الحوار.
من حق الرجل عليّ أن أشهد له بالأدب الجمّ والتواضع الكبير, كما أنه محبوب من قبل شباب طائفته نظرا لطروحاته الفكرية والطائفية الوسطية التي تدعو للتعايش والتفاهم, وقد استقبلني بالترحاب في منزله بالقطيف, واستمهلني لغدي في إجراء المكاشفة كي يفاجئني في المساء بتقديمي كضيف لمجلسه الأسبوعي الذي تصورته حكراً على بضعة عشرات, فإذا بي أمام عتاة رجالات المنطقة بكافة اتجاهاتهم الفكرية. وكان ثمة رموز فكرية وصحافية ودينية ورجال أعمال موجودين في المجلس الذي امتلأ عن آخره. وقد قلب الشيخ اللعبة عليّ، فكانت المكاشفة معي لا معه.
في الحوار أسمعني الأخوة كثيرا من آمالهم وهمومهم وتطلعاتهم وشعرت حقا بوطنية حقيقية تسري في ذلك الجمع, وأعترف بأنني استمتعت بحديث صادق في مجلس مبارك وصريح, تناولنا فيه قضايا الوطن. وازعم أنني محضت النصح وقد صارحتهم بضرورة قراءة الخارطة الوطنية جيدا, وعدم القفز على المراحل, وعدم نسيان أن كياننا المتماسك قام على تحالف تاريخي بين الإمامين ولا يمكن لأي عاقل أن يغفل هذا.
وسنكمل لاحقا في العدد القادم وأترككم مع ضيف مكاشفات فضيلة الشيخ حسن الصفار
عبدالعزيز محمد قاسم
AZIZKASEM1400@YAHOO.COM
-------------------------------------------------------------------------------------
* بداية نشكر لك تفضلك بالموافقة على أن تكون ضيفا في (مكاشفات), ومن وحي الحوار الوطني الذي يقوده سمو ولي العهد, نترجمه واقعا عبر هذه المكاشفة معك يا شيخ حسن. ودعني ابتداء أطلب (صك أمان) منك تجاه مريديك, فثمة حساسية شديدة لي مع الشرعيين بعد مكاشفاتي مع الشيخ عائض القرني الذي غضب بعض مريديه ومحبيه من أسئلتي الصريحة, وبعثوا رسائل عاتبة جداً في قضية الأسئلة كونها بزعمهم لم تكن خليقة بالشيخ. وعطفا على ذلك فأنا أريد (صك أمان) منك أشهره تجاه محبيك. لم تك لي مشكلة مع المثقفين, فهم ( ملطوشون) على أية حال ولا يتمتعون بمريدين ولا غير. وعليه أتوسم منك كلمة لتلامذتك ومحبيك كي أمضي بأسئلتي في صراحة شديدة ؟
- أولاً اشكر لكم هذه الزيارة واشكر لكم إتاحة هذه الفرصة عبر هذا الحوار للتخاطب مع القراء الكرام ومع المواطنين في مختلف المناطق ومن مختلف الاتجاهات، واعتقد ان نقرأ بعضنا البعض هذه أول خطوة في طريق التعايش والتعارف ومن ثم التعاون من اجل المصلحة المشتركة لديننا ودنيانا واعدكم بان يكون الحديث بحرية كاملة، فلا اعتقد ان هناك شيئاً يجب إخفاؤه. إما فيما يرتبط بالنشر فانتم تقدرون الظروف وتعلمون ما ينشر وما لا ينشر.
أما بالنسبة لي فأعتقد انني في وضع يفرض علي ويتطلب مني ان أكون واضحاً في طرح الإجابات والأفكار والمطالب والتطلعات وليس هناك عائق يمنعني أو يمنع أمثالي من ان يكون حراً منطلقاً في طرحه في حدود المحافظة على المصلحة العامة والالتزام بآداب الحوار والتخاطب في الإسلام.
بالنسبة للاتباع والمريدين انا اعتقد ان الحالة الدينية أو المشايخ والعلماء كرسوا لأنفسهم في نفوس اتباعهم موقعية وهالة من الهيبة تمنع الكثيرين من أبناء المجتمع ان يتكاشفوا معهم وان يكونوا صريحين وجريئين في التخاطب معهم واعتقد ان هذا ينبغي ان يزال فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما وقف أمامه إعرابي وكان يرتعد قال له هون عليك فإنما انا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة. كلما كان عالم الدين اكثر بساطة مع الناس استطاع ان يدخل إلى قلوبهم اكثر وان يؤثر عليهم وان يستقطبهم اكثر ونحن نعيش في عصر نجد فيه كبار القادة وكبار الساسة من بيدهم مصادر أزمة القوة والسلطة ولكن الناس لديهم الجرأة في انتقادهم والاعتراض عليهم ان يخالفوهم ولا ينبغي للعالم ولرجل الدين ان يتلذذ أو يرتاح بان تكون له هيبة مانعة من الانفتاح عليه أو مصارحته. ولكن كثيراً من هذه الحالات ناتج من احترام الناس لدينهم واحترام الناس للعلماء باعتبارهم مصادر للدين.
وفي مجلسي هذا المتواضع حاولت ان اكرس هذه العادة بان تتاح الفرصة للناقد حتى الناقد لي والمعترض على بعض ارائي ومواقفي وافكاري وان يتحدث بكل صراحة وفي بعض الاحيان قد يتحسس بعض الحاضرين ويرى ان مثل هذه الطريقة من التخاطب لا تجوز في مجلسي ولكني أُطبّع الحالة واهون من الامر، لذلك اعدك بانني ساتحدث مع كل من أرى منه انزعجاً بأننا يجب ان نتقبل المصارحة والمكاشفة لأنها هي الأسلوب الأمثل والمناسب لمعالجة الملفات المزمنة والحساسة.
* هذه بداية تبشر بالخير يا شيخ حسن, وأنا سعيد جدا بهذا النفس الانفتاحي, وقبلها بصك الأمان منك(ضاحكا) . وكم نحن بحاجة الى تجسير الهوة بين أجيالنا وبين علمائهم ودعاتهم. وقبل أن أباشر أسئلتي, دعني أك صريحا معك, بأن طيفا غير قليل من قراء هذه المكاشفة سيصرفون حديثك ويتوجسون من أنها قد تدخل ضمن نطاق التقيّة أوالبراغماتية المرحلية.. وأستأذنك في طلب تعليق على ما سمعت.
- هذا الموضوع سبق الحديث عنه في مناسبات عديدة وهذا يدخلنا في بحث حول ما يثار عن الشيعة في استخدامهم للتقية ومن المؤسف جداً ان من نتائج الصراع المذهبي التنكر لبعض المفاهيم الدينية. مفهوم ديني يجري التنكر له بسبب الصراع المذهبي. التقية ليست قضية مطروحة عند حدود المذهب الشيعي ولكنها قضية قرآنية يطرحها القرآن ويطرحها الإسلام بشكل عام، القرآن الكريم فيه آيات عديدة تؤكد ان الإنسان إذا كان في موقع يخاف على نفسه الضرر أو يكون في موقع يسبب له مشكلة من اظهار رأيه وعقيدته فان له ان يلجأ إلى التكتم على رأيه وعقيدته حفاظاً على حياته ومصلحته. ان القرآن الكريم يقول: ﴿إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ والقرآن يقول: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ﴾ والقرآن يقول: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ ففي القرآن الكريم آيات تدل على هذا الأمر إضافة إلى القاعدة العامة ﴿إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ وحينما نعود إلى كتب التفسير نجد كل عالم يمر على هذه الآيات يستعرض هذا المفهوم وفي الفقه نجد موارد مختلفة يبحث فيها الفقهاء أثر الاكراه والاضطرار.
* ولكن الاحتجاج هنا يا شيخ حسن قائم على افتراض ان هذه حالات استثنائية تقدر بقدرها وفي نطاقها الأضيق والاضطرار الشديد إليها. ولكننا نلاحظ بأن الأخوة الشيعة توسعوا في ذلك وجعلوه أصلاً من أصول طائفتهم؟
- هذا التوسع فرضته ظروف يعيشونها، نحن يجب ان نناقش المبدأ.. هل التقية مفهوم موجود في الإسلام. حينما يعاب على الشيعة استخدام التقية وتعتبر مأخذاً من المآخذ عليهم ما يفهمه عامة المسلمين ان التقية ليست موجودة في الإسلام وهم يستخدمون شيئاً لا يصح استخدامه. ما يجب ان نميز هو ان المبدأ موجود ام لا؟ اما عن قضية التوسع فهذا يعود إلى الشخص نفسه في تقدير الظروف وكل الفقهاء يقولون بالنسبة للحرج و الاضطرار أن شخص الإنسان هو الذي يقدر مقدار الاضطرار حينما يجيز الفقه الإسلامي للمضطر ان يأكل الميتة. مقدار الاضطرار وظرف الاضطرار ليس الفقه هو الذي يشخصه وإنما يشخصه الإنسان نفسه فهذا التوسع فرضته ظروف للشيعة أنفسهم.
هناك نقاش بين العلماء هل التقية موردها فقط من الظالم الكافر أو انها ايضاً تكون من الظالم المسلم؟. بعض علماءالسنة ربما يقولون بان التقية من الظالم الكافر وان الآيات الكريمة التي تحدثت عن التقية إنما هي في سياق التقية من الظالم الكافر والبعض من علماء السنة وكل علماء الشيعة يرون مفهوم التقية أوسع حيثما كان هناك حاجة واضطرار اليها. فمذهب الإمام الشافعي مثلاً: ان الحالة بين المسلمين اذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس. وجاء في الموسوعة الفقهية التي اصدرتها وزارة الشؤون الإسلامية في الكويت ج13 ص 196.
(والحنابلة لا يرون الصلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد يصليان بمكان واحد من البلد، فان خاف منه ان ترك الصلاة خلفه فانه يصلي تقية ثم يعيد الصلاة... وقد ذكر ابن قدامة حيلة في تلك الحال يمكن اعتبارها من التقية لما فيها من الاستتار، وهي أن يصلي خلفه بنية الانفراد).
وحينما أُخذ العلماء من أهل السنة في عهد المأمون والمعتصم وامتحنوا ليقولوا بخلق القرآن استخدموا التقية إلا اربعة أو خمسة.
من ناحية أخرى التقية حين يبحثها الشيعة إنما يبحثونها في اطارين الاطار الأول دفع الضرر الشخصي أو فلنقل دفع الضرر المادي على الشخص أو على المجتمع والاطار الثاني دفع الضرر عن الامة وعن الوحدة الإسلامية ويعنون بذلك إذا كانت ممارسة حكم من الاحكام المقرة في المذهب تبرز حالة من الانشقاق في الامة أو التمزق فان المذهب يجيز لابنائه ترك ذلك حفاظاً على الوحدة لاولوية الوحدة واهميتها وهذا ينبغي ان يحسب للمذهب كامتياز وليس مأخذاً عليه.
* أتصور أن هذه بداية ملتهبة واشتباكا ساخنا له ما بعده. ودعني أقول لك بكل صراحة بأن ردودا مخالفة وحادة ستأتيني, وسيفند طلبة العلم رؤيتك هذه اعتراضا أو تأييدا في مناخ اختلاف شرعي وسأنشر منها ما كان موضوعيا مهما كانت حدته .. وعلى نهج المكاشفات سأبدأ معك من سني الطفولة ومراحلك الأولى.. هلا حدثتنا يا شيخ حسن عن ظروف ولادتك وتنشئتك الاجتماعية التي ترعرعت عبرها .
- ولدت سنة 1377هـ _ 1958م وكانت ولادتي في مدينة القطيف والاسرة التي نشأت فيها كانت محدودة الحال من الناحية المادية ولكنها من الاسر المهتمة بالشأن الديني والاجتماعي لان جدي لابي كان عالم دين وكذلك جدي لامي كان خطيباً و بعض اعمامي وبعض اقربائي وحتى والدي نفسه كان يمارس شيئاً من الأدوار الدينية. حيث درس مقدمات العلوم الشرعية لفترة ثم فرضت عليه الظروف الحياتية ان يعمل وان يصبح كاسباً في اعمال مختلفه ولكنه بقي يمارس بعض الأدوار الدينية المحدودة فنشأت في هذه الاسرة ونشأت في بيئة محافظة من الناحية الدينية والاجتماعية وتعلمون طبيعة المجتمع الشيعي لديه مجموعة من المواسم والمناسبات الدينية التي تشد الإنسان إلى دينه ومجتمعه عندنا أيام عاشوراء في مطلع كل سنة هجرية لمدة عشرة أيام يكون هناك ما يشبه الموسم الديني الثقافي الاجتماعي العام كل أبناء المجتمع نساء ورجال كباراً وصغاراً يشاركون في هذه المناسبة وهي ذكرى استشهاد الامام الحسين بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبهذه المناسبة تعقد مجالس نطلق عليها مآتم وهي محاضرات يميزها إثارة العواطف تجاه مأساة اهل البيت وما حدث لهم في كربلاء سنة 61هـ وفي شهر رمضان وطوال لياليه تكون هناك مجالس دينية للوعظ والإرشاد وذكر سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة اهل البيت عليهم السلام والاحكام الشرعية المتعلقة بالصوم والصلاة وبقية الاحكام الفقهية وهناك اهتمام بمواسم وذكريات أئمة اهل البيت، كل امام في اي يوم ولد حسب الروايات الموجودة في التاريخ وفي اي يوم مات، تعود المجتمع الشيعي ان يحيي يوم ميلاده وذكرى وفاته وفي هذه المجالس يأتي الخطيب ويتحدث عن سيرة الإمام صاحب الذكرى وكنت من صغري اذهب مع والدي لهذه المجالس فرغبت من صغري ان اسلك هذا الطريق واتقمص دور الخطيب الذي يخطب في الحاضرين في هذه المناسبات واتذكر اني كنت في الصف الرابع الابتدائي وكان عمري في العاشرة حيث بدأت اجمع الأطفال من أبناء منطقتي واخطب عليهم كما يخطب الخطيب في المجلس الديني.
* حقيقة أنا أحرص جدا على رصد هذه الأجواء التي سيقرؤها كثير من محبي(الرسالة) وأزعم بأنهم سيطالعون لأول مرة هذه التفاصيل الدقيقة لطائفة الشيعة بالمملكة وتكون كوثيقة تاريخية واجتماعية في رصد الحالة الشيعية وظروفها. وبعيدا عن موقفي الشخصي المعارض منها وموقف أهل السنة والجماعة مما تحدثت, لأنني أسألك كصحافي وليس كشرعي أناقشك مناقشة تخصصية تاركا ذلك لطلبة العلم.. وسؤالي التالي بعد هذه التوطئة : هل أتممت حفظ القرآن في هذه السنة العاشرة؟
- لا لم احفظ القرآن كله وانما تعلمت قراءة القرآن كله وحفظت اجزاء منه في الكتاتيب التي كانت متوفرة آنذاك وكانت تعلّم تلاميذها قراءة القرآن ولم تكن لدينا مدارس لتحفيظ القرآن.
بدأت امارس دور الخطيب مع الأطفال من محلتي فلفت ذلك نظر بعض الكبار وبدأوا يحضرون حتى يستمعوا فرأوا اني التقط ما اسمع من الخطباء والعلماء واعيد طرحه و باعتبار اني كنت في مرحلة مبكرة من العمر لفت هذا الأمر الانتباه فصار الكبار يدعونني لكي اخطب فصرت وعمري آنذاك في الثانية عشرة امارس الخطابة كأي خطيب من الخطباء الموجودين في البلد ولصغر سني كان ذلك لافتاً وكانت هناك حفاوة من أبناء مجتمعي وتشجيع لي على هذا المسار ثم عندما سمع الاهالي في الأحساء ان هناك صغيراً في السن يقرأ ويحفظ ويخطب دعيت إلى الأحساء وبدأت اخطب هناك ثم دعيت إلى مناطق أخرى إلى الكويت والى البحرين وكان يشفع لي صغر سني فهذا دفعني اكثر إلى التخصص في دراسة العلوم الشرعية بعد ان انهيت المرحلة الابتدائية.
* بعد هذا السبر العريض, بودي أن تتذكر لنا بعض أساتذتك ومشايخك الذين تأثرت بهم إبان تلك الفترة المبكرة؟
- تأثرت بمجموعة من الخطباء في مسلكي الخطابي الذين كانوا يمارسون دور الخطابة في البلد ومنهم الخطيب السيد هاشم السيد شرف الحسن رحمه الله (1323 – 1387هـ) من مدينة صفوى، والخطيب الشيخ عبدالحميد المرهون، والخطيب الشيخ سعيد ابو المكارم وهما موجودان يحفظهما الله، وخطباء آخرون ولكن هؤلاء الخطباء الثلاثة وبشكل رئيسي تأثرت بهم اكثر من بقية الخطباء وربما في بعض الاحيان احفظ نسبة كبيرة من المواضيع التي يطرحونها، احفظها والقيها في مجالس أخرى وعلى مستمعين آخرين. بعد ذلك انفتحت على الكتاب وبدأت اقرأ في الكتب وامارس دور التثقيف الذاتي وكوني امارس الخطابة ساعدني على الاقتراب من العلماء.
وكان من أبرز العلماء في القطيف على المستوى الشعبي والاجتماعي الشيخ فرج آل عمران (1321هـ - 1398هـ) وكان عالماً فاضلاً ومحلاً لثقة الناس وتقديرهم فكنت ارتاد مجلسه يومياً خاصة في أيام عطلة الصيف وتأثرت به كثيراً حيث كنت استمع إلى اجابته للمستفتين والمستفسرين وامتاز هذا العالم بانفتاحه الاجتماعي واهتمامه بالمذكرات التاريخية وله كتاب مميز اصبح مرجعاً ومصدراً في تاريخ المجتمع والمنطقة واسمه (الازهار الارجية في الآثار الفرجية) كان هذا العالم يكتب مذكراته يومياً، من يلتقي معه، من يحادثه من يزوره، اسفاره واشعاره واجاباته الدينية يدون كل شيء، ويطبع جزءاً بعد جزء وعند وفاته بلغ عدد الأجزاء المطبوعة خمسة عشر جزءاً كنت ارتاح كثيراً لهذا الكتاب وكنت اقرأه دائماً وربما قرأته اكثر من مرة وعن طريقه تعرفت على بقية العلماء حينما يذكر مثلاً انه زامل العالم الفلاني في الدراسة أجد في نفسي رغبة للتعرف على هذا العالم الذي ذكره الشيخ في كتابه فاسأل عنه وابحث عنه وحتى عندما سافرت إلى العراق وايران كان في بالي الأسماء التي ذكرها الشيخ فرج آل عمران في كتابه انه زارهم فكنت اسعى لزيارتهم لان أسماءهم رسخت في ذاكرتي من خلال قراءتي لمذكرات الشيخ، وهناك علماء آخرون مثل الشيخ ميرزا حسين البريكي (1326هـ - 1396هـ) هذا كان عالماً وخطيباً واديباً، كنت احضر مجالسه وكان هو يحضر في احايين كثيرة مجلس الشيخ فرج آل عمران.
وكنت استمتع جداً بحديثه لأنه كان منفتحاً على الكتب الجديدة التي كانت تصدر في القاهرة ككتب طه حسين وكتب عباس محمود العقاد وكتب مصطفى لطفي المنفلوطي وكتب عبدالله العلايلي وجورج جرداق وجورجي زيدان وغيرهم وكان ينقل عبارات من هذه الكتب وهذا ما شوقني للاطلاع على هذه الكتب أيضاً فصرت اقرأ واتابع هذه الكتب. ومن العلماء الذين تأثرت بهم الشيخ عبدالحميد الخطي رحمه الله (1331 – 1422هـ) القاضي السابق لمحكمة الأوقاف والمواريث في القطيف وكان عالماً اديباً يدرس مسائل الفقه كل ليلة في مسجده بعد صلاة المغرب والعشاء فكنت اواظب على الحضور واستفدت من دروسه كثيراً كما كنت احضر مجالسه ويدور فيها حديث الشعر والأدب حيث كان شاعراً ناقداً. وتأثرت كذلك بالشيخ علي المرهون وكان عالماً خطيباً متواضعاً يقطن في نفس حارتنا.
* أنا أتفهم تأثرك بعلماء طائفتك, ولكن اعذرني في هذا السؤال : ألم تتأثر ببعض علماء السنة ممن استمعت إليهم ؟
- في ذلك الوقت لم يكن هناك انفتاح ولذلك لم أتعرف على أحد من علماء أو خطباء السنة.
* هل أستطيع القول بصراحة هنا, ومن وحي اجابتك, بأن هناك نوعا من السياج الفكري المضروب حول أبناء الطائفة..لكأن الآخر المذهبي (تابو) بالنسبة لكم ؟
- نعم في بداية حياتي كانت ثقافتي نشأتي في حدود البيئة الشيعية في القطيف ولم يكن لدى انفتاح على اي عالم أو خطيب من اهل السنة، نعم كان لدي بعض الانفتاح على بعض الكتب خلال ما اسمع عنه من المشايخ والعلماء حينما يتحدثون عن كتاب من الكتب اهتم بالاطلاع عليه ومطالعته، وعلماء الشيعة مكتباتهم شاملة، مثلاً الشيخ فرج آل عمران له مكتبة، كتب السنة فيها ربما كانت تضاهي كتب الشيعة، وكذلك مكتبة الشيخ ميرزا حسين البريكي فكنت اطلع على كتب اهل السنة واطالعها واقرأها فعلماؤنا كانوا يستدلون ويستشهدون ببعض الاراء في التفسير والفقه لعلماء اهل السنة ولكن كتواصل اجتماعي لم يكن في بيئتنا انفتاح على علماء من خارج المذهب الشيعي. أما السياج المضروب حول أبناء الطائفة فالآخرون يتحملون مسؤوليته لموقفهم الحادّ من الشيعة والذي ينتج رد فعل طبيعي.
* نحن نتحدث عن أربعة عقود خلت.. لا أدري يا شيخ حسن هل مازال عدم الانفتاح هذا قائماً لحاضرنا الذي نعيش..وفي منطقة القطيف تحديداً؟
- هناك انفتاح عام فرضته وسائل الاعلام والتواصل الحديث وكذلك الاسفار والاختلاط في الجامعات والوظائف ولكن على المستوى الاجتماعي مازال هناك شيء من الانغلاق من قبل الطرفين الآن تبرز صورة أخرى فالشيعة يرغبون في الانفتاح ويلحون في التواصل ولكن الطرف الآخر هو المتحفظ انا شخصياً اذهب لزيارة المشايخ من اهل السنة والقضاة في المحكمة الكبرى في القطيف ولكننا فشلنا لحد الآن في إقناع أحد منهم في ان يتزاور معنا ولم تحدث الا حالة واحدة ان أحد القضاة في السنة الماضية وافق ان يحضر في منتدى الأستاذ جعفر الشايب وهو الشيخ صالح الدرويش وكان حضوره حدثاً لمجتمع القطيف.
* ندرك يا شيخ حسن ان التراكمات التاريخية الحاصلة تحتاج إلى بعض الوقت لفك مداميك أزمتها التأريخية..هذا اذا استطاع الوسطيون والعقلاء فكها..
- نحن الآن في مرحلة توصيف الحالة ولسنا في مرحلة التحليل، ففي التحليل هناك كلام كثير..
* لا بأس , فلنعد إلى قراءتك في تلك الفترة. لكأنها اتجهت اتجاهات دينية صرفة. ألم تك بموازاة ما ذكرت قراءات أخرى في الأدب والشعر والفكر.
- قراءتي في تلك الفترة في المجالات الأدبية والفكرية بالفعل كانت قليلة الا في حدود كتابات طه حسين وكتابات عباس محمود العقاد والمنفلوطي وهذه طبعاً محسوبة ضمن المجال الأدبي ولكنها تخدم المعارف الدينية، كنت اقرأ ما يخدم المعارف الدينية في تلك المرحلة الابتدائية.
* هل ثمة شخصية معينة تعهدت الطفل حسن الصفار آنذاك بالرعاية والتوجيه والمتابعة لما يقرأ ؟
- لم يكن الامر كذلك بل كان رغبة واجتهاداً شخصياً ولم يكن عندنا من العلماء من هو مهتم بأن يجمع حوله طلاباً ومريدين وان يربيهم، اغلب العلماء الذين تعرفت عليهم يقتصرون على المستوى العام يخطبون في الجمهور خطابات عامة وربما كان لبعضهم طلاب يدرسون عندهم العلوم الدينية ولكن هذا بشكل محدود، وكان لمجالس بعض العلماء دور في تنمية بعض الكفاءات الادبية والثقافية بشكل عفوي. كانت الحركة العلمية في القطيف آنذاك مصابة بحالة من الفتور والشلل وكان عدد العلماء محدوداً في القطيف وعدد طلاب العلوم الدينية كان محدوداً ولكن فيما بعد حدث نوع من الاندفاع والإقبال وخرج كثير من الطلاب للدراسة في الحوزات العلمية فاصبح لدينا الآن عدد وفير من العلماء وطلاب العلوم الدينية، ولكن في تلك الفترة وانا أتحدث عن 1385هـ كان عدد العلماء في القطيف محدوداً ويعدون على أصابع اليد في كل محافظة القطيف وقراها ومدنها. كان هناك عدد من الخطباء ولكن ليس كل خطيب عالماً.. قليل منهم درس العلوم الشرعية وكثير منهم كان يقتصرون على قراءة التواشيح والاشعار والسير التاريخية.
* بالنسبة للمدارس التي درجت فيها: هل كانت حكومية أم كتاتيب ؟
- نعم, درست المرحلة الابتدائية في مدرسة زين العابدين بالقطيف والمتوسطة بمدرسة الأمين المتوسطة بالقطيف.
* تبقى لسن المرحلة الابتدائية كثير من الذكريات العذبة التي لا تمّحي. ما الذي تتذكره من احداث وعلقت بذاكرتك ولم تبارحها وأنت الآن أمامي في هذا العمر شيخ حسن؟
- الذي أتذكره ان بعض المدرسين من الفلسطينيين والاردنيين كانوا يتحدثون لنا في بعض الاحيان عن وضع فلسطين وعما يجرى في الأردن وكان بعضهم يسرب بعض الأفكار فيما يرتبط بالقومية العربية وفيما يرتبط بمصر وبجمال عبدالناصر ففي ذهني لمحات كنت اسمع في المدرسة بعضاً من هذه الأشياء لان اغلب المدرسين كانوا غير سعوديين فكنت اسمع منهم عن بلدانهم وكانت المدرسة تمثل لي انفتاحاً على نسق جديد بخلاف البيئة التي كنت أعيش فيها، هذا ما لفت نظري في تلك المرحلة والشيء الآخر الذي أتذكر اننا كطلاب في تلك المرحلة كنا نعيش حالة من الشدة من قبل الإدارة ومن قبل المدرسين كان هناك انضباط صارم وتعامل قاس من قبل المدرسين على الطلاب أتذكر الكثير من الحالات التي كان يضرب فيها الطلاب عند اقل خطأ بالعصا وكيف كان بعضهم يُخرج إلى الشمس، وقد يعاقب كل الفصل عقاباً جماعياً عند حصول خطأ من بعض الطلاب.
* هذه كانت حالة عامة في كل مدارس المملكة..لكن اعذرني في سؤال لـ(معلم الصبية): هل سبق لك وأن وضعت على الفلقة وبرّحت بك ُقبل العصا في قدميك بتلك الأزمنة ؟
- لم يحصل ان وضعت على الفلقة.. لكن حصل في بعض الاحيان ان كانت عقوبات بسيطة وكان من اسبابها انني كنت في أيام المناسبات الدينية باعتباري امارس الخطابة اتغيب أو اقصر في بعض الواجبات ولكن فيما بعد تفهمت الإدارة وتفهم المدرسون وضعي فصاروا يخاطبوني (بالمطوع) وعرفوا عني هذا التوجه واتذكر هنا قصة طريفة هي ان مدير مدرسة زين العابدين الابتدائية في القطيف الأستاذ سعد الرحيل وهو من قبيلة الخوالد من قرية عنك من قرى محافظة القطيف يسكنها اخواننا السنة باعتباره يعرف الاعراف والتقاليد الموجودة في المجتمع ويسمع عني حسب التعبير (ملاّ) وخطيب لذلك كان يعاملني تعاملاً مميزاً ويغض الطرف عن غيابي في المناسبات الدينية خاصة في مناسبة عاشوراء التي أكون فيها مشغولاً بالخطابة لمدة عشرة أيام واذكر انه في عام 1388هـ كنت مرتبطاً بالخطابة في الأحساء فجئت إلى المدير وقلت له اني سأقرأ في الاحساء ولذلك احتاج إلى إجازة عشرة أيام ولم يكن متعارفاً ان يأخذ طالب إجازة عشرة ايام ولكن قدر ظرفي وسمح لي بالذهاب إلى الأحساء وفوجئ بطلب آخر قلت له اني لا أستطيع ان اذهب وحدي وإنما معي زميل بالصف واني سآخذه معي مرافقاً. فسمح لمرافقي بذلك وسافر معي هذا الزميل، و كنت في الصف السادس الابتدائي وعندما انتقلت إلى المرحلة المتوسطة صاروا يطلبون مني دوراً في الاذاعة الصباحية وبالفعل كنت أدير اغلب البرامج وحتى ظهرت عندي بواكير الشعر في تلك المرحلة فبدأت انظم الشعر وكان شعراً بسيطاً واهميته تنبع من أني كنت أتحدث فيه عن قضايا المدرسة وكان الجميع يعاملونني باحترام باعتبار اني كنت أمارس الدور الديني والخطابي.
* ذكرت في إجابتك هذه قرية (عَنك) وقبيلة (الخوالد) السنية وتعامل المدير معك. لكأني أستشف تعايشا طائفيا صورته إيجابية جدا. غير ما ترسّخ في الذهنية البعيدة عنكم. هلا صححت لي؟
- على مستوى الناس كان هناك تداخل وتواصل طيب بين السنة والشيعة في منطقة القطيف تعلمون ان اكثرية اهل القطيف هم من الشيعة ولكن يوجد بعض القرى التي بها اهل السنة كقرية عنك ودارين وأم الساهك وبعض القرى الأخرى كانت علاقتهم مع الشيعة علاقة طيبة هناك تواصل اجتماعي في الأفراح والاتراح وحتى ان بعض علماء السنة في المنطقة كانوا يدرسون عند بعض علماء الشيعة وكان والدي يحدثني أن إمام الجماعة في دارين اسمه السيد إبراهيم كان يأتي إلى تاروت ويتلقى علومه في اللغة العربية والنحو على يد علماء الشيعة ويتواصل معهم ويتواصلون معه واهل عنك إلى الان يتميزون بعلاقات طيبة مع بقية مواطني القطيف.. كان السوق الرئيسي في المنطقة في القطيف كان سوقاً شعبياً عاماً فكان السنة والبدو من كافة المناطق ياتون اليه ويشترون ويبيعون وبعضهم عندما يهاجرون الى البادية يتركون اموالهم وصكوكهم امانة عند أهالي القطيف وكان هناك تداخل اجتماعي وتداخل مصلحي واقتصادي ولم تكن هناك تشنجات ولا فواصل ولا حواجز بين السنة والشيعة وانا أتحدث عن القطيف والحال في الأحساء أوسع وافضل لان هناك تداخلاً في أغلب المناطق بين الشيعة والسنة وكان بينهم علاقة طبيعية وأخبرني بعض أدباء السنة في الأحساء ومن شخصياتها المعروفة انهم درسوا في كتاتيب شيعية وعند علماء ومدرسين شيعة وكان يحضرون مجالس ومنتديات الشيعة ولم تكن الحالة متشنجة بل كانت طبيعية وطيبة.
* ولكن ياشيخ حسن, وأنا أنصت لك الآن, وأقارنه بما نسمعه من تشكٍ دائم وحسينيات متتالية منكم تجاه الآخر الطائفي واتهامه بالإقصاء والأحادية وجملة من التظلمات, لأجد بعض المفارقة. ما نحن بصدده مسألة وطنية تهمنا جميعاً كمجتمع وأفراد, خاصة في هذه الظروف التي نعيشها الآن ولا يخفاك, وأنت السياسي المحنك, محاولات راعي البقر الأمريكي الجاثم بخاصرتنا الشمالية في العراق ومزايداته ولعبه على هذا الوتر الطائفي الساخن والحساس. هلا أوضحت لنا وجهة نظرك ؟
- هناك عوامل استجدت العامل الأول: كما تعلمون ان أجهزة الدولة اخذت في التشكل شيئاً فشيئاً في الماضي كانت تدار الأمور بالبساطة لم تكن هناك دوائر حكومية متعددة لمختلف التخصصات، كان هناك أمير وشرطة وشيء محدود كما هو شأن كل المناطق في المملكة، كان الوضع اقرب إلى حالة البساطة والعفوية لكن شيئاً فشيئاً بدأت تشكل أجهزة للدولة وبدأت تتكون قوانين لمختلف المجالات والامور مع هذا التشكل لمؤسسات الدولة لم تكن هناك مراعاة لخصوصية المجتمع الشيعي في مجاله الديني وفي مجاله الاجتماعي فاصبح الإنسان الشيعي يصطدم بهذه القوانين التي لا تأخذ خصوصيته بعين الاعتبار هذه نقطة اما النقطة الثانية فالموظفون الذين شغلوا هذه الدوائر الرسمية والحكومية غالباً من غير اهل المنطقة لان المسؤول كان يوظف من يعرفه ويعرف كفاءته وقدرته، فبدأ الشيعة يشعرون ويتساءلون لماذا يبعدون من الدوائر والمؤسسات وخاصةعلى مستوى المديرين ليس من منطقتهم هذا اوجد عندهم حساسية وتساؤلات ولا يزال الى الآن اغلب الأجهزة الحكومية ان لم يكن كلها لا مجال فيها لابن المنطقة لمواقعها الادارية وانا هنا لا أتحدث كشيعي أو سني وإنما كابن لهذه المنطقة قطيفي يعيش في القطيف والمؤسسات الحكومية موجودة وهو لديه كفاءة لا تقل عن كفاءة غيره لكن يجد نفسه مستثنى ولا يمكن ان يكون مديراً في رتبة متقدمة كمحافظ أو مدير شرطة أو رئيس بلدية أو لأي جهاز أو مؤسسة وهذا اثار في نفوس الشيعة التساؤل، قوانين وقرارات لا تراعي خصوصيتهم خاصة في المجال الديني والثقافي، الوظائف والمناصب أيضاً تستثنيهم واضيف إلى ذلك عاملا آخرا مفاده انه بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران دخلت المنطقة وضعاً جديداً، وأصبحت التعبئة الطائفية جزءاً من الصراع في المنطقة فالشيعة ارتفعت معنوياتهم وبدأوا يسمعون لإذاعة الجمهورية الإسلامية في إيران ويتفاعلون مع ما يطرح هناك ومن ناحية أخرى كان السنة يتعبأون ضد الشيعة دينياً وثقافياً من خلال الخطب والفتاوى في تلك الفترة وهي معروفة.. هذا كله اوجد هذا التشنج الذي يشكو منه الواعون والمخلصون من الطرفين.
* اسمح لي يا شيخ حسن, وقد تركتك تكمل ولم أجادلك بسبب أنني سأناقشك بالتفصيل عن ملابسات الثورة الإيرانية وتأثيراتها عليكم وعلى المنطقة. ولكنني أزعم بطبيعية هذه المآلات والتشنجية المصاحبة لها, وعندما نضع هذه القضية بكل ملابساتها السياسية والدينية على طاولة التشريع العلمي والقراءة التاريخية والعلمية لها سنرى حتمية النتيجة عبر هذا السياق. دعنا اذاً نترك هذا الموضوع وسؤالي لك.. هل مازلتم وبعد الحوار الوطني وتوجيهات الأمير عبدالله تشعرون بما ذكرت ؟
- بعد الحوار الوطني زادت تطلعات الناس وانتعشت آمالهم فتوصيات الحوار والكلمات التي ألقيت بين يدي سمو ولي العهد وحديث سموه الصريح يشكل إيذاناً بمرحلة جديدة ولازلنا في مرحلة التوقع والانتظار حيث لم تتحدد آلية معينة لتطبيق تلك التوصيات بعد.
* وتلك مسألة أخرى, وأستأذنك في العودة بزمام الحوار إلى مبتدئه.. متى أكملت المرحلة الابتدائية؟
- أكملت المرحلة الابتدائية سنة 1388هـ.
* لأعد الى مهنتي وأسألك سؤال "معلم الصبية".. كم كان تقديرك؟
- لم يكن ممتازاً، كان جيد جداً، ولا أريد ان أدافع عن نفسي ولكن انصراف هوايَ إلى العلوم الشرعية والدينية قد يكون هو السبب.
* سأنتقل هنا طالما كان هذا التقدير الوسط يا شيخ حسن, وأنت داعية للوسطية, الى المرحلة الأخطر في عرفنا نحن المعلمين, وهي مرحلة المتوسطة بسبب علامات البلوغ وحشرجة الصوت والشعور بالرجولة وما يتبعه من عناد ساذج.. ما الذي علق بذاكرتك من المرحلة المتوسطة؟
- في المرحلة المتوسطة بدأت علاقتي مع الإدارة ومع المدرسين تصبح مميزة وبدأت أمارس دوراً في إذاعة الصباح وصار يعتمد عليَ في حل بعض مشاكل الطلاب حينما يكون بعض الطلاب بينهم مشاكل أو بعض التقصير في الواجبات المدرسية. فالإدارة أو المدرسون باعتباري "ملا" يطلبون مني ان أتحدث معهم فبدأت آخذ دوراً داخل المدرسة لا اذكر شيئاً اكثر من هذا.
* وماذا عن معلميك ومدى تأثرك بهم؟
- علاقتي بالمعلمين كانت طيبة.. ولم يكن هناك تأثر بهم لان مصادر التأثر خارج المدرسة كانت هي الأكبر. والشيء الجديد بالنسبة لي كان درس الإنجليزي في المدرسة المتوسطة واذكر ان جدتي ام والدي -رحمها الله- كانت تقول لي إذا أردت ان تقرأ القرآن وكنت تحدثت باللغة الإنجليزية يجب ان تطهر فمك أولاً.
هذا يكشف لك حالة التحفظ التي كانت عندنا انا لم اكمل المرحلة المتوسطة حيث غادرت للعراق لأكمل الدراسات الشرعية.
فما أكملت الصف الثالث المتوسط فقد كنت عازفاً عن هذه الدراسة وكنت أجد نفسي أضيع وقتي لذلك طلبت من والدي ان يسمح لي بالسفر إلى العراق والالتحاق بالحوزة العلمية وسافرت بالفعل إلى هناك.
* هنا سأسألك بكل صراحة. لطالما سمعت التشكي من قبل أبناء الطائفة لديكم بالتمييز في المدارس . وسؤالي لك ياشيخ حسن. هل شعرت بشيء من التفرقة الطائفية في المدارس الحكومية؟
- في ذلك الوقت لم يكن لدي شعور بالتفرقة الطائفية وكانت الأمور عادية، وطبيعية، فقط كانت بعض المناهج الدينية في التعليم تتحدث عن بعض الممارسات والتوجهات الشيعية حديثاً قاسياً تعتبرها بدعاً وتعتبرها شركاً ولكن كان التوجيه في بيئتنا ومجالسنا يوضح لنا الأمور بشكل يتناسب مع مذهبنا.
* أفهم من حديثك بأن ثمة تحصيناً طائفياً قوياً يحقن به الطالب من طائفتكم قبل التحاقه بالمدارس الحكومية؟
- ليس تحصيناً وإنما هي الحالة الطبيعية. الولد يتأثر بوالديه وبأحضان عائلته. ليس هناك تحصين مقصود يمارس لم تكن عندنا مؤسسات لا اذكر ان أحداً كان يدرس هؤلاء الطلاب الصغار ويعلمهم لكن الحالة الطبيعية كانت تنتج ذلك لان التصاق الولد بعائلته كبير. لم تكن هناك برامج تليفزيونية ولا كرتونية ولا برامج مسلية أو برامج رياضية ينصرف إليها الطفل لذلك كانت علاقته بوالديه وعائلته قوية جداً يعايشهم دائماً ويعايشونه وبشكل طبيعي يأخذ دينه وعاداته وأعرافه. ولكن المدرسين الذين يدرسون المواد الدينية آنذاك لم يكونوا متحمسين للتركيز على القضايا الخلافية خاصة وانهم كانوا في الغالب من خارج المملكة، وبعضهم من بيئات منفتحة.. لذلك كانوا يدرسون المنهج كما هو ولا يؤكدون كثيراً على مثل هذه الأمور. ولكن ما حصل بعد ذلك عندما اصبح مدرسو هذه المواد غالباً من أبناء المملكة خريجي كليات شرعية وفي هذه الكليات تصبح لديهم توجهات اكثر عقدية يركزون عليها. هنا دخل الطلاب الشيعة مرحلة جديدة ولازالوا يعيشونها حتى الآن. و لا تكاد تمر سنة وإلا تحدث مشكلة ما بسبب المواد الدينية لان مدرس المادة الدينية يأتي ولديه رسالة تبليغ أو تبشير يريد ان يهدي هؤلاء الناس الضالين أو الذين يمارسون البدع و الانحرافات حسب رأيه فتحصل المشاكل في تلك الفترة لم نكن نعاني من هذه الحالة.
* يا شيخ حسن, أنت رجل تتسم بالواقعية. واسمح لي بمناقشتك بأسلوب علمي. لو عكست لك المسألة وأخذت إيران مثلاً أو أية دولة مشابهة أخرى, من الطبيعي جداً ان تتحكم الطائفة الأكبر والأيديولوجيا الأوسع فضلا عن منهج قام كيان ودولة عليه, من الطبيعي أن يبشر دعاتها بأيدلوجيتهم في كل اتجاه، لسنا بدعا من الأمر,ولسنا في حالة استثنائية كي يلقى كل اللوم علينا في أوقات سياسية صعبة وحساسة.. أتمنى أن تكون رسالتي واضحة هنا .
- ان مرحلة الطفولة لا تحتمل الصراع داخل عقل الطفل ولذلك نجد مثلاً في ايران ان إدارة التعليم لا تترك مجالاً لمثل هذه المشكلة.. مناهج التعليم الديني في مناطق السنة في إيران هي وفقاً للمنهج السني وليس طبقاً للمنهج الشيعي. ولذلك أرى انه من الصحيح فيما يرتبط بالمادة الدينية أما ان يكون التعليم للقيم الدينية العامة التي تشكل جامعاً مشتركاً أو ان يكون التعليم مشتملاً على كل الآراء بإيراد رأي المذاهب في أي مسألة أما ان تأتي إلى مجتمع ضمن مذهب معين وتسلط معلمين مبشرين على أطفال في مرحلة التكون هذا يجعل الطفولة ساحة لصراع فكري ونفسي لا يتحمله الأطفال.
* سأصارحك يا شيخ حسن بتوجسي الشديد من الدعوة التي تقول, لسبب بسيط يتمثل بأننا وطن واحد, لابد وأن ينتظمه منهج واحد متسامح. أما فكرة التقسيم القديم إلى مناطق شيعية وسنة فهذا ان صح قبل 40 سنة فليس صحيحاً الآن بعد ان تشّكل الكيان وانتظم تحت وطن واحد!
- سيحتاج هذا إلى أمرين الأمر الأول فلنجعل التعليم خاصة في مراحله الأولى يركز على المشتركات والأمر الثاني ما عبر عنه في بعض الندوات بان لا يكون هناك منهج خفي بحيث لا يكون هناك دور تبشيري في مرحلة الطفولة، هذا المعلم الذي يأتي إلى منطقة شيعية يجب ان يأخذ هذه القضية بعين الاعتبار، إذا أراد ان يبشر بفكره ومذهبه فله الحق لكن عليه ان يتحدث إلى البالغين الراشدين أما ان يأتي إلى أطفال في المرحلة الابتدائية أو المتوسطة ويقول لهم آباؤكم مشركون وأمهاتكم أمهات بدع وعائلاتكم كلها ستدخل نار جهنم فهذا غير مقبول ولا معقول!
ولأن المناطق أصبحت مختلطة سنية وشيعة، طيب إذا كان الصف يحتوي على طلاب سنة وشيعة ويأتي المدرس ليتحدث مثل ذلك الحديث هو يوجد تحريضاً للطلاب على بعضهم البعض وهذا ما يحدث الآن في بعض المدارس.
إذا كان هناك سنة وهناك شيعة ويأتي المدرس ليتوسع في شرح زيارة القبور ويقول هؤلاء قبوريون ويعبدون غير الله بزيارتهم للقبور والذين يتوسلون بالأئمة والأولياء مشركون وما إلى ذلك فتصبح هناك جدليات ونقاشات بين الطلاب أنفسهم وبالتالي ينفرز الصف فهذا شيعي وهذا سني وأنت مشرك وأنت رافضي وأنت وهابي، هل هذا من المناسب في وطن واحد؟
وعليه يجب ان يركز التعليم على المشتركات العامة أو إذا كانت هناك مصلحة في ذكر رأي المنهج الرسمي السائد فلا يكون هناك تركيز على التحريض ضد الآخر.. من وصف الطرف الآخر بالشرك والابتداع فهو غير صحيح مثلاً في الحجاز يقيمون الموالد. طيب أنت حين تأتي وتتحدث ان إقامة الموالد من البدع وفيه ضلال وفيه شرك كما توجد عبارات في المناهج تقول بهذا وهو يرى ان أسرته تحتفل بمولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكيف سيعالج الطفل هذا التناقض؟
ولذلك يجب ان نجنب التعليم هذه الخلافيات.
* سأتجاوز حديثك عن سنة إيران, لأن لي فيها كثيرا من الوقفات والملاحظات التي سأقفها لاحقا معك, بيد أنني سأتطوع بلفت نظرك الى تلك المراجعات الصريحة التي تبدت في بعض رموز التيار الديني المحلي ودعاته, ومن الذين أدركوا خطورة المرحلة, ولعلك رصدت هذا يا شيخ حسن, وليس حديثي تأييدا في ما طرحت, بيد انني أتمنى أن يتجاوز الغيورون من الطائفتين هذه الإشكاليات ليتعايشوا تحت مظلة وطنية نفيء الى ظلالها دون طعن عقدي.. دعني أعود هنا للفتى حسن الصفار الذي تقولب وتمشيخ في فترة مبكرة من عمره ألم يؤثر ذلك عليك في مسيرتك لاحقاً؟
- لا اعرف ماذا تقصد بالتأثير.!!
* ( مبتسما) تتذكر مقولة الإمام الشافعي في تصدّر الغلام, ورميت من سؤالي بأنك لم تشب بين أقرانك كأي فتى ولم تأخذ طفولتك بشكل كامل وطبيعي. والسؤال: ألم تؤثر هذه المرحلة التي عشتها (متمشيخا) على نفسيتك وطرائق تفكيرك واختياراتك الآن وأنت في عقدك الرابع؟
- باعتباري كنت راغباً ولم يكن أحد قد فرض عليَ هذا التوجه ووالدي لم يكن متشجعاً لكي اذهب للدراسة الدينية في البداية، وكان سبب ذلك خوفه عليّ من ان اذهب إلى العراق وأتغرب في سن مبكرة، لذلك كنت مرتاحاً لتوجهي. اشعر بالفعل بأنني لم أمارس اللعب بالمقدار الكافي في مرحلة الطفولة كبقية أقراني إذ كنت أمارس بعض الألعاب لفترة وجيزة وبسيطة ولكن بالفعل هذا التقولب في هذه المرحلة المبكرة حرمني من استرسال في مرحلة الطفولة، لكني اشعر بامتلاك حصيلة ما من التجارب في مجال العمل الديني والاجتماعي لبدايتي المبكرة.
(انتهت الحلقة الأولى)
----------------------------------------------------------------------------------
اقرأ إجابات الشيخ حسن الصفار لأسئلة مكاشفات:
· جوهر التشيع هو سياسي بالدرجة الرئيسة وسأشهر لك مسألة الإمام الغائب وهو أحد أركان المذهب الشيعي.
· سادت كثير من الأيديولوجيات السياسية كالشيوعية والبعثية والقومية والناصرية منطقة القطيف..هل السبب عدم إيمانهم بالمذهب؟
· هناك اتهام دائم يوجّه إليكم في مسألة الانتماء والولاءات الخارجية والهوية ..هلا حددت لنا الموقف بكل صراحة ؟
· لماذا طالتكم الاعتقالات العراقية وأنتم في النجف..هل السبب نشاطكم السياسي؟
· من كان يصرف عليكم وأنتم في النجف وقمّ .. وكم كان عدد السعوديين منكم هناك .