قصائد العزاء والاطلاع التاريخي
قصدت الاطلاع ولم أقصد التخصص، فليس المطلوب ممن يكتب القصيدة في المناسبات أن يكون متخصصاً في التاريخ، ولا عالماً به، أو باحثاً في أحداثه، بل يكفي أن يكون مطَّلعاً ولو في حدود الحادثة أو الواقعة التي ينوي كتابة الشعر عنها وفيها.
وفي اعتقادي أن الاطلاع التاريخي على البقعة الزمنية أو الظرفية والمكانية أو على الحياة الشخصية للرمز الذي يريد الشاعر الكتابة عنه توفر له العديد من نقاط القوة في عمله:
1 - الاطلاع المباشر والمفصل على حادثة ما يجعل الإنسان قادراً على رسم الصورة الحقيقية لتلك الحادثة، إما بكل أبعادها أو أنه إذا اختار بعداً ما فلن يجعله متصادماً مع الأبعاد الأخرى، وذلك لاطلاعه ومعرفته.
ولتوفر عناصر عديدة لدى الشاعر بفعل قراءته واطلاعه سيتمكن من المزج بين العقلي والعاطفي والعقدي والثقافي والأخلاقي فيما يريد الكتابة عنه، وستكون القصيدة علماً وفهماً وعمقاً وروحاً يستفيد منها السامع في الوقت الذي تحاكي عواطفه وتستدر دمعه على حقائق وأحداث حصلت ووثقت.
2 - العاطفة الحقيقية: سيلتزم المطلع على التاريخ بعاطفة دافئة، تحركها الحقيقة، ويلهبها القرب والملامسة، وتفجرها قناعة الإنسان بحصول هذه الفجائع على كرام الخلق وطريق الهداية إلى الله.
هذا الاطلاع والتوثق يعزز في الإنسان دمعته الحارة، فتجري بسخاء، وتنهمر بغزارة وهي تقرأ التاريخ، وتستنطق أحداثه، وتقلب صفحاته لتقاربها مع واقع الإنسان، فتحفز فيه روح المسئولية والعمل من أجل تلك القيم والأهداف الكبيرة التي استشهد من أجلها أصحاب المناسبة ، ستكون القصيدة محرقة لقلوب المؤمنين لأن صدقها عند كاتبها يخرجها حمماً في أبياته المنبعثة من أعماقه،الأمر الذي يساعد على تحول العاطفة المجردة إلى عاطفة مسئولة، تتخذ من طريق المعصوم وهديه مسلكاً في الدين والأخلاق والتعامل الحسن.
3 - اللَّبس: الاطلاع يبعد الإنسان عن الوقوع فريسة اللَّبس والدسّ، ويجنبه والعاطفة المندفعة التي لا تعرف الحدود، تلك العاطفة التي أدخلت بعض الأمور والتصورات باعتبارها أحداثاً تاريخية، وإن لم تكن قد حصلت بالفعل، أو كان البحث والتحقيق لا يساعد على قبولها، تماماً كما راجت ولفترة قريبة قصة زواج القاسم بن الحسن ، في حين أثبت المحققون أن الحادثة لم تحصل، وأن تفاصيلها التي راجت على الألسن لا تساعد الروايات التي نقلت مشهد كربلاء عليها، وتفصيل ذلك يطلب في الكتب المخصصة.
وقد يقول قائل: وهل يأخذ الناس تاريخهم من قصائد العزاء واللطم؟
وأجيب لا يجب عليهم أن يأخذوا تاريخهم من تلك القصائد، ولكنها دون أدنى شك ستؤثر، خصوصاً وهي تلقى في أوقات عاطفية وروحية خاصة، مع ما يصحبها من حشد كبير وأصوات مؤمنة ومتحمسة لقضايا المعصومين، ومعتقدة بما حل بهم من ظلم واضطهاد، وهذا ما يجعل قبول ما يقال والاعتقاد به ممكناً ولو كان في قصيدة عزائية، إنه تأثير الحشد والعاطفة والتفاعل القائم.
ثم إن في الحضور كثير من الأطفال والشباب الذين لا يحضرون للقراء المطلعين إما لانشغالهم بأعمالهم أو بسبب ظروفهم، وهؤلاء يبحثون أحياناً عن أية فرصة يشاركون فيها أهل العصمة مصابهم وعزاءهم، فماذا عن أمثال هؤلاء إذا أخذوا في أجواء الحشد والحماسة.
وكذلك يمكن القول إن أغلب الناس ليسوا مشغولين بالبحث والتنقيب لمعرفة صدق ما قيل من التباسه.
فكلما كان شعراؤنا على اطلاع واسع بالتاريخ كلما كانت بضاعتهم المقدمة للناس في نظم أبياتهم وقصائدهم حقة وسليمة وصادقة.
إنما يكتب الشاعر قصيدته بحثاً عن ثواب الله سبحانه وتعالى، وتمام الثوب يحصل حين يكتب الإنسان عن معرفة ودراية وتثبت.