الدين وفاعلية القيم
لم يكن الواقع الذي عاشه الرسول (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم) بحاجة إلى مجرد نظريات وقيم مجردة، لا تستطيع التأثير في سلوكيات أبناء المجتمع أفراداً وجماعات، بل كان واقعاً يحتاج إلى المثال والنموذج، ليقرأ الناس في هذا الدين الجديد مستقبلهم ونمط حياتهم, وجهتهم التي يحثون السير إليها.
يؤكد القرآن الكريم أن جزءا من الصدام بين الرسل وبين أقوامهم، كان منطلقا من أن النظرية والقيم الدينية التي جاء بها الرسل تدعو في روحها وجوهرها إلى تغيير السلوك على أرض الواقع, ولذلك كانت بعض نقاشاتهم تركز على الأثر والمؤدى الذي توصل إليه تلك الطقوس والعبادات الدينية، فخشيتهم ليست منها بل خوفا من مفاعيلها ومتطلباتها ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء﴾. كانت قوة الدين هنا في قدرته على تغيير سلوك الناس وتبديل واقعهم, واستحداث معادلات جديدة ما عهدتها مجتمعات الظلام، وإيجاد أنساق أخلاقية يومية ترتبط بشئون حياتهم في شتى نواحيها. النزول للواقع والنهوض به, والاستجابة للتحديات الميدانية ومحاولة تطويعها, وانتشال الناس من أسفل سافلين إلى أحسن تقويم, كانت تلك الأمور تشعر بدين يتفاعل مع الحياة ويخدم من أعتنقه وآمن به, ويؤتيه في الدنيا حسنة قبل حسنات الآخرة. الانتقال من سلوك العبودية إلى ممارسة الحرية كان انتصاراً للدين, المساواة بين الناس فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى كانت قوة حقيقية لهذا الدين, المؤاخاة بين المسلمين (المهاجرون والأنصار) كانت تغييراً غير متوقع في حياة أولئك النفر القليل, محاربة وأد البنات شكلت منعطفاً يستقطب النفوس ويدفع المرأة للإحساس بقيمتها وكرامتها. الفرق كبير جداً بين روح الدين التي كان يبثها رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم) في توجيهاته وتبشيره بقيمه وتعاليمه, والتي كانت تدفع الناس إلى سلوك معين وتكبحهم عن سلوك آخر, وبين قشور الدين التي نحاول كدعاة ومذكرين نشرها بين الناس. سلوك الشباب يزداد بعداً وانفضاضاً عن الدين مع كثرة مساجدنا وخطبنا وفضائياتنا, وقيم الدين التي كانت تلج النفوس والقلوب فتزاحم السلوكيات المقيتة وتصلحها بل قد تستأصلها وتطردها أحياناً أصبحت اليوم في تراجع أمام سلوكيات جيل نحن قصرنا في نصحه وإرشاده وتحفيز دواعي الخير في نفسه. وإذا كانت المعادلة مكونة من ثلاثة أطراف هي المبلِغ ومادة التبليغ والمبلَغ «المستقبل» وعرفنا أن مادة التبليغ حفظها الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ وعرفنا أنه سبحانه وتعالى قد أخبرنا بأن لتذكيرنا أثره البالغ بقوله: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾. فعلينا أن نتجه لأمور ترتبط بالدعاة وتأثير حالتهم النفسية والسلوكية على من يبلغون لهم «المثال»، ومنها القالب والطريقة التي تعالج بها قيم الدين التي حفظها الله فنجعلها مقبولة ومشجعة للآخرين ليهتدوا بها وهذه الأمور وسواها تحتاج حديثا مستقلا.