وداعا أيها الشهر الكريم
بقيت أربعة أيام ويبزغ هلال شهر شوال معلنا نهاية شهر رمضان المبارك، لتختفي من حياتنا العامة مظاهر إيمانية وروحانية لا تقدر بثمن، نذكرها ونتحسر عليها ونسأل الله أن يعيدنا على أمثالها في صحة وعافية وأمان.
وإذا كانت حكمة الله اقتضت نظاما بموجبه تكون ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ﴾، فإنها ارتضت لنا دينا وخلقا وسلوكا لا يتغير بتغير الشهور ولا يتبدل بتبدل الأزمان، ولا يتأثر بتعاقب الليل والنهار.
والسؤال كيف يمكن أن تستمر معنا أخلاقيات الشهر الكريم وقودا وطاقة ومحركا حتى نستقبل شهر رمضان من العام القادم، ونعزز فيه قيمة ما ربحناه في العام السابق؟
لا شك في أن غاية الجميع في هذا الشهر الكريم هي العتق من النار والتسجيل في قوائم المؤمنين السالكين إلى جنة الخلد، لكن بعضنا يركز أدعيته على الآخرة والموت والعذاب والجنة والنار، ويغفل الطريق الموصل للجنة والمعتق من النار.
لا يعني هذا أن نغفل عن آخرتنا في مناجاتنا وأدعيتنا، ولكني أردت القول ان طريق الجنة وطريق النار يرسم ويمتد من خلال سلوكنا وتصرفاتنا اليومية والحياتية.
إننا بالقدر الذي نتجه فيه بالدعاء (اللهم اعتق رقابنا من النار) فإن هناك أدعية علينا أن نستذكرها ولا نغفلها (اللهم حسن سلوكنا مع عيالنا، وأخلاقنا مع جيراننا، وكرمنا مع من حولنا، وارفع الغضب والعصبية والاكفهرار عن وجوهنا، واجعلنا ممن يؤدي الأمانة ويبعد عن الحرام ويحب الناس، ويساعد الفقراء ويحن على الضعفاء.. إلى آخر القائمة).
مشكلتنا أننا نريد الجنة ليس بعملنا الصالح، ولا بجدنا وجهدنا , ولا بكون دنيانا مزرعة لآخرتنا، ولكن بالقفز عن كل ذلك كله إلى نظام المغفرة والعفو الإلهي.
لا شك في أن الله كريم على عباده ورحيم بهم، لكنه له سنن وقوانين وأحكام لا يقبل التعامل معها بالقفز، اعتمادا على معادلة المغفرة والتجاوز، ولو لاحظنا القرآن الكريم فسنرى العديد من الآيات تربط التوبة على العبد بإقلاعه عن الخطأ وإصلاحه للخلل ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
إن الاعتماد غير المتوازن على مغفرة الله سبحانه وتعالى يحول الإنسان إلى زاهد في الأعمال الصالحة، ومقل من السلوكيات المستقيمة، وقد ينحرف عن الجادة ولا يبالي، وهذا هو الخسران المبين.
وهناك مشكلة أخرى تبدو واضحة المعالم في أغلب تفاصيل حياتنا وهي التعامل مع الحالة الدينية والروحية تعاملا موسميا، فينتهي شهر رمضان مثلا وتنتهي معه أخلاقيات الصائم، ويعود بخله وشحه، وقلة تلاوته للقرآن الكريم، وعزوفه عن العبادة، وقطعه لرحمه.
ربما شاهد بعضنا كيف يتعامل الإنسان تعاملا لحظيا مع العبادات التي يفترض أن ترفع من قيم التعامل السلوكي والأخلاقي بين الناس، وربما أصابت بعضنا الدهشة حين يرى مثلا بعض المصلين في عراك مع بعضهم لتزاحم السير، فإذا بالكلمات السيئة تخرج من هذا أو ذاك المصلي، الذي لم تمض عليه خمس دقائق منذ غادر محل سجوده وصلاته.
أعود للقول إن شهر رمضان الكريم قد يبقى في أعماقنا لسنة مقبلة حتى رمضان المقبل، وقد ينتهي في اليوم الأول من شوال، وهذا يعتمد على قدرتنا في الالتصاق والالتزام بما توفر لنا من نصيب كسبناه في هذا الشهر المبارك على صعيد العبادة والروح، وعلى صعيد الأخلاق والسلوك، وعلى مقدار الوعي العملي بأن الآخرة هي حصاد الدنيا.