د. سميرة البيات لملحق الرسالة: من وحي الحوار والمكاشفات القاسمية الصفارية
الدكتورة سميرة عبد الله البيات - « صحيفة المدينة - ملحق الرسالة » - 16 / 12 / 2004م - 10:08 ص
طالعتنا جريدة المدينة الغراء بدءاً من تاريخ 1 / 10 / 2004م وعلى مدى حلقات خمس بحوار ممتع وجديد في نوعه على صحافتنا بين الصحفي اللامع عبد العزيز محمد قاسم والشيخ الجليل حسن الصفار, وقد توقعت وأنا أطالع هذه السلسة الذهبية من الحديث أن أجد فيها هذا الزخم الكبير من الأفكار والموضوعات التي تطل برأسها من ثنايا كلمات كلا المتحاورين, فالصحفي يعي تماماً عواقب ما سيقدم عليه من عواصف وأعاصير ما بعد مواجهة الشيخ ولذا فقد راح يجيش جيشه ويحشد جنده ليضع معارضيه في نفس خندقه ليدافعوا معه أو عنه, والشيخ رأى في ذلك فرصة لا تعوض لعرض معاناة أمة من الناس لا ذنب لهم إلا أنهم يختلفون في ممارسة بعض شعائرهم «مع وجود أدلة شرعية تؤيد هذه الممارسة وإن كانوا غير مطالبين بتقديمها» وهو يريد بهذا العرض أن يفرض واقعاً جديدا يستفيد منه أبناء طائفته ويؤسس لسنة حميدة تضعهم في المكانة التي يراهم جديرين بها في مجتمعاتهم وبين أبناء وطنهم، فاختار يوم الزينة أقصد يوم مجلسه الأسبوعي، وأن يحشر الناس مساءً ليشهدوا مولداً جديداً للبنة تقوي جدار الأمة وتشد من عضده في مواجهة سهام الأعداء الطائشة والتي تريد تمزيق وحدة أمتنا وتقسيمها إلى فرق وطوائف متناحرة.
وفي البداية لابد من التوقف أمام خطوة هذا الكاتب الكبير والتي اختصر بها الألف ميل وأخذ بها زمام المبادرة وحاز قصب السبق بين أقرانه من أبناء مهنته التي أعدها السلطة الرابعة بما لها من نفوذ وسطوة على أطياف المجتمع وتوجيه تياراته الفكرية المختلفة بل وبناء رأي عام مؤثر في توجهات صانعي القرار.
ولا يعني توقفي أمام تقديمه لمكاشفاته تقليلاً لجهده ولا تقليلاً من شأن حججه وبراهينه التي سأتعرض لها بالنقاش والتحليل, بل على العكس تماماً أقدر كل فكرة طرحها مهما سأختلف معها لأنه كاتب واعٍ لهموم وطنه وعلل مجتمعه وأساليب تفكير رموزه الفكرية, وأعتبر أن كل ما ذكره ليس بالضرورة معبراً عن قناعاته الشخصية وإنما هو ككاتب لابد أن يقرأ رد فعل قرائه على ما سيكتب حتى لا يفاجأ به, كما أود الإشارة هنا إلى أن ما هو آت من تعليقي على عموده بجوار المكاشفة الأولى هو أكبر دليل على عمق وثراء ما طرح من أفكار بدليل أنها من وجهة نظري وضعت أيدينا على أمور كنا نعدها من الأمور غير المؤثرة ومجرد تسليطه للضوء عليها وتفكيرنا فيها وجدنا أنها بالفعل مما ينطبق عليه قول معظم النار من مستصغر الشرر, ودعوني أدخل مباشرة في صلب ما كتب في عموده بتاريخ 1 /10 /2004م.
والحق أنني أريد أن استطرد في تحليلي لما بين السطور ولا أريد أن أتوقف فالموضوع أكبر من أن نمر عليه مرور الكرام، وهو ليس مجرد حوار مع أحد المواطنين في المجتمع, فكثير من الحوارات يمكن أن تعتبر أكثر إثارة من هذا الحوار «أقصد الإثارة بالمفاهيم الدارجة في الصحافة» سواء بسبب المتحاورين أو موضوع الحوار أو زمن الحوار ومناسبته التاريخية, لكن لأنها البداية, ولكون كلا الطرفين متحفز لفك رموز الاشتباك بين أبناء الأمة والناتج عن تراكم المداميك المذهبية المتمنعة بهدوء وسلام ودون حدوث أية أضرار قد تنتج من تساقط هذه المداميك على رؤوس من يحاولون ذلك, كان لابد أن يقدم كلا المتحاورين لنفسه وللآخرين ما يكوِّن جدار حماية له من ردود الأفعال غير الموضوعية, أو بأسلوب آخر غير المتوقعة, والأمر بحق يستحق الحكمة في التعامل فمعاول الهدم كثيرة والأيدي التي تمسك بها أكثر والموضوع عميق في جذوره التاريخية.
وليسمح لي المتحاوران أولا بالغوص في أعماق الموضوع لسبر الحقيقة, لماذا هذا الحوار؟
انني أرى أن الهدف الرئيسي لهذا الحوار هو ما ذكره الأخ الفاضل والصحفي البارز في عموده وأشير لهذه الأهداف فيما يلي:
1. الحوار استجابة لدعوات صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمين الأمير عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله. وأتساءل هل كان هناك قرار من ولي العهد بمنع الحوار ثم وافق أخيرا على فتح باب الحوار؟ أو هل نحن بحاجة إلى انتظار توجيه من ولي الأمر ليمارس كل مسؤول عمله على الوجه الصحيح؟ أم هل نحن مقصرون لدرجة أخجلتنا من أنفسنا فرحنا نبحث عمن نلصق به هذا القصور؟ أم أن هناك قوى خفية لها بأس شديد من صالحها منع هذا الحوار ونبحث عمن نحتمي فيه لنبرر هذا العمل؟ وهل كل حوار مع مخالف لنا في الرأي أو الفكر أو العقيدة يحتاج لهذه التبريرات؟
2. الحوار وسيلة لبناء مجتمع متماسك النسيج ومترابط البنيان. هذه حقيقة هامة لا يختلف عليها وأشكر الكاتب الكبير على إبرازها هنا فالحوار معناه الحياة والتعايش ونشر الثقافة حتى لو لم نتفق, فليس الهدف من الحوار هو الاتفاق الكامل والتطابق التام فهذا ضد طبيعة الأشياء.
3. الحوار يهدف للبحث عن صوت معتدل بين الآخر الطائفي شريكنا في الوطن للوصول لأرضية مشتركة نتعايش من خلالها تحت مظلة الوطن الواحد. لعلي هنا يحق لي التساؤل هل الآخر الطائفي في المجتمع كما يسميه الأخ الفاضل يقف على قدم المساواة معه؟ وله من الصلاحيات والقرارات ما يمكنه من فرض أطروحاته وقيمه للتعايش؟ أم أن الهدف هو التعرف منه على ما يحتاجه ليكون مواطناً فاعلاً في مجتمعه ويعالج به سلبيته وتقصيره؟ إنني أشكر الكاتب على إثارة هذه النقطة الهامة فكلنا أمام العَلَمِ سواسية نلبس ثوباً رحيباً اسمه ثوب المواطنة الذي لا يفرق بين مواطن وآخر بسبب جنسه ولا لونه ولا طائفته المذهبية, ولا يعني ذلك أن لنا مطالب استثنائية بل على العكس من ذلك تماماً نطالب أن يكون نصيب كل مواطن من العَلَمِ مثل الآخر تماماً من غير تمييز.
4. الحوار وسيلة للتعامل مع اللعبة السياسية العالمية وجدار عازل يمنع من الصدام مع عواقبها «يشير لتقرير لجنة الحريات بالكونجرس الأمريكي» أرجو أن لا يفهم البعض أن المقصود بذكر هذا السبب أن هذا الأمر لم نشعر به حتى نبهنا إليه بيان الخارجية الأمريكية, كما أني لا أعتقد أن الهدف من وراء هذا السبب هو تهدئة للخائفين لما سيترتب على مثل هذه الحوارات من نتائج قد تهدد مصالحهم وامتيازاتهم, بمعنى أنه مجرد انحناء أمام الريح ويبقى الأمر على ما هو عليه! وأرى أن الهدف من ذلك هو بيان أن ظروف التغيرات العالمية تدفعنا لإعادة النظر في ممارساتنا تجاه أنفسنا والآخرين وهذا أمر رائع يدل على كوننا أحياء في هذا العالم نؤثر فيه ونتأثر به, كما أود الإشارة إلى أن التفاؤل الشديد بنتائج سريعة للحوار ليس أمراً موضوعياً وإنما يجب علينا السعي والأخذ بالأسباب لعلاج الواقع والرقي به للأفضل.
5. الحوار وسيلة للتأصيل التاريخي الموضوعي للحراك السياسي في المجتمع وتأثير ظروف المجتمع على توجهات أفراده وتشكيل اتجاهاتهم. وتلك قضية أخرى على قدر كبير من الأهمية وإلقاء الضوء عليها بشكل موضوعي يساعد بدور كبير على علاج كثير من مشكلاتنا الاجتماعية بموضوعية ويجعلنا نضعها في مكانها الصحيح فلا نحاسب أجيال اليوم على ظروف اضطرتهم لممارسات طبيعية كرد فعل لما تعرضوا له, وكذلك نلتمس العذر لمن يقع تحت تأثير هذه الظروف فيما يصدر منه. وأقول اننا بحق في حاجة ماسة لكتابة تاريخنا كما حدث لا كما يراد لأحداثه الماضية أن تكون تجملاً أو تطرفاً.
والذي أراه في مثل ظروف مجتمعنا أن الهدف الرئيسي للحوار هو التعرف على الآخر والعوامل التي أثرت في نشأته وعلاقة ذلك بظروف مجتمعه بصفة عامة ومنهجه الفكري وتوضيح ما يثار حول مذهبه الذي يدين به لا للحصول على براءة وصك بالموافقة على ممارسة شعائره ولكن لكشف الافتراءات والأكاذيب التي تلصق به والتي يراد بها قيام حواجز نفسية بين أبناء الأمة, ليس بسبب ممارسة شعيرة بعينها وإنما بسبب تعدي أتباع مذهب على رموز مذهب آخر, وبالطبع فأنا أرى الأمر إلى هذا الحد أمرا طبيعيا, لكن البعض يصر على محاكمة فكر الآخر ومعتقده وإصدار أحكام عليه وكأنه مفوض من الله تعالى بما لم يفوض به رسول الله فمهمة الرسول هي البلاغ المبين وليس عليه من حساب الناس على معتقداتهم من شيء, ولا أحسب أن هناك عاقلاً يعطي لنفسه سلطات إلهية بمحاسبة الناس على ما يؤمنون به مهما رأى في نفسه من قدرات علمية أو غير ذلك لأن الحساب في النهاية هو لله وحده.
السؤال الثاني ماذا يتوقع الكاتب من نتائج لهذا الحوار؟
لقد توقع الكاتب الكريم أن تواجه مكاشفاته في هذا الموضوع بردود أفعال غير إيجابية وساق لذلك أسباباً أراها جديرة بالمناقشة, أعرضها فيما يلي:
1. عدم اعتياد الناس لمثل هذا الحوار:
وبالفعل أشاطره القول بأن إلف الناس للشيء يكسر من حدته والعكس صحيح فكثرة هذه الحوارات في وسائلنا الإعلامية, وما أكثرها خاصة الإعلام المرئي والمسموع تجعل الأمر طبيعيا للعامة والخاصة, فليس من المعقول أن تظل البرامج الدينية قاصرة على فئة دون أخرى.
2. الترسبات التاريخية وتشمل:
أ- الجذور التاريخية التي تقف حائطاً صلباً أمام قبول الآخر: ويحق لي هنا التساؤل كم من الأمة تعرف تاريخها لا أقول كما حدث بل حتى كما سجله المؤرخون بغض النظر عن رؤيتنا له؟ نحن أمة لا تقرأ وهي بهذا فريسة لأصحاب الأهواء, ولا أحسب أن هناك من يقر التعامل مع الآخرين على أساس ماض رسمه في ذهنه ونسج خيوط أحداثه في خياله, لنحرر التاريخ من هذه القضية وأرى في تصحيح مناهج التاريخ التي يدرسها أبناؤنا أهم وسائل تبرئة التاريخ
ب- التحالف التاريخي بين الشيخ والإمام: حقيقة أنا لا أدري من أين أتى هؤلاء بمثل هذه الفرى على الشيخ محمد بن عبد الوهاب والامام محمد بن سعود وهل يقصدون أن هذا التحالف قام على تقسيم الأمة إلى فرق متناحرة؟ أم أن هذا البناء العظيم أقيم على تقسيم أبنائه إلى طبقات سادة وعبيد؟ بمعنى أن هذا البناء أسس على الظلم, حاشا لله أن يكون الأمر كذلك وإنما الأمر من وجهة نظري لا يعدو كونه بحثاً عن الأعذار, وتحايلاً على الأسباب الحقيقية, والتاريخ يخبرنا أن التعامل بين أبناء المجتمع السعودي كان في أفضل حالاته ولم تطف مثل هذه القضايا على السطح من أي مسؤول عبر تاريخنا ويشهد تاريخ الآباء والأجداد بالتعاون بين أبناء الوطن بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية ويا ليت الإعلام يجعل من ذلك مادة لموضوعات توحد الأمة بزيارات لكبار السن ومناقشاتهم في الواقع الاجتماعي لبلادنا قديماً, ولماذا طفت هذه الأمور بهذه الشدة في هذه الأيام, وما هي الأوساط المستفيدة من ذلك وتغذيه؟
3. عوائق الاعتراف بالآخر والناتج عن الأسباب السابقة:
هذه معضلة كبرى في فهمنا لعلاقتنا بالآخر فنحن نفترض دائماً أننا نتحاور لنحصل على حق الوجود من الآخر, ولعل هذه النقطة بالذات تفتح باباً كبيراً من النقاش، فلا شك أننا نهدف أيضاً من وراء مثل هذه الحوارات والمكاشفات لإثارة دافعية أبناء الأمة على مختلف مذاهبهم ليحققوا مراد الله تعالى من خلقهم ليكونوا خلفاء له في الأرض وليتعارف بعضهم على بعض, وليعمروا الأرض التي أنشأهم الله منها, وليبرز كل منهم كوامن إبداع الله تعالى فيه كمخلوق فرد لا يتكرر في غيره ليحققوا بإبداعاتهم سنة الاختلاف في الكون.
4. كثرة العوائق التي تحول دون التعايش تحت مظلة وطن واحد:
حقيقة أنا اختلف مع هذا السبب كثيراً لأن الواقع لا يقول ذلك ولا التاريخ ولا الجغرافيا, ولكن الكاتب يستشرف بهذا السبب من وجهة نظري الواقع الاجتماعي المتأصل من ممارساتنا مع بعضنا.