رحلة الحج... من العبادة إلى التجارة
توسع الفقهاء كثيراً في بحث الاستطاعة، فأفردوا لها عناوين عديدة، وفرعوا لها فروعاً كثيرة، ذلك أن في الحج من المشقة والتعب والبذل ما ليس في غيره من العبادات، وقد استفادوا من الآية القرآنية المباركة «وللهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ مَنِ استَطاع إِليْهِ سبِيلاً» (آل عمران: 97)، العديد من الأبحاث والأحكام الفقهية.
في الاستطاعة المالية الواجبة في الحج تفرع الفقهاء كثيراً، وقد أفتى بعضهم بعدم توفر الاستطاعة في المديون الذي لا يتمكن من أداء دينه مع الحج، وفي من تعلق حق الله بماله من زكاة وغيرها، وفي من كانت أولويات حياته ضاغطة عليه ولا يتمكن من إكمالها مع الحج، كمن كان بحاجة إلى الزواج أو العلاج الذي لا يتمكن معه من توفير تكاليف الحج، وفي من تتأثر نفقة عياله بذهابه للحج، أو يعود من حجه وقد خُنق مالياً ومعيشياً، وغيرها الكثير من الأمثلة، ما يدل على أن الحج مستنزف قوي للمال.
مقابل ذلك هناك العديد من المرويات التي تؤكد أن «الحج ينفي الفقر»، و «تَابِعُوا بين الحجِ والعُمْرةَ، فإِنهما ينفِيانِ الفَقْر».
ربما يكون الغنى ظاهرياً ملموساً ومحسوساً، حيث يتوفر للإنسان مقدار وفير من المال بين يديه ينفي فقره أي يزيله، وربما يكون معنوياً نفسياً، يشعر الحاج فيه بارتباطه بالخالق الرازق المتفضل، وينفتح قلبه على نعمه وعطاياه فلا يشعر بحاجةٍ لغيره، وهذا هو غنى النفس والقلب، وهو درجةٌ متقدمةٌ لا تجرف صاحبها لآثار الفقر السيئة، حيث يشعر الفقير بعزته وكرامته ومكانته أمام الآخرين.
أحياناً يمكن تصوير الأمر بشكل مختلف، فهذه الروايات التي تتحدث عن نفي الفقر، قد تكون تحفيزاً للإنسان ليتحرك باتجاه الرزق من خلال أشهر الحج، وخصوصاً في تلك السنين الماضية، التي كان الناس يتواجدون أياماً كثيرةً في أماكن الحج، ما يعني حركة اقتصادية كان الشارع المقدس يلفت الانتباه لها، وربما في تعبير القرآن الكريم ما يوحي بذلك «لِيَشهدُوا منافعَ لهُم» (الحج: 28)، مع التأكيد على عدم اختصار المنافع في الآية على الكسب المادي فقط.
هناك آيات كثيرة تتحدث عن سعة الرزق والبركة بفضل العبادة والتقرب إلى الله سبحانه، كقوله تعالى: «ومَنْ يتَقِِ اللهَ يجعلْ لهُ مَخرَجاً» (الطلاق: 2)، وكقوله تعالى «ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا واتَّقَوا لَفَتَحنا علَيهِمْ بركَاتٍ من السَّماءِ» (الاعراف: 96).
المتأمل لبعض الآيات القرآنية يلحظ أن بعضها لا تربط الرزق بمعادلات أرضية، بل تجعله، كمّاً وكيفاً، مرتبطاً بالتقرب من الله والطلب منه «فَتَقَبَّلها ربُّها بِقَبُولٍ حسَنٍ وأَنبتها نباتاً حسناً وكَفَّلها زكرِيَّا كلّما دخل عليها زكريَّا المِحرابَ وجد عندها رِزقًا قَال يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ من عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ من يشاء بِغيرِ حسابٍ» (آل عمران: 37)... نعم بغير حساب وبغير حد وبغير كيف.
ليست العبادة هنا بديلاً عن السعي والكسب الحلال، فهذا سلوك لا يقبله القرآن، بل يحث على أن ينطلق الإنسان من عبادته وإيمانه إلى رزقه ليبارك له فيه «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِروا في الأَرضِ وابتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ» (الجمعة: 10).
الربط بين العبادة والرزق يحتاج إلى الكثير من البحوث التي يمكن للمشتغلين بعلوم القرآن الكريم أن يعرضوا رأيهم فيها، بمعنى تبسيطها وتقريبها إلى الأذهان، ليبدأ الناس مشوار تجارتهم من العبادة.