الشيخ الصفار وخطاب الاعتدال
الشيخ حسن الصفار، أحد كبار علماء الدين في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، ومن المفكرين البارزين الذين توسعوا في تقديم رؤية واقعية متقدمة وعميقة لواقع ومستقبل التعايش المذهبي في المنطقة، وهو يحرص عمليّاً، على تأسيس علاقات مفتوحة مع جميع الشخصيات والأطياف الفكرية والمذهبية في المجتمع، وقد شهدتُّ شخصيّاً عدداً من هذه اللقاءات سواء في مكتبه بالقطيف أو في مملكة البحرين الذي يتردد بين حين وآخر خطيباً رئيسيّاً في محافلها وفعالياتها الدينية.
ومنذ أن عاد الشيخ الصفار من مهجره الدمشقي على إثر المصالحة الوطنية التي تمت بين المعارضة والنظام في عهد الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز (ت 2005) مطلع تسعينات القرن الماضي، دشَّن الشيخ رؤية جديدة للعمل في الداخل ترتكز على ثلاث دعائم: الانفتاح على الدولة، النهوض بواقع مؤسسات المجتمع المدني وبناء ورعاية قدراته، وأخيراً التعاطي الإيجابي مع المحيط عبر التواصل مع رموز المذاهب الاسلامية داخل وخارج المملكة. وقد قدم طوال أكثر من عقدين ونصف في كل هذه المحاور الثلاثة جهوداً جبارة على المستويين التنظيري والميداني.
في مكتبه في حي الجزيرة بمحافظة القطيف، حظيتُ قبل أيام بلقاء مع الشيخ الصفار، سألته عن مواضيع كثيرة، وأجاب بتلقائيته وصراحته المعهودة، لكنه، كعادته دائماً، سألني عن تطورات الوضع البحريني العام، وركّز بشكل خاص على الحراك الثقافي الذي يراه ضعيفاً، ولايتناسب مع الحيوية والألق العلمي الذي كان للبلاد في تاريخه الغابر، قلت: نعاني من فوضى في الأولويات والتسيس جزء من المشكلة، لدينا واقع مسيّج بالتسيس، وعقلية ابن البلد، على الأغلب، تعتبر القضايا الثقافية شأناً تَرَفيّاً. لكنه تحدث عن مسئولية المجتمع في تغيير ثقافة أبنائه مشيراً الى حقيقة أن ظاهرة التراجع الثقافي في البحرين – وضمنًا بالطبع يدخل تراجع الخطاب الديني - سبقت اندلاع الأزمة السياسية الأخيرة كما لاحظ، وأنها فاقمته فحسب.
وبصفته عضواً في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وفي الجمعية العمومية للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وكان قد شارك في مؤتمرات للحوار الوطني بالمملكة العربية السعودية حرصتُ على أن أسأله عن إمكانية ولادة مبادرات سياسية تنطلق من المجتمعات الشيعية لتحريك الأوضاع باتجاه فتح قنوات تواصل مع الدولة في كل من البحرين والسعودية وصولاً إلى تسويات كبرى تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، أكد الشيخ أن الحاجة باتت ماسة في ظل الأوضاع الحالية إلى ضرورة بناء نخب شيعية «مدنية» قادرة على التواصل مع الدولة وترتيب الأوضاع الداخلية لدولنا، وقال: «بتُّ على قناعة الآن أكثر من أي وقت مضى بأن على (عالم الدين) أن ينأى بنفسه عن العمل السياسي، فهو غير قادر على أداء دوره بحياد في ظل القيود والضغوط التي يفرضها المجتمع عليه» ويضيف: «عالم الدين غير قادر في مجتمعنا اليوم على القيام بمسئولياته بحرية تامة، فهو دائماً مقيّد بتوقعات المجتمع ورغبات الفاعلين فيه، ومن شأن تصدّي النخب الشيعية «غير العلمائية»، أعيان ووجهاء ومثقفين، للعمل في قضايا الشأن العام أن تفيد منه الطائفة والدولة معاً».
في الأزمات والمنعطفات الحادة، تبدو الجماهير تواقة للإصغاء إلى الأصوات المتشددة، لكن الحاجة تبقى ضرورية دائماً للاستماع إلى الأصوات الحكيمة والعاقلة، وفي الغالب فإن هذه الأصوات لايُسمع صوتها مع ضجيج الأحداث وتراكم الأخطاء إلا بعد فوات الأوان.
وانطلاقاً من ركائزه الثلاث، التزم الصفار موقفاً متحفظاً من الحراك السياسي الذي شهدته المنطقة ونأى بنفسه عن الانخراط في تأييده، ؛ لأنه لم يعد يؤمن بأن الصدام مع الدولة أياً تكن بواعثه خياراً صائباً، فضلاً عن أنه خيار يصطدم - في الجوهر - مع مشروعه الهادف إلى تعزيز حالة التعاون والثقة مع الدولة والتأسيس لعلاقات وديّة عابرة للمذاهب، والعمل على ترتيب البيت الشيعي على الصعيد الإنساني والاجتماعي والإنمائي ضمن رؤية وطنية ومرنة تعترف بالآخر.
الصفار، طرح في اللقاء أكثر من قضية وفتح أكثر من ملف إشكالي، العلاقة مع الدولة كان أحدها، لكنه أيضًا طرح إشكالية تراث الخصومة الذي يحضر بقوة في الخطاب السياسي والاعلامي ويؤجج الخلافات المذهبية ويشحن عقلية الجماهير بسموم الكراهية، وهو خطاب طائفي تفاقم بصورة مرعبة، وأخذ يغذي صراعات المنطقة الدموي منذ العام 2003م.
وتحدث عن ضرورية مسئولية علماء الشيعة في تنقية التراث الشيعي مما علق به، وأكد أن الشيعة مسئولون – كما غيرهم - عن التعاطي النقدي على الموروث العقائدي والروائي الدخيل إذا ما أُريد لمساعي التقريب أن تنجح فعليّاً، وانتقد الشيخ الصفار بعض الظواهر السلبية الموجودة في بعض الأوساط الشيعية المتشددة كالتعرض لصحابة الرسول الأعظم والطعن في أمهات المؤمنين، وقد حرص على إهدائي في ختام اللقاء كتاب «أمهات المؤمنين على ضوء مصادر الشيعة» للشيخ حسين علي المصطفى يقدم فيه الكتاب رؤية منصفة لأمهات المؤمنين ويوضح مكانتهن وعفتهن وبراءتهن مما ينسبه لهن بعض الموتورين الغلاة.
الشيخ الصفار صاحب بيان عذب، ومنطق جميل، ورؤية واضحة، وخطابه الديني معتدل وفيه مساحة واسعة من الاهتمام بشئون الحياة وقضايا المجتمع، والنهضة وبناء الشخصية، وبث ثقافة الوحدة والتسامح وحماية حقوق الإنسان. ومهاراته الخطابية بدأت تبرز بوضوح منذ صغره، وقد بدأ ممارسة الخطابة العام (1968م) وعمره احدى عشرة سنة!!
وقلمه لا يقل جمالاً وفائدة عن خطاباته التي تكتسب راهنية، وتتميز بالعمق والرصانة العلمية، وقد أصدر ما يزيد على مئة كتاب في مختلف مجالات المعارف الدينية والثقافية، وترجم بعضها إلى لغات أخرى، ومن مؤلفاته المطبوعة»التسامح وثقافة الاختلاف: رؤى في بناء المجتمع وتنمية العلاقات»، و»التنوع والتعايش» و»أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع» صدر منه 10 مجلدات. و»السلفيون والشيعة نحو علاقة أفضل» وغيرها. وكان ولايزال يمارس دور الريادي في حركة التواصل والانفتاح مع مختلف الأطياف والتوجهات في الساحة الوطنية والإسلامية.
أعتقد أن إبراز هذا النوع من الشخصيات الاسلامية والعلمية المرموقة في إعلامنا، والاصغاء لطروحاتها وآرائها يعطي فرصة لتجاوز الأخطاء وتصحيح المفاهيم، كما ويعطي صورة جميلة للاسلام المتسامح الذي يحث على التعايش وقبول الآخر واحترام الحالة التعددية في مجتمعاتنا.