من أجل السلم والاستقرار
السيرة النبوية ليست مجرد فضائل باهرة تزيدنا فخراً واعجاباً برسول الله (ص)، ولا مجرد مواقف وصفات اخلاقية تتميز بها شخصيته الكريمة، بل يجب ان نقرأها كنهج لحياتنا الاجتماعية، وبرنامج لنظامنا السياسي.
فمن خلال هذه السيرة اراد رسول الله (ص) ان يحدد معالم النظام السياسي لادارة المجتمع الاسلامي، تلك الادارة التي ترفض العنف لغة في التعامل مع الشعب، وتبني دولة اللاعنف، بحيث يجد الناس امامهم فرصة التعبير عن آرائهم وأفكارهم، مهما كانت مخالفة لتوجه القيادة، دون ان يتعرضوا للتصفية او التنكيل.
وما نراه الآن في واقع المجتمعات والامم المتقدمة، التي تضمن حرية الرأي لمواطنيها، وتوفر لهم فرص التعبير عن افكارهم وتوجهاتهم السياسية، عبر الاعلام والمؤسسات والتجمعات السلمية، مهما كانت مخالفة لادارة السلطة، انما هو تطبيق معاصر لنهج سلكه رسول الله (ص) قبل خمسة عشر قرناً بشكل اوفى واكمل، وفي بيئة متأخرة متخلفة، قد ألفت الحروب والعنف، وانسجمت مع منطق القوة والسيف، باعتباره أفضل الوسائل والسبل للتعامل مع الرأي المضاد والموقف المخالف.
لذلك نقرأ إلحاح الاصحاب المحيطين برسول الله (ص) على قمع اي معارض وضرب عنقه، دعني اضرب عنقه، دعني اقتله. لكنه (ص) رفض عنف الدولة، وأسس لدولة اللاعنف. مع ان الدولة الدينية او الايديولوجية بشكل عام عادة ما تكون أكثر شدة وعنفاً حسبما يسجل التاريخ.
بالطبع نحن نعتقد ان تلك السياسة النبوية لا تنطلق من حالة ذاتية، وليست نابعة من قناعة فكرية شخصية عند رسول الله (ص)، او ناتجة عن خلق نفسي خاص لديه (ص)، بل هي فوق ذلك شريعة إلهية، ووحي ربّاني، فإن خالق الناس هو الذي منحهم الحياة، وأنعم عليهم بنعمة العقل ليفكروا من خلاله، واعطاهم القدرة على التعبير عن مكنونات انفسهم وحركة عقولهم، كما يقول تعالى: ﴿خلق الانسان، علمه البيان﴾، وبذلك فانه تعالى لا يسمح لاحد ان يصادر من خلقه ما منحه لهم، ونعمه عليهم، إلا بمبرر قاطع واضح يقبله الخالق نفسه جل وعلا.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الرسول محمداً (ص)، كان يدرك انه يقوم بدور التأسيس والبناء لامة يريد لها الله تعالى ان تكون خير امة أخرجت للناس، وهو يعلم ان سيرته الشريفة بما تشتمل عليه من اقوال وافعال ستكون حجة ملزمة، وسنة شرعية، لذلك كان (ص) حريصا ومهتما بحماية حقوق الناس، وحفظ كرامتهم، ورعاية مصالحهم، لتنتهج امته نهج السلم الاجتماعي، ولتبتعد عن طريق القمع والعنف الداخلي، كما يقول تعالى: ﴿رحماء بينهم﴾، وكما حذر (ص) امته من الانحدار الى هوة الاحتراب والعنف الداخلي، في أكثر من مورد.
«ورد في صحيح البخاري عن ابي بكر، عن النبي (ص) قال: »أي شهر هذا؟ أليس ذا الحجة؟. قلنا: بلى، قال: اي بلد هذا؟ أليس البلدة؟. قلنا بلى، قال: فأي يوم هذا؟ أليس يوم النحر؟. قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم واموالكم - قال محمد: واحسبه قال: واعراضكم - عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم، فيسألكم عن اعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلاًلاً، يضرب بعضكم رقاب بعض أَلا ليبلغ الشاهد الغائب، ثم قال: ألا هل بلغت، ألا هل بلغت.»
وعلى مستوى النتائج والآثار فإن ذلك النهج السلمي الذي سلكه رسول الله (ص) وهو الذي مكنّه من تحقيق انتصاره العظيم، وانجازه الحضاري الكبير، الفريد من نوعه في التاريخ، في مدة قياسية من الزمن، وبأقل قدر من الخسائر.
فلو استخدم رسول الله (ص) العنف داخلياً، ومارس القمع تجاه المخالفين لقاد ذلك الى ردود فعل سلبية، على المستويات التالية:
١- قد يزيد من تحدي المخالفين، ويدفعهم الى تصعيد مناوءتهم، وبعضهم قد تكون مخالفته بسبب جهل او انفعال وقتي، فإذا ما قوبل بالقوة والشدة فقد يدفعه ذلك الى الاصرار والعناد، بينما كان حلم رسول الله (ص) غالباً ما يدفع الى التراجع والاعتذار، كما تنص على ذلك الشواهد الكثيرة. والقائد الحكيم كالأب الرحيم يريد صلاح ابنه وليس الانتقام منه.
ان بعض الدول حينما تسرعت في استخدام القمع تجاه معارضيها دفعتهم لسلوك طريق العنف المضاد، مما يسلب أمن المجتمع، ويدخله في دوامة العنف والاضطراب.
٢- استخدام العنف يخلق حالة من التعاطف مع من يقع عليه، وخاصة في ذلك المجتمع الخاضع للعصبيات القبلية. بينما العفو والصفح، يعطي أثراً معاكساً، حيث يتوجه الآخرون باللوم والعتاب للمخالف، ويحمدون عفو المقتدر وصفحه. وهذا ما حصل في كثير من المواقف المذكورة في السيرة النبوية.
٣- سياسة العفو والتسامح وفرّت للدعوة الاسلامية، وللقيادة النبوية سمعة حسنة، ووجهاً مشرفاً امام الرأي العام، مما ساعد على انتشار الاسلام، واقبال الناس عليه، ودخولهم فيه افواجا، بينما لو تعامل رسول الله (ص) بالشدة والعنف، لسبب ذلك تشويها لصورة الاسلام وشخصية النبي (ص)، وهذا ما كان يشير إليه (ص) بقوله: «كيف اذا تحدث الناس ان محمداً يقتل اصحابه».
لكن هذا النهج الحضاري الذي ارساه رسول الله (ص) في ادارة المجتمع وممارسة الحكم والسلطة، تعرض لنكسات مؤسفة في وقت مبكر من تاريخ الامة، بعد عهد الخلافة الراشدة، حيث شرع الحكام الذين جاءوا بعد الخلافة الراشدة من امويين وعباسيين وغيرهم، سياسة القمع والعنف، وخالفوا نهج رسول الله (ص) وخلفائه الراشدين في استيعاب الرأي الآخر، والرفق بالمعارضين والمخالفين.
ودخلت الامة العربية والاسلامية نفق الاستبداد السياسي، وأخذتها دوامة العنف والعنف المضاد، الى الوقت الحاضر مع تفاوت نسبي في الحالات بين الازمنة والبلدان، فلا تكاد تجد عهداً يخلو من الثورات والانتفاضات وحالات التمرد.
وبينما طورت الامم الاخرى تجاربها السياسية الاجتماعية، وأصبحت تعيش حالة الاستقرار السياسي، والانظمة الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، بقيت اغلب بلاد المسلمين تعاني الاضطرابات والازمات، وخاصة البلدان التي ابتليت بالانقلابات العسكرية، والحكومات الحزبية، والتي مارست بحق شعوبها أسوأ ألوان القمع والاستبداد، تحت مختلف الشعارات البراقة.
ان الرأي العام العالمي ينظر الآن الى بلاد المسلمين باعتبارها خارج اطار عالم الحريات وحقوق الانسان، وباعتبارها مسرحاً للعنف، ومصدراً للارهاب، واندفعت مختلف الجهات الدولية لتقديم مشاريعها ووصفاتها لعلاج الواقع السقيم للعرب والمسلمين، كمشروع امريكا للشرق الاوسط الكبير، والمشروع الاوروبي للاصلاح السياسي في الشرق الاوسط.
ان البديل الصحيح لرفض هذه المشاريع الاجنبية، التي لا تخلو من المطامع والاغراض المشبوهة، هو العودة الى النهج النبوي، والتأسي بسيرته الكريمة في نبذ العنف، وارساء السلم الاجتماعي، وحماية الحقوق والحريات.
وكما أمرنا رسول الله (ص) بأن نصلي كما كان يصلي لقوله (ص): «صلوا كما رأيتموني اصلي». فإنه بالتأكيد يأمرنا ان نمارس الحكم والسلطة كما كان هو (ص) يحكم ويدير، قال الله تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾، وقال تعالى: ﴿ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾.
ان التحديات الكبيرة التي تواجهها الأمة لا تسمح لنا بالاسترسال في دوامة الصراعات الداخلية، فلا بد من التوافق والتراضي، ونبذ العنف وسيلة لحل الخلافات، واعتماد الحوار والنهج الديمقراطي السليم.