المواجهة الفكرية هي السبيل
حين يتبنى الإنسان رأياً باعتباره حقاً وصوابا، ويرفض رأياً آخر باعتباره باطلاً وخطأً، فإنه غالباً ما يندفع للانتصار للرأي الذي يؤمن به ويسعى لنشره، كما يهتم بإضعاف جبهة الرأي الآخر، وخاصة على مستوى الرأي الديني والمعتقدات الفكرية.
ومن المشروع أن يجتهد الإنسان في خدمة متبنياته الفكرية، فذلك هو ما يخلق الحراك الفكري في المجتمع البشري، عبر حالة التنافس، واستثارة العقول، وكشف ثغرات الآراء، وإذا لم يهتم أصحاب الآراء بطرح أفكارهم والدفاع عنها تسود حالة الركود الفكري، والجمود المعرفي.
لكن هناك نهجين في الانتصار للرأي:
نهج العنف والقمع لأصحاب الرأي الآخر، بمحاصرتهم والتضييق عليهم، والتنكيل بهم، ليتراجعوا عن آرائهم، ولمنع انتشارها في المجتمع.
نهج المواجهة الفكرية. بالاجتهاد في تبيين الرأي وإثبات صحته وأحقيته بالدليل العلمي والبرهان المنطقي، ونقد الرأي الآخر بكشف نقاط ضعفه، ومكامن الخطأ فيه، وإبطال حججه ومستنداته.
- نهج الجبابرة
استخدام العنف ضد الرأي الآخر نهج خاطئ فاشل، فهو مصادرة لحرية الإنسان في أعمق دوائرها، وانتهاك لأقدس حقوقه وأهمها، كما أن تجارب التاريخ قد أثبتت فشل أسلوب العنف في القضاء على الفكر وإنهاء الرأي.
وعادة ما يستخدم الجبابرة الظلمة هذا الأسلوب، حيث يمارسون العنف والقمع ضد أصحاب الرأي الآخر، حين يكون فيه مساس بمصالح سلطتهم، أو لأنهم يريدون التظاهر بحماية الدين، أو لمجرد فرض هيبتهم وتسلطهم وإرعاب الناس.
ومن المؤسف أن كثيرين من الحكام في تاريخ الأمة الإسلامية قد سلكوا هذا النهج، ليس فقط ضد أصحاب الرأي السياسي المعارض، وإنما ضد الآراء الدينية والفكرية، تارة بعنوان الحرب على الزندقة والإلحاد، وأخرى بعنوان التصدي للبدع والأفكار المنحرفة في الساحة الدينية.
لقد رفع الخليفة المهدي العباسي، والذي حكم الأمة من سنة 158 حتى مات سنة 169هـ، شعار محاربة الزنادقة، حيث بدأت تنتشر بعض أفكار التشكيك في الدين، وبدلاً من مواجهتها بالعلم والمنطق، شهر الحاكم في وجوههم السيف، وكان هناك تسرع كثير في إراقة الدماء واستخدام العنف.
جاء في تاريخ الدولة العباسية للشيخ محمد الخضري بك:
وكان المهدي مغرى بالزنادقة الذين يرفع إليه أمرهم، فكان دائماً يعاقبهم بالقتل، ولذلك كانت هذه التهمة في زمنه وسيلة إلى تشفي من يحب أن يتشفى من عدو أو خصم..
كان كاتب الدنيا وأوحد الناس حذقاً وعلماً وخبرة الوزير أبو عبيد الله معاوية بن يسار مولى الأشعريين، وكان متقدماً في صناعته، وله ترتيبات في الدولة، وصنف كتاباً في الخراج وهو أول من صنف فيه..
حصل حقد عليه من الربيع الحاجب، فوشى عليه عند المهدي بأن ابنه محمداً متهم في دينه، فأمر المهدي بإحضاره (الولد) وقال: يا محمد اقرأ فذهب ليقرأ فاستعجم عليه القرآن، فقال المهدي لأبيه الوزير أبي عبيد الله معاوية بن يسار: يا معاوية ألم تخبرني أن ابنك جامع للقرآن؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكنه فارقني منذ سنين وفي هذه المدة نسى القرآن.
فقال المهدي: قم فتقرب إلى الله بدمه. فذهب ليقوم فوقع.
فقال العباس بن محمد: يا أمير المؤمنين إن شئت أن تعفي الشيخ، ففعل، وأمر المهدي بابنه فضرب عنقه.
هكذا يكون مجرد الاتهام في الدين، والارتباك في قراءة القرآن مبرراً لقتل هذا الإنسان، وأن يُطلب من أبيه مباشرة عملية القتل!!.
وخلفاء آخرون مارسوا العنف والقمع تجاه من يقولون برأي مخالف في مسألة عقدية جزئية، كما حصل في ما عرف بمحنة القول بخلق القرآن.
فقد كان الخليفة هارون الرشيد يتبنى القول أن القرآن ليس مخلوقاً، ويقمع القائلين بفكرة خلق القرآن، حتى قال يوماً: بلغني أن بشر المريسي يقول: القرآن مخلوق. والله والله لئن أظفرني الله به لاقتلنه قتلة ما قتلها أحد. ولما علم بشر ظل متوارياً أيام الرشيد.
وقال بعضهم: دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق، والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد: قتلته لأنه قال: القرآن مخلوق.
وفي عهد الخليفة الواثق العباسي تغير رأي الحاكم، فتعرض من يقول بأن القرآن ليس مخلوقاً للقتل والتنكيل، كما حصل لأحمد بن نصر الخزاعي الذي قبض عليه والي بغداد، وامتحنه الواثق فأصر على رأيه أن القرآن ليس بمخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، فدعا الخليفة بالسيف، وقال: إني احتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده، وضرب عنقه، وأمر به فحمل رأسه فنصب بالجانب الشرقي أياماً، ثم بالجانب الغربي أياماً، وعلقت برأسه ورقة «هذا رأس أحمد بن نصر الذي دعاه الإمام الواثق إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجل الله به إلى ناره».
- طريق الأنبياء
إن الطريق المشروع والنهج الصحيح لنشر أي فكرة ومبدأ، هو عرضها بأحسن بيان، والدعوة إليها بالمنطق والبرهان، والجدال عنها بأفضل أساليب التخاطب مع العقول والنفوس، وذلك هو النهج الإلهي الذي قرره القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
كذلك فإن مواجهة الأفكار الباطلة، والآراء الخاطئة، يكون بنقدها ومناقشتها، وتسليط الأضواء على مكامن انحرافها، ونقاط ضعفها.
إن الرسالات الإلهية تتعامل مع الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً مريداً، ولذلك تحترم عقله وتتخاطب معه، وتراهن على الثقة به وحسن اختياره.
كما ترفض أساليب الهيمنة وممارسة الوصاية الفكرية، بما تعني من تجاهل لدور العقل، ومصادرة لحرية الإنسان.
فالتخاطب مع العقل لا يكون بلغة العنف والقمع، وإنما بمنطق الحجة والبرهان: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾. ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾. ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة﴾. ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾.
تلك هي المبادئ الناظمة للمواجهة الفكرية، لإثبات حقانية الدين وبطلان ما عداه.
ولا يقبل الإسلام الإساءة إلى المخالف في الدين والرأي لمجرد مخالفته، ما لم يمارس عدواناً يستلزم الردّ والردع.
كما لا ينصح الإسلام بالقطيعة مع المخالفين، بفصل وشائج العلاقات الإنسانية والاجتماعية معهم. بل على العكس من ذلك يوصي بالبر بهم والإحسان إليهم ما داموا مسالمين غير معتدين.
يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
وقد ورد في أسباب نزول هذه الآية أن أسماء بنت أبي بكر، قدمت عليها أمها وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، فقدمت على ابنتها أسماء بهدايا: زبيب وسمن وقرظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة: سلي رسول الله ، فقال: «لتدخلها». وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله فاستفتيت رسول الله قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك».
وفي وصية القرآن الكريم بالبر بالوالدين، يشير إلى أن واجب البر بهما، وحسن العلاقة معهما، لا يتأثر بالاختلاف الديني معهما، حتى وإن كانا يضغطان على الولد باتجاه الشرك بالله، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الأرحام والأقرباء، فإن الاختلاف الديني والفكري لا ينبغي أن يؤثر على مستوى التواصل معهم كأرحام، جاء عن الإمام جعفر الصادق أنه سأله الجهم بن حميد قائلاً: يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: «نعم حق الرحم لا يقطعه شيء».
إن على المسلم أن يلتزم حسن الخلق مع كل من يتعامل ويتعاطى معه، حيث ورد عن رسول الله أنه قال: «أحسن صحبة من صاحبك تكن مسلما»، وجاء عن حفيده الإمام جعفر الصادق : «ليس منا من لم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه».