الاجتهاد.. دعوة إلى التجديد
نشرت صحيفة الأيام البحرينية مقالاً لسماحة الشيخ حسن الصفار يوم الأربعاء 14 جمادى الآخرة 1426هـ الموافق 20 يوليو 2005م في عددها الصادر رقم 5976 بعنوان: «الاجتهاد.. دعوة إلى التجديد»، وفيما يلي نص المقال:
تحتاج الامة الى التجديد في الاجتهاد في الفكر والفقه، في كل عصرٍ وزمان، وخاصة امام المنعطفات، فإذا كانت هناك منعطفات كبيرة في حياة البشرية وتحديات تواجهها الامة فإن الحاجة للتجديد تكون أكثر إلحاحا، لماذا؟ لان الفقهاء السابقين اعطوا آراءهم من خلال وضع كانوا يعيشونه، وبيئة كانوا يتفاعلون معها، ولكن مع تغير الاوضاع والتطورات في العالم، يجب الاجتهاد بجرأة وانفتاح، فلعل المتغيرات والتطورات تفتح المجال للتفكير بشكل آخر.
ولا شك ان كثيرا من موضوعات الاحكام الشرعية قد استجدت او تغيّرت عما كانت عليه في زمن الفقهاء السابقين، مما يعني تغيرا في الحكم تبعا لتغيرّ الموضوع. كما ان فرص الفقيه في استقصاء النصوص الشرعية، والاطلاع على الآراء الفقهية وأدلتها، أصبحت اكبر وافضل، فان الفقيه في الزمن الماضي كان يصرف وقتاً وجهداً كبيراً لجمع النصوص والآراء من كتب مخطوطة، او محدودة التداول والانتشار، بينما يستطيع اليوم الاطلاع على أكبر عدد من النصوص والآراء عبر جهاز الحاسوب، وبجهد بسيط لا يذكر.
ولا يمكن تجاهل تأثير التراكم العلمي والمعرفي، فأمام فقيه العصر نتاج علمي معرفي هائل في مختلف مجالات العلوم، بما فيها العلوم الشرعية، حيث أثراها علماء العصور الماضية باجتهاداتهم وآرائهم، فرصيد المعرفة والعلم والخبرة والتجربة المتوفر اليوم اعظم وأضخم مما كان متوفرا في الازمنة السابقة.
صحيح ان الفقهاء في العصور المتقدمة يمتلكون ميزة القرب من عصر النص، لكنهم يفتقدون ما اشرنا إليه من امتيازات معاصرة.
وقد تنتصب امام الفقيه عوائق مختلفة تعترض طريقه لتجديد الرأي والنظر فيما هو موروث مشهور، او سائد متداول من الآراء الفكرية والفقهية.
وابرز تلك العوائق: سيطرة الاجواء المحافظة التي ترفض الرأي الاخر، ووجهة النظر المخالفة، في الحوزات العلمية والاوساط الدينية غالبا.
حيث ينظر البعض الى الرأي الجديد وكأنه بدعة او خروج عن الاطار الشرعي، او تهديد للعقيدة والاصالة وثوابت الدين.
وقد تدخل الاغراض الشخصية والمصلحية على الخط، فيتداخل الاختلاف في الرأي مع التضارب في المصلحة او النزاع على المكانة والموقعية.
وهنا يُشهر سلاح الاتهام والتشكيك تجاه صاحب الرأي المخالف الجديد، وتستثار عواطف ومشاعر الجمهور ضده.
هذه المعاناة عادة ما يواجهها الفقهاء المجددون، وقد أخذ الشيخ ابن ادريس حظه من هذه المعاناة.
فقد اتهموه بترك اخبار اهل البيت والاعراض عنها، كما ذكر ابن داود الحلي في رجاله، حيث قال: »محمد بن ادريس العجلي الحلي، كان شيخ الفقهاء بالحلة، متقنا في العلوم، كثير التصانيف، لكنه اعرض عن اخبار أهل البيت«.
فهل يعقل ان يُعرض فقيه شيعي عن اخبار اهل البيت عليهم السلام؟ ثم ان للشيخ ابن ادريس كتابا جمع فيه كثيرا من الاحاديث والاخبار عن اهل البيت عليهم السلام بعنوان (مستطرفات السرائر)، كما ان كتابه (السرائر) مملوء باخبار اهل البيت، وفي كثير من الموارد حرص على نقل متون الاخبار بعينها.
ولكن تحوّل الخلاف من نهجه العلمي الى الخصام الشخصي ينتج مثل هذه الاتهاما.
كما اتهم ابن ادريس وقُدح فيه باعتباره قد اهان الشيخ الطوسي وطعن فيه، بل قال بعضهم: ان ابن ادريس توفي في سن مبكر من عمره جزاءً له على توهينه واساءته الادب مع الشيخ الطوسي!! حسب نقل الشيخ محمد المازندراني في منتهى المقال.
وقد ناقش هذه التهمة باحث معاصر، واستقصى كتاب (السرائر) للشيخ ابن ادريس ليرى كيفية تعامله مع شخصية الشيخ الطوسي، فاكتشف انه مع مناقشته الجادة لآراء الشيخ الطوسي، لكنه يذكره بكل احترام وتقدير وتجليل، ورصد هذا الباحث اربعة عشر شكلا لذكر الشيخ الطوسي في كتاب ابن ادريس، ليس في شيء منها اي اساءة او توهين، حيث يعبر عنه بمثل قوله: »شيخنا ابو جعفر«، »شيخنا السعيد ابو جعفر«، »الشيخ الفقيه«، »رضوان الله عليه«، »رحمه الله«، »رضي الله عنه«، »الشيخ السعيد الصدوق ابو جعفر رضي الله عنه وتغمده الله تعالى برحمته«.
بل ان الشيخ ابن ادريس حينما وجد قولا نقله الشيخ الطوسي عن السيد المرتضى، مع عدم وجود ذلك القول في اي من كتب السيد المرتضى او مصنفاته، بل المنقول خلافه، فان ابن ادريس يبرر للشيخ الطوسي بقول: »ولعل شيخنا ابا جعفر سمعه من المرتضى في الدرس، وعرفه منه مشافهة، دون المسطور، وهذا هو العذر البيّن، فإن الشيخ ما يحكي بحمد الله تعالى إلا الحق اليقين، فإنه اجل قدرا، وأكثر ديانة من ان يحكي عنه ما لم يسمعه ويحققه منه«.
ويلاحظ في بعض الحالات التي يذكر فيها ابن ادريس كلا من الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والسيد المرتضى ان تعابيره في حق الشيخ الطوسي تكون اكثر احتراما وتقديرا.
مع كل ذلك فان تهمة الاهانة والطعن على الشيخ الطوسي قد ألصقت بالشيخ ابن ادريس، بسبب جرأته على طرح الرأي الآخر.