الإسلام والتربية على النظام
إذا تأملنا الأحكام التفصيلية للعبادات في الشريعة الإسلامية، فإنا نستنتج منها أنها تربي الإنسان المسلم على التزام النظام والقانون، فالصلاة مثلا مطلوبة من الإنسان في أوقات محددة، لا تصح قبلها بلحظة، كما لا يجوز تأخيرها عن وقتها اختيارا ولو بلحظة واحدة.
وللصلاة أركانها وواجباتها التي لا يصح إهمال أو تجاوز شيء منها.
وكذلك الصوم فإنه يجب في شهر معين (شهر رمضان)، وضمن وقت معين، من طلوع الشمس إلى الغروب، وليس مقبولا تأخير الصيام دقيقة واحدة عن الفجر في مقابل تمديده ساعة بعد الغروب.
وفريضة الحج محددة بوقت مخصوص، ومكان مخصوص، ضمن مناسك وأعمال مقننة، لا تخترقها رغبات الإنسان وأهواؤه، ولا يجوز له التهاون والتسيب في شيء من حدودها.
وكذا الحال في فريضة الزكاة التي تجب في نصاب معين، وبأحكام خاصة لابد من مراعاتها.
كل ذلك يفترض أن يساعد على تربية الشخصية المنظمة الحريصة على التزام النظام والقانون، والبعيدة عن التسيب والمخالفة.
أفتى الفقهاء بوجوب رعاية الأنظمة والقوانين حفظا لنظام حياة المجتمع، وحماية للمصلحة العامة، واحتراما للحقوق المتبادلة بين الناس.
ولا يختص وجوب الالتزام بالقوانين وحرمة مخالفتها بالبلاد الإسلامية، بل إن المسلم مكلف بذلك حتى في البلاد غير الإسلامية، باعتباره قد ألزم نفسه برعاية الأنظمة القائمة فيها، من خلال تأشيرة الدخول الممنوحة له المتضمنة لذلك، إضافة إلى أصل احترام مصالح الآخرين وحقوقهم.
وكنموذج للرأي الفقهي نعرض لبعض فتاوى المرجع الديني السيد علي السيستاني أجاب بها على أسئلة قدمت له ترتبط برعاية الأنظمة والقوانين، يقول السائل: هل يلزم المكلف الحاصل على فيزا الالتزام بقوانين البلد غير الإسلامي، بما في ذلك التقيّد بأمثال إشارات المرور وقوانين العمل وأمثالها؟
فأجاب سماحته: »إذا تعهد لهم - ولو ضمنا - برعاية قوانين بلدهم، لزمه الوفاء بعهده، فيما لا يكون منافيا للشريعة المقدسة. ومثل إشارات المرور يلزم التقيد بها مطلقا، إذا كان عدم مراعاتها يؤدي - عادة - إلى تضرر من يحرم الإضرار به من محترمي النفس والمال«.
ورداً على السؤال التالي: توجد عبارات في بعض وسائط النقل تنص على عدم جواز التدخين فهل تجوز مخالفتها؟
أجاب السيد السيستاني: »إذا كان ذلك بمثابة شرط ضمني على من يريد الركوب فيها، أو كان قانوناً حكوميا وقد التزم لهم برعاية القوانين الحكومية، لزمه العمل وفق شرطه والتزامه«.
وجوابا على السؤال التالي: هل يجوز للمسلم أن يعطي معلومات غير صحيحة للدوائر الحكومية في أوروبا للحصول على مزايا وتسهيلات مالية أو معنوية، وبالطريقة القانونية لديهم؟
قال السيد السيستاني: »لا يجوز ذلك، فإنه من الكذب، وما ذكر ليس من مسوغاته«.
وسئل سماحته: هل يجوز الغش في المدارس الرسمية في أوروبا؟ وهل يجوز الغش في المدارس الأهلية إسلامية أو غير إسلامية؟
فأجاب: »لا يجوز الغش في شيء منها«.
وعن مثل هذه الموارد سُئل فقهاء آخرون فكانت إجاباتهم وفتاواهم تؤكد على رعاية القانون والنظام في أي بلد ومجتمع.
فقد وُجه للمرجع الديني الراحل السيد محمد رضا الكلبايكاني (رحمه الله) السؤال التالي: في الدول الكافرة أو التي لا تحكم بالإسلام هل يجوز مخالفة النظام العام مع امن الضرر؟
فأجاب: »لا يجوز ذلك«.
ولزوم رعاية النظام والقانون في مختلف الدول بغض النظر عن دينها أو نمط حكمها هو رأي السيد الخوئي أيضا، وقد أجاب (رحمه الله) على السؤال التالي: هل حكمكم بعدم جواز مخالفة النظام في الدول الكافرة مبني على الاحتياط أم فتوى؟
فقال: »هذا الحكم فتوى، وليس باحتياط«.
وعلى هذا الموقف يؤكد المرجع الديني الشيخ محمد الفاضل اللنكراني حيث أجاب على السؤال التالي: هل يجب على المؤمنين التقيّد بجميع قوانين مثل هذه الدول سواء مثل نظام السير، وحركة السيارات والآليات أو غيره، من قبيل منع بعض التجارات ببعض الأشياء، أو التقيّد بنظام تحديد أسعار السلع، وعدم التخلف عن دفع ضرائب ونحو ذلك؟
أجاب بقوله: »الظاهر هو الوجوب«.
وحين يفتي الفقهاء بوجوب رعاية النظام والقانون فإنهم بسيرتهم العملية يقدمون نموذجا للالتزام بهذه الفتوى. فقد افرد احد الباحثين في حياة الإمام الخميني (رحمه الله) فصلاً كاملاً في كتابه عنه تحت عنوان (رعاية القانون) سجّل فيه عددا من المشاهد والمواقف التي تظهر التزامه (رحمه الله) برعاية النظام والقانون في ظل مختلف الحكومات، نقتطف منها ثلاثة نماذج (من كتاب: قبسات من سيرة الإمام الخميني لـ غلام علي رجائي):
يقول أحد مرافقيه من العلماء: كنت ذات ليلة عند الإمام الخميني في النجف إذ جاءه احد الطلاب وسأله في مجلسه: هل يمكن شراء طابع قيمته ثمانية ريالات بريالين والامتناع عن دفع بقية المبلغ؟
فأجاب الإمام: هذا العمل غير جائز. ثم قال: حتى ولو كان ستالين حاكما فإن حفظ النظام من أهم الواجبات.
من الخصوصيات البارزة للإمام الخميني أنه حتى في دولة الكفر كان يراعي الحقوق والقوانين الاجتماعية لذلك المجتمع، ومن ذلك حينما كان في باريس، فقد جمع الإخوة مالا واشتروا نعجة وذبحوها خلف فناء كان قد جاء الإمام إليه لأجل الصلاة، فهيأوا طعاما في ليلة عاشوراء، فأرسلوا مقدارا من اللحم إلى منزل الإمام. وكان في فرنسا قانون يمنع ذبح أي حيوان خارج المسلخ رعاية للمسائل الصحية، وعندما اطلع الإمام على هذا القانون قال: لما كان هذا مخالفا لقانون حكومة هذا البلد فإني لن آكل من هذا اللحم. ومرة احتاج الإمام الخميني لمراجعة كتاب كان موجودا في مكتبة حسينية جمران الملاصقة لمقر إقامته في طهران، والتي يستقبل فيها الناس، فطلب من ابنه أن يأتيه بالكتاب، فأخبره ابنه السيد أحمد أن قانون المكتبة يمنع إخراج الكتاب منها، ويسمح بالمطالعة في نفس المكان. فردّ الإمام فورا انه لابد من الالتزام بقانون المكتبة وعدم إخراج الكتاب، وطلب أن يجلب له الكتاب من مكان آخر.
في الدول المتقدمة والمجتمعات المتحضرة ترى هناك التزاما عاما عند المواطنين برعاية الأنظمة والقوانين، والمخالفات التي تحصل لا تصل إلى مستوى الظاهرة العامة. بينما في مجتمعات الدول النامية وبلاد العالم الثالث، تجد أن مخالفة القوانين تمثل ظاهرة عامة، وعادة ما يستصعب الناس الالتزام بالقانون إلا إذا اضطروا إلى ذلك.
إن هناك أسباباً وعوامل تساعد على التزام الناس بالنظام، ومن أهمها ما يلي:
١- مشاركة الناس في صنع القوانين والأنظمة، فحين تكون هناك مشاركة شعبية عبر نظام الانتخابات واختيار الممثلين لمؤسسات صنع القرار، فإن رضا الناس عن القوانين، وشعورهم بأنها تمثل رأيهم وتخدم مصالحهم، يعتبر عاملاً أساسيا في الالتزام والتطبيق.
٢- القيادات القدوة: فحين يرى الناس التزام قياداتهم وكبار رجال مجتمعهم بالقوانين والأنظمة، فإنهم سيندفعون لتطبيقها، أما حين تسود المحسوبيات، ويصبح النافذون فوق القانون، فإن هيبة القانون وقيمته تسقط في نفوس عامة الناس.
٣- الرقابة والردع: إن وجود نظام للردع يحمي القانون ويمنع الجرأة على اختراقه ومخالفته، كما أن الرقابة الصارمة، وإتاحة المجال لتسليط الأضواء على واقع سير الأنظمة والقوانين، له دور كبير في ضمان التنفيذ والتطبيق. وهذا ما نراه في الدول المتقدمة، بوجود مؤسسات للرقابة والمحاسبة، وأجهزة قضائية مستقلة، وإعلام حر يقتنص أي خطأ وخاصة على الجهات النافذة، وتنافس سياسي يجعل كل جهة تبحث عن مخالفات الجهة الأخرى، مما يشكل روادع وكوابح لحالات تجاوز القانون.
بينما في العالم الثالث هناك تسيب وتساهل يتيح الفرصة لحالات الفساد وتجاوز الأنظمة والقوانين.
٤- ثقافة الالتزام بالقانون: إن التربية على رعاية النظام والقانون يجب أن تبدأ من المحيط العائلي، ولمناهج التعليم وأجواء الدراسة دور كبير في توجيه المواطن لاحترام النظام، كما أن وسائل التثقيف والإعلام تتحمل جزءاً هاماً من مسؤولية التوجيه لرعاية النظام والقانون.
وعلماء الدين بما لهم من موقعية وتأثير عليهم أن يبينوا للناس البعد الشرعي لمسألة التزام القوانين.
فكما يلتزم المسلم بأحكام صلاته عليه أن يلتزم بأنظمة المرور، وكما يحرم الإخلال بأحكام الصوم يحرم تجاوز القوانين التي تنظم شؤون المواطنين.
إن للتوعية والتثقيف دوراً محورياً على هذا الصعيد، وان مجتمعاتنا بحاجة إلى روح النظام وأخلاقية الالتزام، لنحفظ مصالحنا العامة، ولنرتقي إلى مستوى تعاليم ديننا الحنيف، وحتى لا نتخلف أكثر عن ركب المجتمعات المتحضرة.