اللقاء الوطني الثاني.. الانفتاح الكبير
أنجز اللقاء الوطني الثاني الذي انعقد في رحاب مكة الطاهرة، خطوة هامة جديدة على طريق الحوار الوطني البنّاء، حيث تجاوز مستوى اللقاء الأول الذي انعقد في الرياض، وتميز عليه باستيعابه الاشمل لسائر الاطياف والتوجهات الوطنية. فقد تضاعف العدد من 30 عضواً في اللقاء الأول الى 60 عضواً في اللقاء الثاني. وشاركت المرأة في هذا اللقاء بحضور عشر شخصيات نسائية من مناطق مختلفة من المملكة. واضيف الى اللقاء تياران لم يكونا ممثلين في اللقاء السابق هما: التيار الليبرالي، والتيار الاسلامي المنفصل عن التيار السلفي. كما تبلور تمثيل اتباع المذهب المالكي في الحجاز بشكل اقوى من اللقاء الأول، عبر حضور شخصيتهم الدينية البارزة السيد محمد بن علوي المالكي. وكانت محاور البحث في اللقاء معروفة لدى المشاركين قبل انعقاده، مما اتاح لهم فرصة التفكير والاعداد للمشاركة، بينما لم يكن يعرف المشاركون في اللقاء الأول شيئاً عما سيتدارسونه قبل افتتاح اللقاء. وبينما أُوصدت ابواب اللقاء الأول امام وسائل الاعلام، فسح المجال لها في هذا اللقاء الثاني، حيث جرى ترتيب مركز اعلامي، في مقر اللقاء، وكان يوجد فيه مندوبون عن مختلف وسائل الاعلام في المملكة، والذين كانوا يحتوشون الأعضاء عند خروجهم من قاعة الاجتماع، ليسألوهم عما تم نقاشه، وما جرى في الاجتماع.
وكانت ادارة اللقاء تقدم ايجازاً اعلامياً كل مساء، وترد على اسئلة المراسلين والصحفيين، مما وفر للقاء زخماً اعلامياً، وخلق تفاعلاً شعبياً مع قضايا الحوار داخل المملكة وخارجها.
وهناك ميزة ذاتية هامة لهذا اللقاء على سابقه تتمثل في مستوى الصراحة والجرأة في طرح الآراء، ومناقشة القضايا، وربما يكون الاطمئنان الى نجاح التجربة الأولى، وتفاعل آثارها، ودخول عناصر ذات خبرات سياسية، واخرى ذات ثقل ديني واجتماعي، اضافة لما تشهده ساحة الوطن من تطور في درجة الانفتاح السياسي والفكري، كل ذلك وغيره قد ساعد على تقدم اداء المشاركين من حيث الصراحة والجرأة.
وجاء الدعم الرسمي الكبير ليتوج هذه الميزات للقاء الثاني، حيث استقبل سمو ولي العهد المشاركين بحفاوة بالغة، وبحضور كبار الأمراء من الأسرة الكريمة الحاكمة. ومما جاء في كلمة سموه مخاطباً المشاركين في اللقاء: «لا يسعني في هذه اللحظة المباركة الا ان اهنئكم واهنئ نفسي واهنئ الشعب السعودي بكم... اهنئكم بالمواقف الاسلامية والوطنية والاخلاقية.. وهذه خدمة لن ينساها لكم التاريخ، لأنها خدمة دين ووطن».
قراءة في التوصيات
استُخلصت التوصيات التي صدرت عن اللقاء الثاني، من مداخلات المشاركين، وكتاباتهم، وقد عرضتها لجنة الصياغة على الأعضاء، فطالب بعضهم بشيء من الاضافة والتعديل، وتمت الاستجابة لبعض تلك المطالبات، وخرجت التوصيات بصيغتها النهائية. بالطبع، قد تكون هناك ملاحظات لبعض الأعضاء تتمثل في ضرورة التركيز بشكل أوضح على بعض القضايا الواردة في التوصيات، وقد يصعب توافق الجميع على كل الآراء والعبارات، لكنها تحظى بموافقة الاكثرية، وتعبر عن مجمل توجهات المشاركين.
لقد تضمنت التوصيات قضايا هامة، لم يكن متوقعاً ان تكون بهذا المستوى من الصراحة والوضوح، خاصة ان اللقاء تم تحت مظلة رسمية، وأعضاؤه وادارته منتخبون من قبل الجهة الرسمية، كما تبنت وسائل الاعلام الرسمية بث تلك التوصيات ونشرها، وفي ذلك دلالة واضحة على مستوى متقدم من الانفتاح السياسي، ورغبة في الاصلاح والاستجابة لتطلعات المواطنين.
واذا كانت بعض البيانات والعرائض قد قدمت للمسؤولين خلال هذا العام من قبل شرائح متنوعة من المثقفين، مطالبة بالاصلاح السياسي ومعالجة بعض القضايا الوطنية، فإن مضامينها قد تضمنتها توصيات اللقاء الثاني، وفي طليعتها الدعوة الى «تسريع عملية الاصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة الشعبية من خلال انتخاب أعضاء مجلس الشورى، ومجالس المناطق، وتشجيع تأسيس النقابات والجمعيات التطوعية، ومؤسسات المجتمع المدني»، كما جاء في المادة الثالثة من التوصيات.
واشارت المادة الرابعة إلى مطلب الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
كما أكدت المادة الخامسة «ضبط الشأن الاقتصادي بما يحافظ على المال العام، وأولويات الإنفاق للصرف على الاحتياجات الأساسية للمواطن، وفق برامج تنموية متوازنة وشاملة، والتأكيد على خفض الدين العام وفق آلية صارمة، وتحقيق مبدأ الشفافية والمحاسبة حول ذلك».
ونصت المادة الخامسة على «الدعوة الى تجديد الخطاب الديني، بما يتناسب والمتغيرات المعاصرة، مع الفهم الواعي لأحوال العالم الخارجي، والتعاطي معه بانفتاح، ومتابعة وتفاعل».
أما المادة التاسعة فكانت حول «تطوير مناهج التعليم في مختلف التخصصات على أيدي المتخصصين، بما يضمن إشاعة روح التسامح، والوسطية، وتنمية المهارات المعرفية، للإسهام في تحقيق التنمية الشاملة، مع التأكيد على ضرورة استمرار المراجعة الدورية لها».
وكان رأي عدد من الأعضاء ان تنص هذه المادة صراحة على ضرورة تنقية المقررات الدراسية من النيل والاساءة للفرق والمذاهب الاسلامية الاخرى، حيث استغرق هذا الموضوع نقاشاً واسعاً في اكثر من جلسة، وكانت ورقة العمل المقدمة حول هذا الموضوع من قبل الأستاذ ابراهيم السكران والدكتور الشيخ عبد العزيز القاسم رائعة ووافية جداً.
وقد تحدث عدد من الأعضاء المشاركين وخاصة من الحجاز والمنطقة الشرقية ونجران، عما يعايشونه في مجتمعاتهم من آثار سلبية لهذه الاشكاليات في المقررات الدراسية الدينية. وكانوا يريدون ابراز هذه المسألة بشكل واضح في التوصيات.
وقد جاءت كلمة الدكتور عبدالله الغذامي في محضر سمو ولي العهد، والتي ركز فيها على هذه القضية، لتعوض عن تعويمها في مواد التوصيات.
وتشير المادة السادسة عشرة من التوصيات الى كلام كثير تداوله المشاركون في اللقاء حول ضرورة مراعاة التنوع الفكري والمذهبي بين المواطنين، فهم شركاء في وطن واحد، وينتمون الى دين واحد، وقومية واحدة، والحكومة مسؤولة عن تأمين حقوقهم جميعاً كمواطنين متساويين في الحقوق والواجبات، وأن الآحادية السائدة، وسياسات الالغاء والاقصاء، والتمييز بين المواطنين، على اساس انتماءاتهم المذهبية او القبلية، التي تمارسها بعض الجهات، هي اجحاف بحقوق المواطنة، واضرار بصلابة الوحدة الوطنية، وحرمان للوطن من الاستفادة من ثراء التنوع الفكري. لكن المادة السادسة عشرة اختصرت هذا الموضوع بكثافة شديدة حينما حصرته في الجانب الاعلامي، حيث تقول: «التأكيد على التوازن في الطرح الإعلامي لقضايا الدين والوطن، ووضع منهجية علمية لذلك، مع البعد عما يثير الفرقة والشتات، ويراعي التنوع الفكري والمذهبي».
مع هذه الملاحظات وغيرها فان التوصيات محل رضى وتوافق بين جميع المشاركين، وهي تعبر عن تطلعات وطنية عامة، وكان لصدورها صدى كبير في اوساط المواطنين، والمراقبين والمحللين خارج الوطن.
وماذا بعد؟
لا شك في ان اللقاء الوطني الثاني جاء تكريساً لمسيرة الحوار، وتدشيناً لفعاليات مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني. واعطى مؤشراً ايجابياً لمدى الجدية والمصداقية في نمو وتطوير مسيرة الحوار من خلال ما تميز به عن اللقاء الأول.
وقد حقق هذان اللقاءان انجازات وطنية هامة، كانت الحاجة ماسة لتحقيقها، فقد أخذت قيمة الحوار موقعها في قاموس الوطن، بعد ان سادت لغة القطيعة والتنافر بين الأطياف المختلفة، وتم الاقرار بواقع التنوع الفكري والمذهبي، فأتباع المذاهب مواطنون لا يقلون عن أتباع المذهب الرسمي اخلاصاً للدين وولاءً للوطن، ومن الجميع يتشكل الوطن، وهم شركاء في خيراته، ويتحملون جميعاً مسؤولية الدفاع عنه.
ولا أحد يجهل ما تواجهه الأمة والوطن من تحديات صعبة في هذا المقطع الزمني، من ضغوط خارجية، ومحاولات ارهابية لزعزعة الأمن والاستقرار الداخلي، مما يزيد في ضرورة وحدة الصف، وسد الثغرات، وتأكيد التلاحم الوطني حكومةً وشعباً.
وقد انجز اللقاء خطوة هامة على هذا الطريق، حيث التقت كل الأطياف، وتحاورت فيما بينها، وتساقطت الحواجز النفسية المصطنعة، وزالت الكثير من الاوهام والتصورات الخاطئة. هناك تنوع في الانتماء، واختلاف في الرأي، لكن مصلحة الوطن وحمايته محل اتفاق الجميع، وساحة تنافسهم الايجابي «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ».
لقد وضعهم اللقاء امام مسؤوليتهم الدينية والوطنية، وان عليهم ان يتجاوزوا سلبيات الماضي، فليس المطلوب محاكمة أحد، أو تصفية حسابات، او استعادة سجالات الجدل الكلامي العقدي التي شغلت أمتنا قروناً كثيرة، بل ان المطلوب هو الارتقاء إلى مستوى التحديات الخطيرة، والتخطيط لمستقبل افضل من اجل وطننا وأبنائنا.
ان السؤال الذي يفرض نفسه بعد عرض هذا الانجاز الكبير للقاء الوطني هو: وماذا بعد؟
لقد تم اللقاء الأول ثم الثاني، وحصل الحوار كأروع ما يكون، وصدرت التوصيات الرائعة، ثم ماذا بعد ذلك؟
يبدو لي انه لا بد من الانتقال الى البرامج العملية، والخطوات التنفيذية، لتفعيل مكاسب اللقاء، وتطبيق توصياته، وإلا فستصبح اللقاءات حالة روتينية مكررة، تفقد وهجها، وتضعف مصداقيتها امام المواطنين المتطلعين للاصلاح والتغيير. خاصة انه قد استقر في اذهان مجتمعاتنا العربية انطباع سلبي عن اللقاءات والمؤتمرات، التي تتكرر بشكل رتيب بين الزعماء والوزراء والعلماء والمثقفين، ثم تقف عند حدود اصدار البيانات، وتبقى حبراً على ورق من دون ان تحقق شيئاً من آمال الناس وتطلعاتهم.
من هنا نأمل وجميع الواعين من أبناء الوطن، ان يتجاوز لقاؤنا الوطني هذه السلبية، وأن يثبت مصداقية توجهاته، من خلال تفعيل مكاسبه وتوصياته، وتلك مسؤولية مشتركة لا تختص بالحكومة، بل تعم نخبة الحوار وجمهور المواطنين.
إن رعاية سمو ولي العهد للحوار الوطني يؤكد الأمل بأن خطوات عملية ستتخذ لتحقيق هذه التوجهات والتطلعات الوطنية، ولعل من اوائل ما يتوقع تنفيذه، تجاوز سلبيات الأحادية والإقصاء من مناهج التعليم والخطاب الديني والاعلامي، وإتاحة الفرص المتكافئة امام جميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم ومذاهبهم، ليبذلوا طاقاتهم ويجندوا قدراتهم في خدمة الدين والوطن.
وعلى النخبة الواعية التي مثلت اطيافها في الحوار الوطني ان تأخذ على عاتقها مهمة التبشير بالقيم والتوجهات التي تمخضت عن اللقاء والحوار في أوساط تياراتها.
فليس مقبولاً ان يتحدث البعض منا في جلسات الحوار بلغة الوحدة الدينية والوطنية، وان يظهر الاحترام للرأي الآخر، فاذا ما عاد إلى وسط جمهوره وتياره، خضع للأجواء السائدة من تجاهل الآخر، والدعوة الى الغائه، واستخدام لغة التشدد والتزمت. ان تياراتنا تعيش آثار ثقافة التعبئة ضد الآخر، وعلينا ان نواجهها بنشر ثقافة التسامح، والتزام العدل والانصاف، وان نتحلى بالجرأة للارتقاء بمستوى تياراتنا، لا ان نقف مع التوجهات الهابطة ونخضع لضغوطها.
وقد سمعت من بعض العلماء البارزين الذين التقيتهم أثناء اللقاء الوطني انهم مضطرون لمراعاة ضغوط تيارهم الذي لا يتقبل الانفتاح مع الآخر، ولا الاعتراف باسلاميته، لكن هذه المراعاة لا يصح ان تستمر على حساب مصلحة الاسلام والأمة.
لقد اثار دهشة الجميع صدور بيان شديد اللهجة يعترض على أي تعديلات في مناهج التعليم فور انتهاء اللقاء الوطني الثاني. وقد كان من بين من وردت اسماؤهم في البيان بعض المشاركين في اللقاء ان صحت النسبة إليهم.
وإذا كان من حق أصحاب البيان ان يعبروا عن رأيهم ووجهة نظرهم، لكن لغة الاساءة للآخر واثارة النعرات المذهبية، والاتهام بالخيانة، وما شابه من عبارات فظة قاسية، كل ذلك لا يليق بمسلم مطلع على آداب الاسلام واخلاقه، ولا بمواطن يدرك خطورة الظروف والاوضاع.
وعلى النخبة الواعية ان تستمر في التواصل وتبادل الآراء لتطوير مكاسب اللقاء وتحويلها الى علاقات دائمة وتواصل بناء.
أما جمهور المواطنين فينتظر منهم تشجيع هذه التوجهات الوطنية، وان تتضافر جهود الجميع، من اجل تحقيق الإصلاحات المنشودة، وتأكيد التلاحم والصمود الوطني امام الاخطار والتحديات.
* عضو في الحوار الوطني السعودي