تكريم الإنسان
احترام الكفاءة والإبداع مظهر للرقي وطريق للتقدم فالإنسان السوي يختزن في أعماق نفسه مشاعر إعجاب وتقدير لكل كفاءة متميزة وإبداع خلاق ودون ذلك لا يكون إنسانا سوياً أبدا لكن امتلاك قدرة التعبير عن تلك المشاعر والمبادرة لإبرازها هو سمة الراقين المتحضرين إن من يظهر مشاعر تقديره للكفوئين المبدعين إنما يسجل احترامه لذاته أولاً بالتعبير عما تختزنه من انطباعات ومنحها جدارة التقديم والعرض بينما يشكك ضعفاء الثقة بذواتهم في استحقاق مشاعرهم للإظهار والإبراز ويبخلون على أنفسهم بفرصة التعبير عما يختلج فيها لضعف احترامهم لها.
وقد تتراكم على نفس الإنسان حجب قاتمة من نوازع الأنانية والحسد تمنعه من إعلان تقديره للمستحقين للتقدير وذلك خلق سيء وحالة مرضية لا علاج لها إلا بالوعي الصحيح والتربية الفاضلة وممارسة جهاد النفس وهو الجهاد الأكبر. إن تقدير الكفاءة يساعد على تنميتها وتطويرها ويدفع أصحابها إلى المزيد من العطاء والانجاز ويكرس في نفوسهم حب مجتمعهم والإخلاص إليه والتفاني في خدمته. بينما تجاهل الكفاءات قد يثبط نشاطها ويصيبها بالإحباط وفي أحسن الفروض تسلك طريق النزوح والاغتراب وما يصطلح عليه الآن بهجرة الكفاءات والأدمغة.
وتكريم المبدعين يرفع درجة الطموح والتطلع نحو الإبداع لدى أبناء المجتمع لذلك تجتهد المجتمعات المتقدمة في وضع البرامج وابتكار الأساليب لتقدير الكفوئين من أبنائها بالاحتفاء بهم إعلامياً وتكريمهم اجتماعياً ورصد الجوائز والأوسمة لهم وتوفير وسائل العيش الكريم والخدمات اللازمة لفاعليتهم ونشاطهم.
وقد أخذت مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة عن المجتمعات المتقدمة بعض عادات الاهتمام وبرامج التقدير للمتفوقين لكنها تكاد تنحصر في المتفوقين في القوى البدنية كالرياضيين. والقدرات الفنية كالمغنين.
في عام 2000 مثلاً قام أحد أنديتنا الرياضية في المملكة بشراء لاعب من ناد آخر بملغ 9000000 ريال، نصيب اللاعب مليونا ريال وراتبه الشهري 25000 ريال ونشر الخبر وقتها في الجرائد, وقبل فترة تم تكريم لاعب من أحد الأندية بمناسبة اعتزاله وقدمت له هدايا بمبلغ 400000 ريال.
أما العلماء والمفكرون والأدباء المبدعون وسائر الكفاءات النافعة فتتمنى السلامة على نفسها، فضلا عن أن يتوفر لها الاهتمام والتقدير، حتى قال احد الأدباء معبراً عن هذه الحقيقة المرة:
قال أبي في كل قطر عربي
إن أعلن الذكي عن ذكائه فهو غبي
بالطبع لا يمكن التعميم فهناك بشائر طيبة وبوادر مشجعة هنا وهناك، ولكن المقصود هو الحالة العامة والوضع السائد في الوطن العربي والعالم الإسلامي قياساًُ على إمكاناته الهائلة ومقارنة بأوضاع المجتمعات الأخرى. إن الكفاءة يجب أن تحترم لذاتها وعطائها من أي عائلة انبثقت وإلى أي طبقة انتمت ومن أي طائفة كانت وبغض النظر عن اتجاهها الأيديولوجي والسياسي والمذهبي، هكذا يأمر العقل وإلى هذا يرشد الشرع.
يقول الله تعالى ﴿يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾.
وفي ثلاثة موارد من القران الكريم يقول الله تعالى: ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾ في سورة الأعراف آية 85 وفي سورة هود آية، 85 وفي سورة الشعراء آية 183.
والبخس كما يقول ابن عاشور هو إنقاص شيء من صفة أو مقدار هو حقيق بكمال في نوعه ولنتأمل قوله تعالى: ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ﴾ ولم يقل المسلمين أو المؤمنين فقط ومن مسلمات الفقه الإسلامي عدم جواز البخس والظلم على أي إنسان إلا أن يكون معتديا فيقاوم عدوانه. وأشياءهم ـ ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾ ـ تشمل الحقوق المادية والمعنوية، فكما لا يجوز أن تبخس أحداً من الناس شيئاً من حقوقه المادية كذلك لا يصح أن تبخس شيئاً من حقوقه المعنوية. وفي تراثنا الإسلامي تأكيد على خلق الإنصاف - من مادة نصف ـ يقال في اللغة أنصف النهار أي انتصف. وأنصف الشخص إذا عدل, وتناصف القوم أي أنصف بعضهم بعضاً من نفسه وقيل إذا تعاطوا الحق بينهم. وقال في القاموس ـ انتصف منه استوفى حقه منه كاملاً.
ومن تعريف علماء الأخلاق للإنصاف: أنه استيفاء الحقوق لأربابها. ومن راوئع حكم الإمام علي (عليه السلام) قوله: «الإنصاف يرفع الخلاف، ويوجب الائتلاف» وقال (عليه السلام): «زكاة القدرة الإنصاف».
وفي السيرة النبوية نقرأ كيف احترم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سفانة بنت حاتم الطائي والذي مات على الكفر قبل الإسلام وأمر بإطلاق سراحها من السبي قائلاً: «خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وإن الله يحب مكارم الأخلاق».
ونقرأ في تاريخنا أيام عزة الحضارة العربية والإسلامية كيف أن الشريف الرضي العالم الفقيه يشيد بأدب وشخصية أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي وهو على دين الصابئة في مراسلاته له بالشعر والنثر ثم يبكيه ويرثيه بقصيدة تعتبر من أروع قصائده في الرثاء ومطلعها:
أعلمت من حملوا على الأعواد
أرأيت كيف خبا ضياء النادي
جبل هوى لو خر في البحر اغتدى
من وقعه متتابع الأزبـاد
ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى
أن الثــرى يعلو على الأطواد
يقول ذلك مؤبناً لرجل غير مسلم من الصابئة إلى أن يقول:
الفضل ناسب بيننا إن لم يكن
شرفي مناسبه ولا ميلادي
وكذلك فعل أخوه المرتضى علم الهدى، حيث رثى أبا إسحاق بقصيدة رائعة. هكذا كان أسلافنا يحترمون الكفاءة لذاتها وعطائها، وهكذا يشجعنا الإسلام على الاعتراف بفضل ذوي الفضل. يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾. ويأمرنا بشكر من يستحق الشكر، حيث روى الإمام محمد الباقر (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس».
ومهرجاننا الكبير هذه الليلة إنما يأتي استجابة لهذه المنطلقات, والدواعي الحضارية حيث بادرت ثلة طيبة واعية من أبناء القطيف المخلصين للدعوة إلى هذا الحفل الزاهي لتكريم واحد من أبرز رواد الأدب والإبداع في هذه المنطقة، هو الأستاذ عبدالله الشيخ علي الجشي، أبو قطيف حفظه الله. والأستاذ أبو قطيف يستحق التكريم لأكثر من جهة
فأولاً: لإبداعه وعطائه الأدبي، والذي تشهد به روائع شعره، وغرر مقالاته وبحوثه، وقد اخذ موقعه بكل جدارة في الطبقة الأولى من أدباء العالم العربي المعاصر،
وثانياً: لجهوده الاجتماعية والوطنية، فهو في طليعة من حملوا هموم الوطن، وقضايا المجتمع واجتهد لخدمتها حسب قناعاته وإمكاناته
وثالثاً: لما يتمتع به من خلق فاضل وشخصية رزينة جعلته منفتحاً على كل الناس بمختلف اتجاهاتهم، يتعامل مع الجميع بحب واحترام،
أسأل الله تعالى له طول العمر، وان يتمتع بالصحة والعافية وأن يقدم لعشاق أدبه المزيد من العطاء والإنتاج كما أتوجه بعميق شكري وتقديري للإخوة الأعزاء القائمين على هذا الحفل الكريم، لمبادرتهم الطيبة وجهودهم الكبيرة الموفقة إن شاء الله والتي نأمل أن ترسي وتؤكد هذا النهج الأخلاقي الحضاري في تكريم كفاءات أبناء الوطن في مختلف المجالات، وعلى جميع الأصعدة.