الأوقــــــاف ضرورة المأسسة والتطوير
يمثل الوقف الخيري إحدى أهم الظواهر الإنسانية النبيلة، التي تدل على عمق النوازع الخيّرة في نفس الإنسان، واهتمامه بمصالح الأجيال المقبلة، وحرصه على تكريس التوجهات التي يعتقد صلاحها.
والوقف لغة هو: الحبس. واصطلاحاً: هو حبس العين وتسبيل منفعتها. أي منع العين من أن يتملكها أحد من الناس، وإباحة الانتفاع بها ضمن الجهة التي حددها الواقف.
والوقف ليس اختراعاً إسلامياً، بل كانت الأمم القديمة تمارس بعض أشكاله، حيث كان ملوك البابليين يهبون بعض موظفيهم حق الانتفاع ببعض أراضيهم، دون أن يملكوها أو يتصرفوا فيها ببيع أو هبة أو نحوهما. وكان القانون يسمح بانتقال حق الانتفاع بهذه الأراضي إلى ورثة الموظفين ـ بعد موتهم ـ بحسب الشروط الموضوعة في الاستحقاق الترتيبي.
وفي زمن الفراعنة دلت الآثار المكتشفة حديثاً في مصر، على رصد بعض الناس العقارات الشاسعة على المعابد والمقابر والتماثيل، ليصرف ريعها في إصلاحها، وتيسير إقامة الشعائر فيها، وكذلك الإنفاق على كهنتها وخدامها.
وعمل بعض الناس في زمن الفراعنة أيضاً بما يسمى حديثاً بالوقف الذري، فكانوا يخصون أولادهم وذرياتهم بريع ومنافع الأعيان المحبوسة، من غير أن يحق لهم تملك هذه الأعيان أو تمليكها للآخرين.
وفي زمن الرومان طور الناس نظام الإحباس بعد ظهور النصرانية، فجعلوها في مؤسسات تابعة للكنيسة، تقوم على رعاية الفقراء والعجزة(1).
وقد شجع الإسلام هذه الظاهرة الإنسانية الخيّرة، وتبناها في توجيهاته وتشريعاته، وأسس لها في مجتمع الجزيرة العربية الذي لا دلالة في تاريخه على شيوع مثل هذه الممارسة قبل الإسلام. ونقل عن الإمام الشافعي قوله: «لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمت، وإنما حبس أهل الإسلام»(2).
وقد التبس الأمر على بعض العلماء فادعى أن: «الوقف من خصائص الإسلام، قال النووي: وهو مما اختص به المسلمون، قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية داراً ولا أرضاً فيها»(3). والصحيح أنه لم يكن الوقف معروفاً عند العرب قبل الإسلام، لكنه كان معروفاً في تاريخ الأمم الأخرى.
سُنّة الوقف في الإسلام
إن قيم الإسلام ومفاهيمه التي تربي الإنسان على توظيف إمكانياته وقدراته من أجل الخير، ولخدمة المصالح الإنسانية، وتوجهه إلى العطاء والإنفاق في سبيل الله، هي التي شكلت أرضية الاندفاع والاهتمام في مجتمع المسلمين بوقف الكثير من ممتلكاتهم في سبيل الله، ولخدمة الأغراض النبيلة.
وإذا كان للعطاء والصدقة فضل عظيم عند الله تعالى، فإن استمرار الصدقة والعطاء مدى الزمن وبعد وفاة الإنسان ورحيله عن الحياة، عن طريق الوقف يعني إحراز الأجر الدائم، والثواب غير المنقطع من الله سبحانه، وذلك يشكل أهم فرصة ومكسب يبحث عنه الإنسان المسلم.
جاء عن رسول الله أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(4).
وعن الإمام جعفر الصادق : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها فهي يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له»(5).
قال العلماء: إن المراد بالصدقة الجارية الوقف(6).
وقد بادر رسول الله للعمل بسنة الوقف حيث ورد عن أبي عبدالله جعفر الصادق أنه قال: «تصدق رسول الله بأموال جعلها وقفاً وكان ينفق منها على أضيافه»(7).
كما فعل ذلك أمير المؤمنين علي ، فعن أبي عبدالله الصادق ، أنه ذكر أمير المؤمنين علياً فقال: «كان عبداً لله قد أوجب الله له الجنة، عمد إلى ماله فجعله صدقة مبتولة (أي منقطعة من ماله) تجري بعده للفقراء، وقال: اللهم إني جعلت هذا لتصرف النار عن وجهي، ولتصرف وجهي عن النار»(8).
وروي عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنه قال: لم يكن من الصحابة ذو مقدرة إلا وقف وقفاً(9).
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبي يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أُصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال : «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها»، قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث، ولا يوهب(10).
وهكذا شقت سنة الوقف طريقها في حياة المسلمين، واتسعت آفاقها، وتنوعت أغراضها في إطار خدمة الدين والمصالح الاجتماعية العامة.
فهناك أوقاف للعبادة كالمساجد، وما يوقف على عمارتها، وعلى تعليم قراءة القرآن وتلاوة أجزائه، وأوقاف لمصالح الأولاد والذرية والأرحام، وأوقاف لرعاية الفقراء والضعفاء، وأوقاف لنشر العلم والمعرفة.
الاهتمامات الحضارية
وحين يتأمل الباحث أغراض الوقف في تاريخ المسلمين، يدرك حضارية وإنسانية الاهتمامات التي كان يحملها هؤلاء الواقفون لممتلكاتهم على تلك الأغراض النبيلة.
إن وجود عدد ضخم من المدارس العلمية الموقوفة، ومن الأعيان الموقوفة على قضايا العلم كرواتب العلماء والمعلمين والطلاب وكتب العلم وكتابته، فقد وقف الشريف المرتضى (355-436هـ) قرية زراعية كاملة لتوفير الورق لكتابة العلماء والمتعلمين(11). ومدارس العلم كانت في الغالب أوقافاً أهلية وليست منشآت حكومية، ففي مدينة صقلية وحدها أكثر من ثلاثمائة مدرسة، تضم عشرات الآلاف من الطلاب، وكان التعليم فيها مجانياً، وتضم أقساماً داخلية لسكن الطلاب الغرباء، يتوفر فيها لهم الطعام والشراب وسائر الاحتياجات المعيشية، ومثل ذلك كان في سائر البلاد الإسلامية كتونس والقيروان والقاهرة ومكة والمدينة ودمشق وبغداد ونيسابور وبلخ وغيرها من المدن في آسيا الوسطى وتركيا والهند وإيران(12). إن في ذلك دلالة على عمق الاهتمام العلمي في المجتمع الإسلامي.
كما تدل الأوقاف على الشؤون الصحية كالمستشفيات وحاجات المرضى، وعلى رعاية الفقراء والعجزة، وعلى استقبال المسافرين وإيوائهم كالخانات والفنادق، وعلى سقي الماء، على أصالة المشاعر الإنسانية في نفوس المسلمين بفضل توجيهات الإسلام وتربيته.
ويدل تنوع أغراض الأوقاف على تكاملية السعي، والتوجّه لسدّ كل الثغرات والنواقص، وقضاء مختلف الاحتياجات حتى البسيطة منها في أوساط المجتمع الإسلامي. فمثلاً: كانت هناك أوقاف لتوفير مراوح من خوص للمرضى من أجل استعمالهم لها في وقت الحر، وكان يُوقف للمريض لنفقاته في وقت نقاهته حتى لا يضطر للعمل الشاق فور علاجه، وكان في مدينة طرابلس بلبنان وقف خصص ريعه لتوظيف اثنين يمران بالمستشفيات يومياً، فيتحدثان بجانب المريض حديثاً خافتاً، لإشاعة الأمل في نفسه، ورفع معنوياته، مما يساعد على شفائه.
ومن طرائف أنواع الوقف الخيري ما يعرف بوقف الزُّبادي ـ جمع زُبدية وهي آنية من خزف أو فخّار ـ وربما وقعت من يد أحد الخدم فانكسرت مما قد يخلق له مشكلة أو يعرضه للعقوبة من أسياده، فبادر بعض أهل الخير لإنشاء وقف يوّفر بديلاً عن الآنية المكسورة لإنقاذ موقف الخدم من الإحراج والعقوبة(13).
وهناك وقف ضخم في مدينة مشهد حيث مقام الإمام علي بن موسى الرضا لإطعام القطط الضالة.
وفي بلادنا القطيف أعرف وقفاً لإزالة (العناصيص) أي الأحجار الناتئة في الطرقات. ووقفاً لوضع علامات للسائرين في طريق البحر بين القطيف وجزيرة تاروت، حين لم يكن جسر، وكان يسمى (المقطع).
وبهذا كان للأوقاف دور كبير في التكافل والتنمية الاجتماعية، ولكثرة الأوقاف في بلاد المسلمين فقد خصصت الحكومات الإسلامية وزارة باسم وزارة الأوقاف في غالب الدول الإسلامية.
الواقف واختيار غرض الوقف
يصح الوقف لكل غرض مشروع، ولا يصح إذا كان لغرض غير مشروع، كتشجيع الفساد والانحراف، أو نشر الضلال، أو الإعانة على الظلم والعدوان.
والمالك حرّ في أن يقف ما يملكه لما يشاء من الأغراض المشروعة، في خدمة معارف معينة، كما لو وقف على تعليم الدين، أو تعليم الطب، وأمثال ذلك. أو لخدمة بني البشر كمساعدة الفقراء، وعلاج المرضى، وإيواء المسافرين، وما شابه، أو لرعاية الطبيعة وموجوداتها، كتعبيد الطرق، وإطعام الحيوانات، وغيره.
وقد أوجب الشرع احترام إرادة الواقف، والالتزام بما حدده مصرفاً لوقفه وبالشروط والخصائص التي وضعها. جاء في رواية عن الإمام الحسن بن علي العسكري : «الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها»(14). ويمثّل هذا النص قاعدة فقهية مشهورة، أفتى الفقهاء على أساسها بأن كل وقف ـ لعموم جمع المعرف بالألف واللام ـ يجب أن يتعامل معه بحسب ما وقفه الواقف، من الشروط، والخصوصيات، والكيفيات، وما عينه من التصرفات فيه، ومن عينّه لأن يكون ناظراً عليه(15).
ومما اشتهر بين الفقهاء أيضاً قولهم: «شرط الواقف كنص الشارع»(16).
وغير المسلمين يُقر الإسلام لهم بصحة أوقافهم المشروعة في أديانهم.
فإذا وقف الإنسان المسلم شيئاً من ممتلكاته على أي غرض غير محرّم شرعاً، فإن وقفه صحيح ثابت لا يجوز تغييره ولا تبديله.
وقد ناقش الفقهاء في نية القربة إلى الله، وهل أنها شرط لصحة الوقف أم لا؟ حيث يقصد الواقف تحقيق هدف دنيوي من وقفه.
والرأي المختار عند أكثر الفقهاء المعاصرين: أن نية التقرب إلى الله ليست شرطاً لصحة الوقف، قال السيد محمد كاظم اليزدي في ملحقات العروة الوثقى: «الأقوى وفاقاً لجماعة عدم اشتراط نية القربة، للاطلاقات، ولصحة الوقف من غير المسلم... نعم ترتب الثواب موقوف على قصد القربة، مع أنه يمكن أن يقال بترتب الثواب على الأفعال الحسنة، وإن لم يقصد بها وجه الله»(17).
والعبارة الأخيرة لهذا الفقيه الكبير «ترتب الثواب على الأفعال الحسنة وإن لم يقصد بها وجه الله» يجب أن تنال حقها من الاهتمام، لما تعنيه من سعة أُفق، وتقدير لذات الخير وعوائده، وثقة بعظيم فضل الله ولطفه وكرمه.
ومن شواهد إقرار الإسلام لكل أغراض الوقف المشروعة ما اتفق عليه الفقهاء من جواز الوقف لخدمة غير المسلمين، كأن يقف على الفقراء المسيحيين أو اليهود أو غيرهم، أو لعلاج مرضاهم، أو تعليم أولادهم.. قال الشهيد الثاني زين الدين الجبعي العاملي (911-965هـ) في شرح اللمعة الدمشقية: «يجوز الوقف على أهل الذمة أنفسهم، لعدم استلزامه المعصية بذاته، إذ نفعهم من حيث الحاجة، وأنهم عباد الله، ومن جملة بني آدم المكرمين»(18).
بل ذهب بعض الفقهاء ومنهم السيد محمد كاظم اليزدي في ملحقات العروة الوثقى إلى أنه «يجوز الوقف والبر والإحسان على الحربيّ أيضاً لإطلاق الأمر بالخير والإحسان»(19).
ولكن كيف يختار الإنسان الأغراض التي يقف من أجلها؟
إن أبواب البر والإحسان مشرعة، وسبل الخير والمعروف كثيرة، واختيار أي غرض للوقف إنما ينبثق من أحد الأسباب التالية:
التوجه إلى ما ورد عن الشرع من فضل وترغيب في أحد المجالات الخيرية. ذلك أن كثيراً من الواقفين يكون دافعهم للوقف على غرض معين، ما يطلعون عليه من نصوص شرعية حول فضل ذلك العمل الخيري، أو ما يحدثهم به أحد العلماء ويشجعهم عليه، من منطلق عظيم الأجر والثواب.
إدراك النقص والحاجة لذلك المورد في المحيط الاجتماعي، فكم من واقف أثاره مشهد من مشاهد الفقر والحاجة فاندفع لوقف شيء من ممتلكاته لمعالجة تلك الحاجات.
المعرفة والوعي بأهمية بعض التوجهات، كضرورة التقدم العلمي ونشر المعرفة، وحماية البيئة.
وجود أجواء اجتماعية دافعة لبعض الاهتمامات، بأن تكون محل جذب واستقطاب للجمهور.
هذه العوامل تشكل أبرز البواعث والخلفيات لتنوع أغراض الوقف بين الأفراد، وفي أوساط المجتمعات، فقد تسود بعض المجتمعات ثقافة معينة تنتج دفعاً وتشجيعاً باتجاه الوقف نحو أغراض محددة أكثر من غيرها.
وإذا ما أخذنا المجتمعات الإسلامية الشيعية نموذجاً فإننا سنجد فيها كثرة الأوقاف المخصصة لإحياء ذكر أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم.
ومع وجود أوقاف لمختلف الأغراض الدينية والعلمية والإنسانية في المجتمعات الشيعية، إلا أن النسبة الغالبة من الأوقاف لدى الشيعة مخصصة لأهل البيت ، وخاصة الإمام الحسين .
ففي بحث نشره الباحث الشيخ محمد بن علي الحرز في مجلة (الواحة) عن (الوقف في الأحساء) رصد فيه الأوقاف المسجلة في المحكمة الشيعية بالأحساء بين عامي 1388-1409هـ فكان مجموعها 3619 وقفاً من مزارع وبيوت ودكاكين وأراض، على مختلف الأغراض، ووصل عدد الموقوف على أهل البيت ( منها 2563 وقفاً، وتساوي نسبة 70%(20).
وفي بحث قامت به لجنة تطوعية من الشباب في جزيرة تاروت من محافظة القطيف، يهتم بإحصاء وحصر أوقاف جزيرة تاروت، واستغرق عملها فيه أكثر من عام من تاريخ 5/2/1425هـ إلى 1/6/1426هـ، كان مجموع الوقوفات التي تم رصدها 219 وقفاً لمختلف الأغراض منها 151 وقفاً خاصاً بأهل البيت . وتشكل نسبة 69%.
ويرى السيد حسن العوامي ـ من وجهاء القطيف ـ أن نسبة أوقاف أهل البيت من مجمل الأوقاف في القطيف لا تقل عن 75%، وأن الأوقاف تشكل نسبة 60% من مجموع حقول القطيف التي كانت تضم سبعمائة وثلاثين ألف نخلة على أدنى إحصاء، منها خمسمائة وعشرة آلاف نخلة منتجة بمعدل 25 كيلو للنخلة الواحدة(21).
وأفادنا مدير دائرة الأوقاف الجعفرية في البحرين أن الأوقاف على أهل البيت تزيد على نسبة 75% من مجمل الأوقاف في البحرين.
إن هذا الإقبال الكبير على تخصيص الأوقاف لأهل البيت في المجتمعات الشيعية نابع من الأسباب التالية:
عمق المودة والولاء لأهل البيت في نفوسهم، إذ يرتضعون ذلك في تربيتهم ونشأتهم ضمن عوائلهم، كما تسود في مجتمعاتهم ثقافة المحبة والولاء والارتباط بأهل البيت عبر المناسبات الدينية وإرشاد العلماء ووعظ الخطباء.
دافع التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فإحياء ذكر أهل البيت أمر محبوب عند الله سبحانه، ومظهر من مظاهر المودة التي أوجبها الله لهم، وهو ينسجم مع نهج القرآن الكريم في إحياء ذكر الأنبياء والأولياء، والإشادة بهم، والحديث عن سيرتهم ومواقفهم.
كما يشكل استجابة لتوجيهات أئمة أهل البيت الذين دعوا شيعتهم لإحياء ذكرهم وأمرهم، كالخبر المروي عن الإمام علي بن موسى الرضا : «أحيوا أمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا. قلت: كيف يحي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإن الناس لو عرفوا محاسن كلامنا لاتبعونا».(22)
1- إن إحياء ذكر أهل البيت يعني إحياء الحالة الدينية في المجتمع، ذلك أن حضور سيرة أهل البيت في النفوس والأذهان تعني حضور القيم والمبادئ التي يمثلونها، مما يترك أثراً وانعكاساً واضحاً على الفكر والسلوك.
2- إن المظلومية التي عاشها أهل البيت في حياتهم بإقصائهم وتهميشهم والإساءة لهم من قبل أغلب الحاكمين في عصورهم، أوجدت في نفوس أتباعهم تعاطفاً عميقاً، يدفعهم لتحدي حالة المظلومية التي تعرضوا لها، بالمزيد من مظاهر الاحتفاء والتخليد لذكرهم وسيرتهم، في مقابل محاولات التعتيم على ذكرهم وآثارهم.
3- بسبب الظروف الصعبة التي مرت على المجتمعات الشيعية أصبح إحياء ذكر أهل البيت جزءاً من (الهويّة)، والاهتمام به يعني حماية الذات من الذوبان، وحفظاً للخصوصيات المذهبية.
وأخيراً فإن الأوقاف على أهل البيت تعني ضمان التمويل الذاتي للنشاط الديني والفاعلية الاجتماعية، حيث يلمس الواقف أثر وقفه في جذب الجمهور نحو المناسبات الدينية، وفي توفير فرص الوعظ والإرشاد لأبناء المجتمع، وفي تهيئة الأجواء لتربية النشء على العقيدة والمبدأ، وفي تكريس تلاحم المجتمع ورفع معنوياته وإظهار قوته.
هذه هي أهم العوامل والأسباب ـ فيما أعتقد ـ لتوجه الشيعة بأوقافهم نحو أهل البيت أكثر من أي غرض آخر.
أوقاف أهل البيت
والتحديات المعاصرة
يمتاز دور أوقاف أهل البيت في المجتمع الشيعي بميزة إضافية عما تقوم به سائر الأوقاف في المجتمعات الإسلامية، وتلك الميزة هي توفير الاستقلال للنشاط الديني والثقافي، حيث تعتمد الجهة الدينية في تمويلها على الأوقاف والخمس الشرعي.
فالحوزات العلمية الدينية، وشؤون المرجعية والإفتاء، وإقامة الشعائر والمناسبات الدينية، ودور الخطباء والمبلغين، كل هذه المهام يجري تمويلها من وارد الأوقاف والخمس، وهو ما يمكنها من الاستمرارية والاستقلال المالي عن الجهات الرسمية.
وإذا كانت أوقاف أهل البيت تشكل النسبة العظمى من مجمل الأوقاف في المجتمع الشيعي، وإذا كان الدور الذي أدّته في الحقبة الماضية متناسباً مع ظروف تلك المرحلة، فإن دور هذه الأوقاف في الوقت الحاضر يجب أن يخضع لمراجعة وتقويم.
ذلك أن مجتمعاتنا اليوم تواجه تحديات كبيرة تستوجب استنهاض كل الطاقات، واستنفار كل القدرات، لتحقيق مستوى من الاستجابة لتلك التحديات الخطيرة.
ولعل من أهم تلك التحديات ما يلي:
على مستوى الثقافة والمعرفة الدينية، تواجه أجيالنا الحاضرة إشكاليات كثيرة، فهي تعيش عصر الانفتاح على مختلف الثقافات، وتستقبل طوفاناً من المعلومات والمعارف، عبر أسرع وسائل التواصل، وأرقى أساليب الجذب والتأثير، بواسطة التقنيات المتطورة، وانطلاقاً من نتائج بحوث العلوم الإنسانية، بينما لا يزال غالب الخطاب الديني في مجتمعاتنا، ضمن سياقه التقليدي المتوارث من الأزمنة السابقة، غير متواكب مع تطورات العصر في مضامينه وأساليب عرضه.
ولعل من أهم أسباب ضعف الخطاب الديني وقصوره كونه نتاج حالات فردية، حيث تفتقر ساحتنا إلى المؤسسات المعرفية التي تضع الخطط والمناهج والبرامج، وإلى مراكز الدراسات والبحوث، وإلى المعاهد التي تربي الخطباء والمبلغين، وتقيم الدورات للارتقاء بمستوياتهم.
ومن ناحية الوسائل والأساليب، فإن المنبر الحسيني بشكله المتعارف لا يكفي لإيصال صوت التوجيه والإرشاد لشرائح المجتمع، في مقابل وسائل الإعلام والاتصالات المتطورة، كالفضائيات والشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، التي هي أقدر على الاستقطاب والجذب، وتخاطب الإنسان أينما كان على وجه الكرة الأرضية.
فكيف نستطيع إنتاج المعرفة الدينية المواكبة لتطورات العصر؟ وكيف نوفّر الثقافة القادرة على الصمود أمام التيارات الأخرى؟ وكيف نرتقي بوسائل وأساليب خطابنا وفعالياتنا وأنشطتنا الدينية لنستوعب أجيالنا الناشئة ونحتضنها في إطار قيمها وانتمائها الديني؟
على صعيد التنمية الاجتماعية، تعاني مجتمعاتنا ضعفاً كبيراً في واقعها الاقتصادي حيث تنتشر البطالة، وتزداد مساحات الفقر والحاجة، وتقل فرص التعليم العالي، مما ينتج الكثير من المشاكل والمضاعفات في الواقع الاجتماعي. ولا بد من مواجهة ذلك بقيام المؤسسات الاقتصادية، وتشجيع روح الفاعلية والعمل، والارتقاء بمستوى التعليم، وتربية الكفاءات وتنمية المهارات، والمبادرة إلى معالجة حالات الفقر والحاجة في المجتمع.
في مجال العلاقة مع سائر المجتمعات والأمم، فإن على المجتمع الشيعي أن يواجه آثار الظروف التاريخية السابقة، التي دفعته في الكثير من مواقعه إلى حالة من الانكفاء والانطواء، وضعف التواصل مع المجتمعات المحيطة، بسبب سياسات التمييز الطائفي، وانتشار التوجهات التعصبية المذهبية، وما أنتجت من ردود فعل داخل المجتمع الشيعي، كالميل للعزلة والانغلاق، وتداول ثقافة التعبئة ضد الآخر بدافع تحصين الذات من الهجمات المضادة.
لقد تعرضت صورة المجتمع الشيعي بمعتقداته وتاريخه ومواقفه السياسية وأنماط سلوكه إلى كثير من التشويه والتشويش.
إن إدانة جهل الطرف الآخر لا يعالج المشكلة، بل لا بد لنا من تحمل المسؤولية في السعي لتوضيح الصورة، وإزالة غبش التشويه، والمبادرة للتواصل مع الأطراف المشاركة لنا في أوطاننا، والمجتمعات المحيطة بنا، والانفتاح على المستوى الإقليمي والعالمي.
إن مصلحة المجتمع تكمن في حسن تعايشه مع المجتمعات الأخرى، وقدرته على نسج العلاقات السليمة، وتخطي العوائق، وتجاوز آثار وانعكاسات الظروف السلبية الماضية.
وتتوافر الآن فرص طيبة على هذا الصعيد، في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، وانتشار الوعي، ووجود توجهات للإصلاح في مختلف البلدان، وتنامي الشعور بالتحديات الخطيرة التي تعصف بالأمة والأوطان، وتفرض الدعوة إلى التلاحم والوحدة الإسلامية والوطنية.
وأوقاف أهل البيت بما تمثله من ثروة هائلة يمكنها أن تؤدي دوراً أكبر في مساعدة المجتمع على مواجهة هذه التحديات القائمة.
عوائق الدور المطلوب
فهل تنهض أوقاف أهل البيت بهذه المهمة الأساسية؟ وهل تقوم بهذا الدور المطلوب؟
وكيف يمكنها الاستجابة للتحديات التي يواجهها المجتمع الإسلامي الشيعي؟
هناك عائقان رئيسيان لا بد من تجاوزهما لتفعيل دور أوقاف أهل البيت من أجل خدمة رسالتهم في هذا العصر.
الأول: العائق التنظيمي الإداري:
حيث لا تزال أغلب الأوقاف تدار بشكل فردي من قبل الأولياء عليها، حيث إن الولي على الوقف إما أن يكون نفس الواقف، أو من يُولّيه، كما هو الحال في الأوقاف الجديدة، أو أن تصل الولاية له عن طريق الوراثة، فمن المتعارف عليه في مجتمعاتنا أن يتحمل أحد ورثة الولي السابق كولده أو أخيه مسؤولية الأوقاف التي تحت يده، وقد ينص الواقف على تسلسل الولاية من بعده، وقد ترجع ولاية الوقف عندما لا يكون له ولي إلى قاضي البلد، أو وكيل المرجع الديني، ولحرص الشيعة على استقلال أوقافهم، فإنها غير مشمولة بأنظمة وزارات الأوقاف الرسمية، كما أن المرجعية الدينية الشيعية غير متصدية لإدارة الأوقاف في المناطق المختلفة، والقيادات الدينية المحلّية لا تمتلك جهازاً مؤسسياً يقوم بإدارة الأوقاف.. ونتيجة هذا الواقع استمرار توزع الأوقاف وبعثرتها، وتفرد كل ولي بإدارة الوقف الذي تحت يده، بالطبع فإن المتولين للأوقاف يتفاوتون في مدى أمانتهم ومقدار اجتهادهم، ومستوى وعيهم وقدراتهم الإدارية.
ومن دون وجود مؤسسة ترعى الأوقاف في كل منطقة، وتشرف على إدارتها، وتخطط لترشيدها وتنميتها وتطويرها، فإن أداء الأوقاف لرسالتها لن يكون بالمستوى المطلوب، بل قد يكون بعضها عرضة للضياع، وقد يحصل التلاعب في ثرواتها، وفي أفضل الفروض تكون مجمّدة ومقتصرة على القيام ببعض الأدوار التقليدية المألوفة.
إن من الضرورة بمكان، لحفظ مستقبل الأوقاف، ولتفعيل دورها في خدمة الدين والمجتمع، وجود مثل هذه المؤسسة، والتي يجب أن تتمتع بمستوى من الشرعية الرسمية القانونية من قبل الدولة، وبإشراف من الجهة الدينية المتمثلة في علماء الشيعة المحليين.
وقد تحقق ذلك في مملكة البحرين حيث أصدر حاكم البحرين الأسبق الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة (قانون الأوقاف الجعفرية) بتاريخ 12/7/1379هـ ـ 1 يناير 1960م. كما تشكل مجلس لإدارة الأوقاف الجعفرية في دبي بموجب مرسوم أميري من الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم إمارة دبي السابق، بتاريخ 9/11/1391هـ ـ 27/12/1971م بتأسيس مجلس إدارة الأوقاف الجعفرية الخيرية. وأعلن أخيراً عن تأسيس إدارة الوقف الجعفري في الكويت.
ونأمل أن يتحقق مثل ذلك في مجتمع الشيعة بالمملكة العربية السعودية وفي دولة قطر وسلطنة عمان والجمهورية العربية السورية وسائر البلدان التي يتواجد فيها مواطنون شيعة.
العائق الثاني: جمود وتقليدية الاهتمامات:
انطلاقاً من ضرورة الالتزام بأغراض الوقف التي حددها الواقف لأن «الوقوفات على حسب ما وقفها أهلها» فإن المتعارف صرف موارد أوقاف أهل البيت في البرامج المألوفة المتوارثة، من إقامة المآتم وإطعام الطعام في مناسبات ذكريات أهل البيت .
إن الالتزام بغرض الوقف مطلوب ولا يصح تجاوزه، بيد أن ما يجب النقاش فيه: هل الالتزام المطلوب بغرض الواقف يتحدد بمصداق معين من مصاديق العنوان الذي حدد به الواقف غرضه، وبالأسلوب الذي كان متداولاً في عصره، أم أن لدينا حريّة التحرك والتصرف في إطار العنوان المحدد؟
فمثلاً: لو كان الوقف على الفقراء والمساكين، فإن تحديد مستوى الفقر ومصاديق الحاجة، تختلف من عصر إلى آخر، ومن مجتمع إلى سواه.
وكذلك حين يكون الوقف لأهل البيت فإنه يجب الالتزام بعنوان غرض الواقف، لكن الأساليب والمصاديق لذلك العنوان قابلة للتكييف والتغيير، حسب ما يخدم الغرض. قال المرجع الديني السيد السيستاني حفظه الله: «إذا وقف على النبي والأئمة صرف في إحياء ذكرهم، وإعلاء شأنهم، كإقامة المجالس لذكر فضائلهم ومناقبهم ووفياتهم، وبيان ظلاماتهم، ونحو ذلك، مما يوجب التبصر بمقامهم الرفيع»(23).
إن أوقافاً كثيرة بأسماء الطاهرين من أهل البيت ، لكن الاستفادة منها غالباً ما تنحصر في بعض البرامج التقليدية كإقامة مجالس العزاء والإطعام في المناسبات الخاصة بهم، بينما يمكننا الاستفادة من هذه الثروة الهائلة في إحياء ذكر أهل البيت على المستوى العالمي، وفي نشر تراثهم المعرفي على أوسع نطاق، لو اتسعت عقليات القائمين على هذه الأوقاف لاستيعاب هذه الاهتمامات والتوجهات.
إن تاريخ حياة أئمة أهل البيت ، لا يزال بحاجة إلى المزيد من البحث والدراسة، وفي سيرة كل إمام هناك محطات ومواقف هامة تستلزم التحقيق وتسليط الأضواء، ولم تعد الجهود الفردية قادرة على إنتاج البحوث والدراسات المواكبة لتطور مناهج البحث العلمي، مما يعني ضرورة تأسيس مراكز ومعاهد أبحاث متخصصة لدراسة حياة كل إمام، أو لبحث كل جانب من جوانب حياتهم وعطائهم .
كما أن تأسيس كرسي باسم أهل البيت لدراسة فكرهم في الجامعات العلمية العالمية أمر مطلوب وملح في هذا العصر.
أليس من المؤسف ألا يكون لدينا مركز علمي واحد لدراسة حياة أي من الأئمة الهداة، مع امتلاك كل إمام لثروة وقفية هائلة باسمه ولغرض إحياء ذكراه؟
إن تطور وسائل الإعلام والاتصالات تتيح فرصاً هائلة لنشر تراث أهل البيت ومعارفهم، وهناك حاجة ماسة في ساحة الأمة للاطلاع على سيرة أهل البيت، والاقتباس من هديهم لإضاءة طريق النهضة والخلاص، وهناك عطش وشوق عند رواد القيم الإنسانية، والباحثين عن المعرفة والفكر على المستوى العالمي، لقراءة تراث أهل البيت وعطائهم.
إن أدنى ما يمكن تحقيقه وجود مواقع إلكترونية متخصصة بعرض سيرة كل إمام ونشر معارفه وتراثه، وفي مستوى متقدم لا بد من تأسيس قنوات فضائية والاستفادة من الفضائيات المعروفة، خاصة في مناسبات ذكريات أهل البيت، ورعاية بعض البرامج ضمن هذه الفضائيات.
والإنفاق على مثل هذه البرامج من وارد الأوقاف المعنونة باسم إمام من أئمة أهل البيت على نحو الإطلاق، أمر لا غبار عليه من الناحية الشرعية. بل هو من أجلى مصاديق ما أشار إليه المرجع الديني السيد السيستاني « إذا وقف على النبي والأئمة صرف في إحياء ذكرهم، وإعلاء شأنهم..».
تبقى الأوقاف التي تتحدد أغراضها في عنوان أضيق كإقامة مآتم العزاء، أو الإطعام في مناسبة معينة، فإن علينا أن نبحث عن إمكانية التحرك ضمن ذلك العنوان الخاص، بما يوسع مدى الاستفادة ويطور آفاقها.
فمثلاً: يمكننا أن نتوسع في عنوان الإطعام إلى جانب الأسلوب المتعارف من تقديم الطعام للمشاركين في إحياء المناسبة، بوضع برنامج لتوفير الاحتياجات الغذائية للفقراء في المجتمع من خلال المناسبة، حينما تتسع إمكانيات الوقف.
ويمكننا أن نتوسع في عنوان إقامة مجالس العزاء، ليشمل مناطق أخرى في العالم، إن لم يحدد الواقف مكاناً خاصاً، أو أن نعمل لبث مجلس العزاء من نفس المكان المقرر ضمن وسائل إعلامية ومعلوماتية متطورة.
وحين يكون الوقف خاصاً بحسينية معينة، فإنه يمكننا تطوير برامج تلك الحسينية، بإنشاء مكتبة فيها، وتكوين موقع إلكتروني باسمها، وإقامة مؤتمرات ودورات ضمنها، وإصدار مجلة أو نشرة، وما شابه ذلك.
إن لبعض الأوقاف واردات ضخمة، لا تستوعبها المصارف التقليدية المتعارفة، فتقام بعض مجالس العزاء لإبراء الذمة فقط، وإن لم تكن بالشكل المفيد والمناسب. وقد ذكر لي أحد أولياء الأوقاف في القطيف، أن الحسينية التي يشرف عليها لا تستهلك إلا 20% كحد أعلى من واردات الوقف المخصص لها، والباقي مجمّد في البنوك منذ سنوات!!
وأعرف بعض المجالس التي تقام في وقت غير مناسب للمستمعين كالصباح الباكر جداً، أو في وقت متأخر من الليل، لأن صاحب الوقف ملتزم بعنوان إقامة المجلس في المناسبة، فيقيمه بأي شكل كان لمجرد إسقاط الواجب.
إن مجالس كثيرة تقام في بعض مناطقنا في المناسبات متداخلة متشابكة، ولا يُكاد يستفاد منها، بينما تتعطش مجتمعات أخرى لمثل هذه المجالس ولا تمتلك إمكانيتها.
وفي مجال الإطعام قد يحصل ابتذال وإسراف وتبذير في المناسبات الدينية في بعض مجتمعاتنا، لأن المقصود هو مجرد الالتزام الحرفي بعنوان الوقف، بينما توجد عوائل فقيرة هي في أمس الحاجة لبعض هذه الكميات من الطعام التي تؤول إلى صناديق القمامة.
ويمكننا عند مواجهة أي تردد أو إشكال شرعي في ما يرتبط بتطوير وسائل وبرامج الاستفادة من أوقاف أهل البيت أن نعود إلى المرجعية الدينية لإطلاعها على واقع الحاجات، وآفاق الفرص، لتمدنا بالرأي الشرعي الذي نحرص على الالتزام به.
نأمل أن تقدم المؤسسات القائمة لإدارات الأوقاف الجعفرية تجربة ناجحة، ونموذجاً ريادياً على هذا الصعيد، لتشق الطريق أمام المحاولات والمساعي الأخرى.