احترام الإنسان
من بين الخصال الطيبة العديدة التي تحلّى بها فقيدنا الراحل السيد علي العوامي رحمه الله أودّ التركيز على صفة هامة أراها جذراً ومنبعاً لكل مزاياه الحميدة، واعتقد أنها سرّ ما لحظناه من إجماع على محبته واحترامه من مختلف توجهات وشرائح محيطه الاجتماعي.
وتلك الصفة هي إنسانيته في النظر إلى الناس والتعامل معهم.
فقد كان رحمه الله يحترم كل إنسان باعتباره إنساناً أولاً وقبل كل شيء، دون النظر إلى منطقته، أو سنّه، أو انتمائه العائلي، أو توجهاته الفكرية والسياسية. ويقدّر العمل الصالح والكفاءة النافعة لأي شخص أو من أية جهة. ويسعى لخدمة الآخرين ومساعدتهم دون توقع شكر أو جزاء.
كان يحترم الصغير والكبير، ويشيد بأي طاقة أو موهبة، ويتفاعل مع كل حركة بناءَة دون تحفظ على أحد، أو حساسية من أحد.
وأعرف عنه تواصله مع عناصر ومجاميع من الشباب المثقفين والعاملين هم في سنّ أحفاده، يستقبلهم بحفاوة، ويبادلهم الزيارات، ويبادرهم بالاتصال، ويتفقّد أوضاعهم وأحوالهم، وقد قال لي أحد مثقفينا الشباب، وهو مقيم خارج ملكة: إن السيد أبا كامل يتصل به في كل عيد ومناسبة ليقدم له التهاني والتبريكات.
وانطلاقاً من إنسانيته العميقة لم يكن يسمح لنفسه بالإساءة إلى أحد، أو جرح مشاعر أي كان، بل يعبّر عن رأيه بأدب وصفاء، ويمحض الآخرين النصيحة، ويكاشفهم بما لديه من ملاحظة ونقد، بطريقة ودّية، وأسلوب لبق، يفيض محبة وحنانا.
إنه يحرص على مساعدة أبناء وطنه ومجتمعه وخاصة المهتمين بالشأن العام، والعاملين من أجل مصلحة الوطن. وقد سمعت من العديد من زملائه الذين رافقوه في المحنة التي تعرّض وتعرضوا لها، كيف كان يرفع معنوياتهم، ويساعدهم على تضميد جراحاتهم وآلامهم، وكثيراً ما كان يغسل ثيابهم، وينظّف مكان إقامتهم، مع أنه كان من أكثرهم معاناة وأكبرهم سنا.
وضمن هذا السياق كان من الطلائع الوطنية المبادرة إلى الاهتمام بكل شأن عام، ويذكر الجميع هنا دوره الريادي في المطالبة بإنشاء مدارس التعليم للبنين والبنات، وتصديه مع ثلة من الخيرين الواعين لافتتاح مدرسة أهلية للبنين وأخرى للبنات، قبل بدء مدارس التعليم الرسمي من قبل الدولة.
كما سخّر فكره وقلمه للكتابة حول هموم الوطن والمواطنين مشجعاً على الحركة والفاعلية، ومطالباً بتحسين الأوضاع وإصلاح الأمور، ومؤرخاً لرجالات المجتمع من ذوي التأثير الوطني والاجتماعي، وموثقاً للأحداث والتطورات.
وأذكر هنا كشاهد على إنسانيته وأريحيته الوطنية: أنه رحمه الله زارنا في دمشق قبل حوالي خمسة عشر عاماً، يوم كنا نعيش في المهجر ضمن برنامج عمل سياسي، وكانت الظروف آنذاك تمنع الكثيرين من اللقاء بنا، وتجعل نظرة بعضهم مشوشة تجاهنا، لكن الفقيد الراحل كان من الشخصيات القليلة النادرة التي لمسنا منها التشجيع والتقدير لكل جهد وطني، وسعي إصلاحي، كاشفنا بما لديه من ملاحظات، ونقل لنا ما يدور في بعض الأوساط من تساؤلات، وأصغى لنا باهتمام، وفتح لنا قلبه، وحدثنا عن تجاربه، وأفادنا بالعديد من المقترحات والآراء، ثم أخذ على عاتقه مهمة توضيح الصورة للآخرين، ودعوتهم للتواصل والتفاعل الإيجابي.
وحينما عدنا إلى الوطن وجدنا فيه خير ناصح ومشير وداعم ونصير. لذلك نشعر لغيابه وفقده بخسارة فادحة، وفراغ كبير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها الأخوة الأعزاء:
إن أهم تجليل وتخليد لذكرى فقيدنا الغالي يتجسد في إحياء وتأكيد هذه القيمة السامية التي كان يتمثلها، وهذا الخلق الرفيع الذي كان يلتزم به: احترام الإنسان.
وهي قيمة أساس في الشرائع الإلهية يقول الله تعالى ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾.
فكل إنسان مشمول بهذا التكريم الإلهي باعتباره من بني آدم بغض النظر عن دينه أو معتقده أو اتجاهه.
يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: (إن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر مع الغض عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية والقرب والفضيلة الروحية المحضة فالكلام يعم المشركين والكفار والفساق) وقال العلامة الآلوسي البغدادي: (ولقد كرمنا بني آدم أي جعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم ذوي كرم).
ويؤكد القرآن الكريم على ضرورة حسن التخاطب مع أي إنسان باعتبار ذلك مظهراً ومصداقاً لاحترامه وتكريمه يقول تعالى: ﴿وقولوا للناس حسنا﴾.
وقد سئل رسول الله: من أحب الناس إلى الله؟ فقال: أنفع الناس للناس[1] . ويروي الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سرورا"[2] .
وأخرج البخاري في صحيحه في الحديث رقم 1312 أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "أليست نفساً؟"[3] .
إن مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى ثقافة حقوق الإنسان، والتي يجب أن تتحول إلى قناعة راسخة في النفوس، ومنهجية ثابتة في السلوك، وليس مجرد شعار يرفع في الصراع السياسي.
نحتاج إلى ممارسة احترام الإنسان ورعاية حقوقه في تعاملنا مع عوائلنا وجيراننا وزملائنا وموظفينا ومع من نختلف معهم في المعتقد والتوجه ولا يصح أبداً أن يكون الاختلاف في الانتماء والرأي مبرراً لانتهاك حقوق الإنسان، أو إسقاط احترامه، أو التقليل من شأنه.
والنخبة الدينية والثقافية في المجتمع مطالبة بتعميق هذه الثقافة، وبث مفاهيمها، وتعزيز سلوكياتها في أوساط الجمهور. وذلك بأن تكون النخبة نموذجا يحتذى كما هي سيرة فقيدنا الراحل، وأن تربي من حولها على هذه الأخلاقيات.
لكن ما يؤسف له أن بعض هذه النخب الدينية والثقافية تلعب دوراً سلبياً تجاه حقوق الإنسان، بتضخيم ذواتها، والانتقاص من الآخر، وتعبئة جمهورها ضده، بأساليب مخالفة للقيم والأخلاق، تنطلق من إساءة الظن، والتشكيك في النوايا، وتصيّد الأخطاء، ومن ثم التحريض على الكراهية والعداء.
إن مجتمعاتنا وأوطاننا بحاجة إلى إشاعة روح التسامح، وأخلاقية الاحترام المتبادل، والقبول بالتعددية والرأي الآخر، لنكون جديرين بالحياة في هذا العصر المتلاطم الأمواج، المزدحم بالتحديات.
وأخيراً فإني اغبِط السيد أبا كامل أنه قد فارق هذه الحياة والتحق بالرفيق الأعلى، قبل أن يشهد أسوأ وأفظع مأساة تمر بها أمتنا العربية والإسلامية، والمتمثلة فيما تمارسه القوات الصهيونية من عمليات إبادة وقتل ودمار وإهانة وإذلال في أبناء شعبنا في فلسطين، ولو كانت هذه المجازر الجماعية بفظاعتها المذهلة تحصل لقطعان من الماشية والحيوانات، لما سكت عنها العالم بهذا الشكل.
لكن هذه هي صورة العالم في ظل الهيمنة الأمريكية، وتحت تأثير نظرية صدام الحضارات.
لقد استراح قلبك يا أبا كامل من أن يتفجر ويتمزق ليس لهول المجازر الرهيبة فقط وإنما لمشهد الخذلان العربي الرسمي، حيث لا تزال بعض الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية تحرص على مراعاة مشاعر الكيان الصهيوني، ولا تمتلك الإرادة والجرأة لقطع علاقاتها العبثية معه، ولا أدري هل يبكي الإنسان أم يضحك وهو يقرأ تصريحاً لأحد الحكام العرب يهدد فيه بمنتهى الشجاعة والبطولة قائلاً: إن لم تنسحب إسرائيل من المدن الفلسطينية فستتأثر علاقاتنا بها.. يا للمذلة والمهانة إن كل ما فعلته إسرائيل لحد الآن لا يستوجب أن تتأثر العلاقة معها.. إن ذلك يشبه أن تقول لسارق معتد اقتحم بيتك وهتك عرضك ونهب مالك، ثم تقول له بعد كل ما فعل: إن لم تخرج الآن من بيتي فسأزعل عليك.
لقد خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الناس بعد أن بلغه خبر غزو جيش معاوية لمنطقة الأنبار على فرات العراق، فكان من خطابه قوله: "وهذا أخو غامد -يعني سفيان الغامدي قائد الجيش- وقد وردت خيله الأنبار.. ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، وينتزع حِجلها وقُلْبَها وقلائدها ورُعُثَها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسَفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا، فيا عجباً! عجباً والله يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم فقبحاً لكم وترحا، حين صرتم غرضاً يرمى يغار عليكم ولا تغيرون وتُغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون".