الآخر المخالف: كيف ننظر إليه؟
الإنسان المتدين وهو يعتقد بأحقية دينه، وصواب مذهبه، كيف ينظر إلى الآخرين المختلفين معه في الدين أو المذهب؟
لاشك أن الحق واحد لا يتعدد، فإذا آمن الإنسان بدين أو مذهب على أنه حق وصواب، فلابد وأن يكون ما يخالفه عنده باطلاً وخطأً، وحتى إذا كان هناك نقاش حول التخطئة والتصويب في الفروع الشرعية، حيث ذهب بعض العلماء إلى القول بالتصويب، بمعنى أن حكم الله تعالى في المسألة الاجتهادية هو ما اهتدى إليه المجتهد باجتهاده، وليس هناك حكم معين من قبل، فكلما يصل إليه اجتهاده فهو الصواب، بينما يرى أغلب العلماء، أن لله تعالى أحكاماً معينة في كل مسألة اجتهادية، فمن هداه اجتهاده إلى ذلك الحكم فقد أصاب، وإلاّ فهو مخطئ. لكن قضايا أصول الاعتقاد لا يمكن أن يجري فيها هذا الاختلاف والنقاش، ولا أن يقول أحد فيها بالتصويب، فعند تعدد المعتقدات لا يقول أحد من العلماء بتصويب الجميع، كما هو الحال في المسائل الفرعية الشرعية، بل اتفقت أقوال العلماء بأن التخطئة تقع في أصول الاعتقاد، والأحكام العقلية عدا ما نسب إلى العنبري عبيد الله بن الحسن ين الحصين، قاضي البصرة (توفي 168هـ) من أن كل مجتهد في الأصول مصيب أيضاً وليس فيها حق متعين. وهو قول شاذ وينقل ابن حجر تراجع صاحبه العنبري عنه[1] .
ومعنى ذلك أن كل متدين يرى أحقية دينه ومذهبه، وأن المخالفين له على خطأ وباطل في أديانهم ومذاهبهم.
بين العقائد والمعتقدين
وإذا كانت نظرة المتدين إلى سائر الأديان والمعتقدات المخالفة لدينه ومذهبه، على أنها خاطئة وباطلة أمراً منطقياً مفهوما، شريطة أن يكون تدينه هو قائماً على أساس الدليل والبرهان، فإن نظرته إلى المعتقدين بتلك الأديان والمذاهب، مسألة تحتاج إلى بحث وتمحيص.
ذلك أننا نجد في الساحة الفكرية والاجتماعية توجهات متباينة متناقضة، في تحديد النظر إلى الآخر المخالف دينياً أو مذهبياً، تتراوح بين التشدّد المفرط والتسامح المفرط.
ولعل من أسباب ذلك ما يلي:
أولاً: اختلاف الفهم في الموازنة والترجيح بين ما ورد في التراث الديني، من نصوص وآراء، يدفع بعضها باتجاه التشدّد تجاه المخالفين، بينما يشجّع قسم منها على المرونة والتسامح.
ثانياً: دور الظروف الخارجية من حيث موقعية المخالف ونمط العلاقة معه، فحينما يكون المخالف في موقع قوة واقتدار، ولا يمارس بطشاً وعدواناً، فإن ذلك يسهم في تشكيل صورة أفضل عنه، ويلغي مبررات التشددّ تجاهه، وعلى العكس من ذلك لو كان المخالف في موضع حاجة وضعف، أو كان مصدراً للقلق والأذى، فستكون صورته قاتمة كالحة.
ثالثاً: تدخل المشاعر والأحاسيس النفسية الذاتية، حيث تنطلق عند بعض المتدينين روحية الأنانية والاستعلاء، ومشاعر الحقد والانتقام، تحت مبررات دينية مذهبية.
رابعاً: وقد تصبح النظرة إلى الآخر المخالف مجالاً للمزايدات في الساحة الإعلامية والجماهيرية، فمن أجل أن يكرّس هذا الزعيم موقعيته في جمهوره، أو يحصّن هذا المرشد أتباعه ومريديه، يبالغ في تعتيم صورة الآخر المخالف.
من هنا تبرز أهمية البحث والدراسة الموضوعية لرؤية الدين في النظر إلى المخالفين. والمقصود بذلك النظر إليهم كأشخاص وأناس، وليس كمعتقدات، لأن المفترض في المسلم إيمانه بصحة معتقداته عن دليل وبرهان، مما يعني لديه عدم صحة ما يخالفها.
هل كل مخالف في النار؟
التفكير السائد عند أكثر المتدينين أنّ الجنة حكرٌ على أهل دينهم ومذهبهم، أمّا المخالفون لهم فمصيرهم الحتمي نار جهنم، ذلك أن الجنة لا يدخلها إلا أهل الحق، ولا تنجو من النار إلاّ فرقة واحدة، هي الفرقة الناجية، ويرى أهل كل دين أو مذهب أنهم هم أهل الحق والفرقة الناجية، وبقية العالم كلهم في النار.
وهذا ما نقله القرآن الكريم عن اليهود والنصارى يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[2] .
وهناك حديث متداول في أوساط المسلمين هو حديث الفرقة الناجية، حيث يروى عن رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) أنه قال: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة"[3] .
ورغم تحفظ كثير من العلماء من مختلف المذاهب على سند هذا الحديث، وعلى ضبط متنه، إلاّ أنه متداول، ويشكل مرجعية لدى المتدينين في نظرتهم إلى مخالفيهم في المذهب والاتجاه من المسلمين.
وقد طعن في سند الحديث ابن حزم وابن الوزير والشوكاني وتوسّع الشيخ يوسف القرضاوي في مناقشته ورده سنداً ومتناً[4] .
وقال الشيخ جعفر السبحاني: "إنّ مشكلة اختلاف نصوص الحديث لا تقل إعضالاً عن مشكلة سنده، فقد تطرق إليه الاختلاف من جهات شتى، لا يمكن معه الاعتماد على واحد منها"[5] .
ليس كل مخالف جاحداً
ما يجب التنبّه له أنّ المخالفين لما نعتقده حقاً لا يمكن سوقهم جميعاً بعصا واحدة، فهناك من يتضح له الحق ولكنه يجحد ويكابر، وهناك من لم تتوفر له فرصة التعرّف على الحق والاطلاع عليه، ولو أتيحت له تلك الفرصة، وأزيحت من أمامه الشبهات والحواجز، لما تردد في قبول الحق.
وإذا كان الجاحد المعاند مستحقاً لعذاب الله وغضبه، فإن المستعدّ نفسياً وفكرياً لقبول الحق لو بلغه واتضح لديه، له حساب آخر.
إنّ أشخاصاً كثيرين يعيشون ضمن بيئة مخالفة للدين الحق، ولا تصلهم رسالة الإسلام، فهم قاصرون عن الوصول إلى الحقيقة، وقد لا يكونون مقصّرين، ولديهم قلوب صافية طيبة لا ترفض الحق، وما نسمعه عن دخول أناس جدد إلى الإسلام من أمريكيين وأوروبيين وغيرهم يؤكد هذه الحقيقة.
فمثل هؤلاء الناس غير المعاندين يتسع لهم عفو الله ورحمته وإن كانوا كفاراً، لأن الله تعالى لا يعذب أنساناً قبل إكمال الحجة عليه، يقول تعالى: ﴿َمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾[6] ويقول تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾[7] .
وينقل الشيخ المطهري عن "ديكارت" الفيلسوف الفرنسي قوله: إني لا أدعي أنّ المسيحية قطعاً أفضل دين في الأرض، ولكني أقول إنّ المسيحية هي الأفضل بالقياس إلى الأديان التي أعرفها، وقد تناولتها بالبحث والتحقيق، وليس لي أي عداء مع الحقيقة، فقد يكون هناك في أماكن أخرى من الدنيا دين يرجح على المسيحية، إنّه لا علم لي فلعل ديناً ومذهباً يوجد في إيران مثلاً هو أفضل وأحسن من المسيحية.
ويعقب الشيخ المطهري قائلاً: لو كان ديكارت صادقاً في حديثه ومستسلماً للحقيقة بالمقدار الذي يدعيه لنفسه، وقد بحث واستقصى بكل جهوده ولم يصل إلى أكثر مما وصل إليه فهو يعتبر حينئذ مسلماً بالفطرة[8] .
ومما يؤيد ذلك ما ورد عن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالساً عن يساره، وزرارة عن يمينه، فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن شكّ في الله؟ فقال (عليه السلام): كافر يا أبا محمد. قال: فشكّ في رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وسلم)؟ فقال: كافر. قال: ثم التفت إلى زرارة فقال (عليه السلام): إنما يكفر إذا جحد[9] .
المستضعفون فكرياً
تتحدث بعض النصوص الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) عن الناس المستضعفين فكرياً، والذين تقصر مداركهم عن إدراك الحقائق، أو أن الظروف الاجتماعية التي يعيشونها تسلب منهم إمكانيات المعرفة ووسائل البحث للوصول إلى الحق، فهؤلاء يتسع لهم عفو الله سبحانه وتعالى، وهم مصداق للمستضعفين الوارد في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾[10] .
ويشير الإمام علي (عليه السلام) إلى صدق عنوان الاستضعاف على من تتعذر عليه وسائل المعرفة بقوله (عليه السلام): "ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه"[11] .
وروي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال حينما سئل عن المستضعفين؟: "إنهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكافرين، وهم المرجون لأمر الله"[12] .
وفي حديث آخر يشير الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) إلى أن تصنيف الناس لا يتحدد بصفة الإيمان أو الكفر، بل إن هناك مجالاً أرحب وأوسع في النظر إلى الناس، فعن الحارث عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: سألته: بين الإيمان والكفر منزلة؟ فقال: نعم، ومنازل لو يجحد شيئاً منها أكبه الله في النار: بينهما ﴿آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ وبينهما ﴿الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾وبينهما ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ وبينهما قوله: ﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾[13] .
وللعلامة الطباطبائي في تفسير الآية الكريمة ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ...﴾ كلام مهم عميق نقتطف منه ما يلي: وهذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقي معارف الدين، لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب، مع عدم الاستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار الإسلام، والالتحاق بالمسلمين، لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالي ونحو ذلك، كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية، ولم يهتد فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق ولا يستكبر عنه أصلاً، بل لو ظهر عنده حق اتبعه، لكن خفي عنه الحق لشيء من العوامل المختلفة الموجبة لذلك.
فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً، لا لأنه أعيت به المذاهب بكونه أحيط به من جهة أعداء الحق والدين بالسيف والسوط، بل إنما استضعفته عوامل أخر سلطت عليه الغفلة، ولا قدرة مع الغفلة، ولا سبيل مع هذا الجهل[14] .
سعة رحمة الله
بعض الناس يريدون أن يحجّموا رحمة الله تعالى حسب نفسيتهم المحدودة، ونظرتهم الضيقة، فيحكمون على كل من يخالفهم في الدين أو المذهب بالحرمان من الجنة، والدخول في النار، لكن ما نعرفه من سعة رحمة الله تعالى، وواسع عفوه، يجعلنا أكثر تفاؤلاً تجاه مستقبل هؤلاء الناس، الذين خلقهم الله تعالى ليرحمهم ﴿إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾[15] .
والأحاديث الواردة عن النبي (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) وأهل بيته الكرام تعطي المسلم لو تأملها أُفقاً أرحب، ونظرة أوسع، تجاه الناس.
ورد في حديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته"[16] .
ومع ورود أحاديث كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حول فرض ولايتهم، وأنها شرط لقبول الأعمال ولدخول الجنة، إلا أنهم من جهة أخرى يؤكدون أن المسألة ترتبط بقضية الجحود والعناد، أي أن من اتضحت له حقيقة ولايتهم، وأتيحت له فرصة التعرف على حقهم، ثم أعرض وكابر، فهو مستحق للعذاب والحرمان، أما في غير هذه الصورة فهو مشمول برحمة الله تعالى، كما تتسع له جنته ورضوانه.
يروي الإمام جعفر الصادق عن آبائه عن علي (عليه السلام): " إن للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منه شيعتنا ومحبّونا، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت"[17] .
وعن زرارة قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): أصلحك الله أرأيت من صام وصلى واجتنب المحارم وحسن ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب؟ فقال (عليه السلام): إن الله يدخل أولئك الجنة برحمته[18] .
وجاء في حديث أن كامل بن إبراهيم المدني جاء ليسأل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنه هل يدخل الجنة إلا من عرف معرفتك وقال بمقالتك؟ فأجابه ابنه الإمام محمد المهدي (عليه السلام) مستنكراً قوله: إذن والله يقلّ داخلها[19] .
منهج الأنبياء والأئمة
لا يمكن المزايدة على الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) في الإخلاص للدين والحرص عليه، فإذا أردنا الانطلاق من الدين والمبدأ في النظر إلى المخالفين لنا في الدين أو المذهب، فعلينا أن نقرأ منهج المعصومين (عليهم السلام)، وطريقتهم في التعاطي مع الآخرين، ونستلهم منها الموقف الشرعي السليم. ومن خلال الآيات القرآنية والأحاديث والآثار الواردة يمكننا أن نستنتج المفاهيم التالية:
أولاً: كانوا يلتمسون العذر غالباً لأقوامهم بأنهم جاهلون لا يعلمون الحقائق، وفي حالات محدودة جاء التصريح بأن المخالفين ينطلقون من العناد والمكابرة والجحود.
وفي ذلك درس بليغ لنا بأن لا نتسرع في إساءة الظن بالآخرين، وان نتفهم ظروفهم التي تجعلهم غير مطلعين على الحقيقة.
لقد آذى المشركون رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) أشد الأذى، ولكنه كان يدعو لهم بالهداية، ويعتذر عنهم بجهلهم. قال القاضي عياض في الشفاء: وروي أنه لما كسرت رباعيته وشجّ وجهه يوم أحد، شقّ ذلك على أصحابه شديداً، وقالوا: لو دعوت عليهم؟ فقال (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم): إني لم أُبعث لعاناً ولكني بعثت داعياً ورحمة. اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون. ثم قال القاضي: انظر ما في هذا القول من جماع الفضل، ودرجات الأحسان، وحسن الخلق، وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم، إذ لم يقتصر (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) على السكوت عنهم، حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم، فقال: اللهم اغفر أو اهد، ثم اظهر سبب الشفقة بقوله: (لقومي) ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال: (فانهم لا يعلمون)[20] .
واخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله قال: كأني انظر إلى النبي (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) يحكي نبياً من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)[21] .
ثانياً: النظر إلى المخالفين بإشفاق ومحبة وحرص على مصلحتهم، وليس من خلال حالة كره أو حقد أو انتقام، ولو تأملنا الصورة التالية التي ينقلها القرآن الكريم عن مخاطبة النبي شعيب (عليه السلام) لقومه، وكيف كانت كلماته مفعمة بالحنان والشفقة عليهم، وإظهار الحرص والرغبة في إنقاذهم من الأخطار والمهالك، يقول تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾… ﴿وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ. فِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾[22] .
ثالثاً: الاجتهاد في تبليغ الرسالة، وتوضيح الحقيقة للآخرين المخالفين.
إن كثيراً من المتدينين ممن يرسمون في أذهانهم صورة قاتمة عن الآخرين، ويحكمون عليهم بالنار والعذاب، إنما يخلقون بينهم وبين الآخرين حاجزاً نفسياً، يمنعهم من الانفتاح عليهم، والسعي لهدايتهم، وتبيين ما يعتقدونه حقاً لهم. وقد يبررون لأنفسهم التقاعس والتقصير في العمل بهذه النظرة السوداء التشاؤمية تجاه الآخرين.
اختلاف الرأي لا يوجب العداوة
قد تعادي شخصاً لأنه أساء لك أو اعتدى على حق من حقوقك، وهذا موقف مفهوم مشروع، وقد تعادي شخصاً لأنه ينافسك أو يزاحمك على مصلحة من المصالح أو مكسب من المكاسب، وهو أمر وارد وقابل للنقاش، أما أن تعادي شخصاً لأن له رأياً يخالف رأيك في قضية علمية أو دينية أو سياسية، فذلك موقف لا يسوّغه لك الشرع ولا العقل.
الرأي: شأن خاص
والرأي كما في اللغة: هو الاعتقاد، والجمع آراء. أي ما اعتقده الإنسان وارتآه. تقول رأيي كذا، أي اعتقادي. والاعتقاد والعقيدة: ما عقد عليه القلب والضمير، وما تديّن به الإنسان واعتقده.
وبذلك فالرأي من شؤون قلب الإنسان، وهو من أخص خواصه الذاتية الشخصية، فلا يحق لأي أحد أن يتدخل في هذا الشأن بالقسر والقوة، كما أن التدخل في هذه المنطقة المحرّمة لا يجدي ولا يؤثر، فإذا ما حاولت أي قوة أن تفرض على إنسان رأياً أو تمنعه من رأي، فإنها لن تستطيع إلا إخضاعه ظاهراً، أما قراره الداخلي، وإيمانه القلبي، فيستعصي على الفرض والإكراه.
لذلك فإن الله سبحانه وتعالى ينفي إمكانية الإكراه على الدين وينهى عنه يقول تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾[23] .
من هذا المنطلق فإن التظاهر بالكفر إذا كان ناتجاً عن ضغط وإكراه، فهو مشروع ولا يناقض الإيمان المستقر في القلب، يقول تعالى ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾[24] ويعبّر عن ذلك في الاصطلاح الشرعي بالتقيّة، والتي هي: التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق، اقتباساً من قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾[25] .
فالرأي والاعتقاد لا يغيّره الضغط والقهر، والتظاهر بالتخلي عن ذلك الرأي لا يزيله من قرارة نفس الإنسان، بل قد يزداد ثبوتاً ورسوخاً، بدافع التحدي ورد الفعل.
وقد أعطى الله سبحانه وتعالى المجال للإنسان في هذه الحياة ليمارس حرية الرأي والمعتقد، فلم يفرض عليه الإيمان به عنوة، بل أنار له طريق الهداية، وترك له حرية الاختيار ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[26] .
﴿وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر﴾[27] .
ولم يسمح الله تعالى حتى لأنبيائه أن يصادروا من الإنسان حرية رأيه واختياره، فهم يعرضون رسالة الله على الناس، دون فرض أو إكراه ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾[28] ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[29] .
وإذا كان للرأي هذه الخصوصية في نفس الإنسان، والموقعية في شخصيته، فكيف يحق لك أن تتدخل في هذه الخصوصية، وأن تعادي إنساناً أو تسيء إليه لأنه يمارس شأنه الخاص به في أعماق نفسه؟
إننا نعترف للآخرين بخصوصيتهم في سائر المجالات، كالأكل والشرب مثلاً، فلو رأيت إنساناً يعادي شخصاً لأنه لا يرغب في نوع معين من الطعام، أو يعزف عن لون آخر، لاستنكرت عليه ذلك، على اعتبار أن هذه الرغبات شأن خاص لا علاقة للآخرين بها، والحال أن الرأي آكد خصوصية، وأشد التصاقاً بنفس الإنسان.
اجعل نفسك ميزاناً
وأنت حينما تعادي زيداً أو عمراً لأنه يخالفك في هذا الرأي أو ذاك، هل ترضى أن يعاديك الآخرون على هذا الأساس؟ إنك لا تقبل أن يسيء إليك أحد لأنك تحمل رأياً معيناً، حيث تعتبر ذلك شأناً خاصاً بك، وتعتقد بأحقية رأيك، وعليك أن تعرف أن الآخرين يرون لأنفسهم ما ترى لنفسك.
وفي وصيته الخالدة لابنه الحسن (عليه السلام) يقول الإمام علي (عليه السلام): (يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها)[30] .
إنها قاعدة أساسية هامة في تعامل الإنسان مع الآخرين، ترجعه إلى ضميره ووجدانه، قبل أي شيء آخر.
احتمال الخطأ والصواب
يبالغ بعض الناس في التعصب لآرائهم، ويفرطون في الثقة بها، بحيث لا يفسحون أي مجال ولا يعطون أي فرصة للرأي الآخر، فهم على الحق المطلق دائماً، وغيرهم على الباطل في كل شيء.
وينتج عن هذه الحالة - غالباً - موقف التطرف والحديّة تجاه المخالفين، وحتى في الاختلاف عند بعض القضايا الجزئية، والأمور البسيطة الجانبية.
إنه خلق يخالف تعاليم الإسلام الذي يربي أبناءه على الاستماع لمختلف الآراء ومحاكمتها على أساس الدليل والمنطق، لا التعصب والانفعال. يقول تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِي. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾[31] .
وأكثر من ذلك فإن رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) والذي لا يشك في أحقية دعوته بمقدار ذرة واحدة، يخاطب المشركين بمنتهى التواضع والموضوعية قائلاً ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾[32] . إنه منهج تربوي عظيم، يصوغ شخصية الإنسان على أساس احترام الآخرين، ومركزية العقل والوجدان.
والتعصب المطلق للرأي، والحدية والتشنج تجاه آراء الآخرين، يمنع الإنسان من الانفتاح على الرأي الآخر، واستماعه والإطلاع عليه، وربما كان هو الرأي الصحيح والصائب. ثم أن ذلك قد يجعل الإنسان في موقف حرج مستقبلاً إذ قد يتبين له خطأ رأيه، فكم من إنسان تراجع عن رأيه، وتغيرت قناعاته؟ وتلك حالة طبيعية قد تحصل للإنسان تجاه مختلف المسائل والقضايا.
وجميل ما قاله أحد العلماء: إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
تفّهم مواقف الآخرين
حينما تعتقد أحقية رأي معين، وتجد آخرين يخالفون هذا الرأي الحق - في نظرك - فإن عليك قبل أن تتهمهم بالعناد والجحود والمروق، وأن تتخذ منهم موقفاً عدائياً، عليك أن تتفهم ظروفهم وخلفية مواقفهم.
فلعل لديهم أدلة مقنعة على ما يذهبون إليه.
أو لعلهم يجهلون الرأي الحق، لقصور في مداركهم ومعلوماتهم.
أو لعلهم يعيشون ضمن بيئة وأجواء تحجب عنهم الحقائق.
أو لعلّ هناك شبهات تشوّش على أذهانهم وأفكارهم.
وتجاه مثل هذه الاحتمالات فإن المطلوب منك هو دراسة موقف الطرف الآخر، ومعرفة وجهة نظره، والدخول في حوار موضوعي معه، ومساعدته على الوصول إلى الحقيقة.
ونشير هنا إلى ملاحظة دقيقة هي: أن الإنسان قد يؤمن برأي من الآراء، ويعتبره حقيقة واضحة، تصل إلى مستوى المسلمات والبديهيات، لأنه قد أشبع الأمر بحثاً، وانشد إليه نفسياً، وعاش ضمن محيط قائم على أساس ذلك الرأي، فالمسألة أمامه واضحة جلية لا نقاش فيها، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للآخرين.
ويربينا القرآن على هذا النهج الموضوعي حينما يتحدث عن فئآت من الرافضين لرسالات الأنبياء، بأن سبب ذلك الرفض هو الجهل وعدم العلم، كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[33] . وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[34] . ويقول تعالى: ﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ﴾[35] .
وصلوات الله تعالى على نبينا نبي الرحمة محمد (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) الذي كان يدعو الله تعالى لهداية قومه قائلاً: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
مسؤولية الرأي على صاحبه
إذا ما أصر إنسان على رأي خاطئ، ورفض قبول الحق والصواب، فإنه هو الخاسر بالدرجة الأولى، وسيدفع ثمن خطئه، ويتحمل مسؤولية رأيه، وما على المهتدين للحق إلا إرشاده وتوضيح الحقائق له، ثم هو بعد ذلك له كامل الحرية والاختيار، فإن استجاب فقد نفع نفسه، وإن أبى فهو المتضرر.
ولا داعي لكي يزعج الإنسان نفسه، ويدخل في معارك العداء مع الآخرين لأنهم لم يقبلوا الرأي الذي يراه حقاً.
إن البعض يأخذهم الحماس لمبادئهم وآرائهم بحيث يضغطون على أعصابهم ويتأزمّون نفسياً ويتجاوزون الحدود في التعامل مع الناس، وكأن لهم الوصاية والسيطرة على أفكار الآخرين وتوجهاتهم، وهذا خطأ فظيع.
لقد كان رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) حريصاً على هداية قومه، إلى حد أنه كان يجهد نفسه أكثر من اللازم، فجاءه التوجيه من الله سبحانه: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [36] . أي مهلك نفسك.
ومرة أخرى يخاطبه الباري جلّ وعلا: ﴿طه. مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى. إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾[37] . أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسّرك على أن يؤمنوا[38] .
وفي القرآن آيات كثيرة تؤكد على أن مهمة النبي والداعية تنتهي عند حدود التبليغ والإرشاد، ولا يصح تجاوز هذه المهمة إلى حد ممارسة الوصاية والضغط على الآخرين. يقول تعالى: ﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾[39] .
ويقول تعالى: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾[40] .
وهناك روايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تؤكد على تجنب العداء والخصومة مع الآخرين على أساس الاختلاف في الدين والرأي كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إياكم والخصومة في الدين"[41] .
وورد عنه في رواية أخرى: (فلا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة للقلب، إن الله قال لنبيه (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم): إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. وقال: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. ذروا الناس فإن الناس أخذوا عن الناس)[42] .
إن هذه التوجيهات الربانية والمفاهيم القرآنية، وسيرة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) تردع الإنسان عن أن يكون حاداً متشنجاً مع من يخالفه في الدين والرأي، أو أن يجعل اختلاف الرأي سبباً ومبرراً للعداء والخصومة.
العداوة تمنع التأثير
إذا كنت مخلصاً لأفكارك، ومتحمساً لنشرها، واستقطاب الآخرين باتجاهها، فإن الطريق لذلك هو الانفتاح على الآخرين، وخلق جو من الاحترام والودّ معهم.
فوجود علاقة لك بهم، وتواصل بينك وبينهم، يتيح لك الفرصة لعرض أفكارك وآرائك عليهم، أما القطيعة والعداء، فإنها تسلب منك هذه الإمكانية، وتفقدك الرغبة والاندفاع في تكرار محاولة التأثير عليهم.
من ناحية ثانية فإن حالة العداء وما تفرزه من سلوكيات منفرة تحول بين الطرف الآخر وبين الإقبال والاستجابة.
فالعاقل الواعي الذي يريد خدمة أفكاره، وأن تشق طريقها إلى قلوب الناس، هو الذي يمتلك سعة الصدر ورحابة الأفق، ولا ينفعل تجاه الرأي المخالف، حتى ولو تعامل معه الآخرون بشكل سيئ، فإنه يمارس أعلى درجات ضبط النفس، والتحكم في الأعصاب، بحيث يقابلهم باللطف والإحسان، فيمتص التشنجات، ويستوعب الاستفزازات.
وبهذه المنهجية الأخلاقية يدفعهم لإعادة النظر في موقفهم تجاهه، ويشجعهم على الانفتاح على أفكاره، مما قد يغيّر قناعاتهم، ويستقطبهم إلى جانبه وإلى صف رأيه.
ويؤكد القرآن الكريم تأثير أسلوب الرفق والإحسان وأنه يساعد على تغيير المواقف والنفوس لصالح الدعوة والرسالة، في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾[43] .
وينهى الله سبحانه عباده المؤمنين من أن يتحدثوا مع المخالفين لهم في الدين إلا بأفضل أسلوب، وأحسن طريقة، رعاية لمشاعرهم يقول تعالى ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [44] .
لقد واجه رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) في بداية الدعوة معارضة ومخالفة عنيفة من قبل المشركين، ولكنه تغلب على كل ذلك بأخلاقه العظيمة ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[45] ولولا ذلك الخلق الرفيع لما تمكن الرسول (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) من هداية ذلك المجتمع الجاهلي الغارق في الفساد والتخلف، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[46] .
وهكذا فإن على من يعتبرون أنفسهم حملة للحق، وذوي الفكر الصحيح والرأي الصائب، أن يتحلّوا بمصداقية أخلاقية في التعامل مع الناس، وخاصة المخالفين لهم في المذهب أو الرأي أو الموقف، فإن القطيعة والعداوة والإساءة، تخالف تعاليم الدين، وتصادم توجيهات العقل، وتشوّه دعوة وفكرة أصحابها، وتنفّر الناس منهم.
منهج الإسلام وسيرة السلف
من الظواهر المؤسفة في بعض الأوساط الدينية، سوء التعامل مع المخالفين في الدين أو المذهب أو الاتجاه، حتى أصبحت الغلظة والفظاظة والتجهم والتشدد سمة من سمات التدين عند هؤلاء، وأصبح حتى الاختلاف على بعض المسائل الجزئية الاجتهادية سبباً للقطيعة والعداء.
وهذا مخالف لنهج الإسلام، ولسيرة السلف الصالح، من أئمة أطهار وصحابة أخيار. فالقرآن الكريم يشجع المسلمين على حسن التعامل والبر بالكافرين غير المحاربين والمعتدين يقول تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[47] .
وفي سيرة رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) أروع الصور الإنسانية، وأسمى المواقف الأخلاقية في التعامل مع الكافرين من يهود ونصارى ومشركين، ليس في العهد المكي فقط، وإنما في العهد المدني وبعد أن جاء نصر الله والفتح.
وأخـيراً
فإن اختلاف الرأي ظاهرة طبيعية في حياة البشر، ولا يصح أن تكون سبباً للتعادي والتخاصم، بل ينبغي أن تستثمر لصالح تكامل المعرفة، واكتشاف الحقيقة، وإثراء الساحة الثقافية. وقديماً قال الشاعر العربي:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
وقال شاعر آخر:
* واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية *
وأفضل خدمة تقدمها للرأي الذي تؤمن به، حسن تعاملك مع الآخرين، لتقدم بسلوكك الطيب أنموذجاً مقبولاً لأفكارك، ولتكون بسيرتك الصالحة داعية لآرائك، أما أسلوب العداوة والتشدد، فهو يسيء إلى التوجه الذي تنتمي إليه أولاً، وإليك ثانياً.