اتجاهات تهدد مستقبل الأمة
الطريق إلى مواجهة ظاهرة التعصب
لا يكاد يخلو زمن من أزمنة تاريخ الأمة من وجود اتجاهات تعصبية، منذ أن ظهرت فتنة الخوارج سنة 37هـ، لكن وجود هذه الاتجاهات كان في الغالب محدود الانتشار والتأثير.
أما في هذا العصر فقد أصبحت تياراً واسع الانتشار، عظيم التأثير، بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، مما جعلها من أكبر التحديات في واقع الأمة.
لقد أسهمت عوامل مختلفة داخلية وخارجية في صنع هذه الظاهرة التعصبية، وفي تغذيتها وتنميتها، مما أتاح لها التجذر والتغلغل في كثير من البقاع والأوساط، ووفر لها مستوى هائلاً من القدرات والإمكانات.
ولا بد من تظافر الجهود الواعية، واستنفار القوى المخلصة، لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، التي تهدد مستقبل الإسلام والأمة، بما تسببه من انقسام وتمزق داخلي، ومن تقويض للأمن الاجتماعي، وتعويق للتنمية، وتأجيج لصراع الحضارات بين الإسلام وسائر الأمم.
إن المواجهة القمعية لا تكفي وحدها للتغلب على هذه الظاهرة الخطيرة، بل قد تزيدها في بعض الأحيان تصلباً وشدة، والمطلوب اعتماد برامج وخطط شاملة لمعالجة جذور الاتجاهات التعصبية، وللحد من قدرتها على التأثير والانتشار.
ولعلماء النفس والاجتماع، دراسات وأبحاث قيمة، في مجال معالجات حالات التعصب، ومواجهة الاتجاهات التعصبية، كما أن في تجارب الأمم المعاصرة ما يمكن الاستفادة منه على هذا الصعيد. فقد واجه الأمريكيون منذ النصف الأول للقرن العشرين، مشكلة الاتجاهات التعصبية العنصرية ضد الزنوج السود من الشعب الأمريكي، كما واجه الأوربيون اتجاهات النازية التعصبية.
وفي تعاليم ديننا وتراث حضارتنا كنوز من المعارف والتجارب التي تضيء لنا طريق الخلاص من هذه الفتن العمياء.
برامج التربية والتعليم
في مرحلة الطفولة وفي أحضان العائلة، ثم من خلال برامج التعليم، تتشكل الصورة الأساسية لشخصية الإنسان.
وطبقاً لما لاحظه الباحثون في علم النفس والاجتماع، فإن الأطفال في سن الخامسة وما قبلها، لا يستوعبون حالات التمييز فيما بينهم على أساس أي انتماء عرقي أو ديني أو طبقي، بل ينجذبون إلى بعضهم، ويشتركون في اللعب، دون وجود مشاعر تمييزية.
لكنهم في سنّ السادسة وما بعدها يتأثرون بأجواء محيطهم العائلي، في تكوين الانطباعات والمشاعر للفرز بين أقرانهم وأندادهم من الأطفال، على أساس اختلاف الانتماءات.
وفي مرحلة الشباب من سنّ الثانية عشر إلى السادسة عشر وما بعدها، يكون استعداد الأبناء أكثر للتعاطي مع حالات الفرز والتمييز، واتخاذ المواقف تجاه الآخرين. وتكون حالة الاندفاع والحماس، والعنفوان العاطفي في مرحلة الشباب، أرضية مساعدة للاستجابة للاتجاهات التعصبية. لذلك تهتم مختلف التيارات والتوجهات باستقطاب الشباب، للاستفادة من قوة حماسهم واندفاعهم في خدمة خططها وبرامجها.
وهنا يأتي دور التربية العائلية، والمناهج التعليمية، في توجيه مشاعر الأبناء، وترشيد توجهات الشباب، ليستقبلوا الحياة بروح منفتحة، ونفسية طيبة، غير ملوثة بالعقد والأحقاد.
ويظهر من دراسة حالات التعصب القائمة في مجتمعاتنا، أن التربية العائلية، وبعض المناهج التعليمية، تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية في زرع بذور هذه الاتجاهات التعصبية، وتنميتها في نفوس الأبناء والطلاب.
إن الإمعان في تشويه صورة الآخر أمام الأبناء والطلاب، ووصفه وتعريفه بطريقة غير موضوعية، ثم التعبئة والتحريض ضده، بإثارة مشاعر الكراهية والعداء، والذي قد يصل إلى تجريده من كل قيمة وحق، كل ذلك يهيئ المتلقي (الابن/الطالب) للاستجابة للتوجهات التعصبية، والانخراط في صفوفها، والتفاعل مع ممارساتها العدائية.
ولم تسلم حتى مناهج الكليات والجامعات من هذا المطب الخطير، يقول باحث أكاديمي في مقال تحت عنوان التنمية الأكاديمية لاتجاهات التعصبية: ((يسعى القائمون على التعليم بداخل الكليات إلى تنمية الاتجاه الواحدي بما يتضمنه من قيم سلبية تتجسد في الأنا، وجعل الآخر شرطاً للنجاح بالقضاء عليه أو إبعاده أو إقصائه، فتسود في المجتمع الاتجاهات العصبية))، ويضيف هذا الباحث: ((يظهر من الكتاب التدريسي المقرر نصاً الرغبة في تكوين القوالب النمطية للجماعات الأخرى المذهبية، ويلحظ في ذلك التكوين قيامه على صورة مشوشة أو مختزلة في شخصيات معينة، أو تلفيقها من جمع كثير قد لا يصدق على تلك الجماعة، أو ادراكات خاطئة)).
إن مكامن القوة في ديننا وعقيدتنا الإسلامية كبيرة وعظيمة، ولسنا بحاجة إلى الأساليب الملتوية لإقناع أبنائنا بصحة مبادئنا وأفضليتها، كما أن تعاليم الإسلام في التعاطي مع الآخرين، تنطلق من احترام إنسانيتهم، وإنصافهم، وإظهار الأخلاق الرفيعة لهم. يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾.
ومن الضرورة بمكان، إعادة النظر في أساليب التربية العائلية، ومناهج التعليم، لتنقيتها من كل ما يخالف قيم التسامح، وأخلاق التعامل الإنساني، من أجل توفير تربية سليمة، وتعليم صحيح، يؤهل أبنائنا للنجاح في تطوير قدراتهم، وخدمة أوطانهم، وتنمية مجتمعاتهم، وإعطاء صورة مشرقة عن دينهم أمام العالم.
العلاج المعرفي
تنمو جذور التعصب في أرضية الجهل والانغلاق، حيث تتأسس القناعات، وتُتخذ المواقف، بناءً على تصورات خاطئة، وتقويمات نمطية، ونظرات ناقصة، وفي أجواء انفعالية تعبوية.
ويحرص قادة الاتجاهات التعصبية على إبقاء أتباعهم في ظروف كهفية انطوائية، بعيداً عن وسائل المعرفة الحرة، وتأثيرات الرأي الآخر، ويصنعون حولهم سياجاً من المحرمات والمحظورات، فالاطلاع على كتب الآخرين حرام لأنها كتب ضلال، ومخالطة المخالفين إثم باعتبارهم مبتدعة.
كما يجري ترويض عقولهم وأفكارهم، لمنعها من الحركة والنشاط خارج سياق ما يلقنونهم إياه، حيث لا يحق الاعتراض، ولا يصح النقاش، فذلك نوع من التمرد على الشرع، والتشكيك في النص المقدس.
وهكذا تصبح اجتهادات بعض أعلام السلف، وقيادات هذه التوجهات، سقفاً لا يمكن تجاوزه، ولا مجال للعقل في مناقشتها، أو التفكير في بدائل لها.
وبمقدار ما تتسع رقعة هذا الجهل والانغلاق، تتوفر أرضية نمو الاتجاهات التعصبية، وهنا يأتي دور المعرفة والثقافة، فانتشارها وتوفر مصادرها المتنوعة، يشكل وقاية وحصانة لأبناء المجتمع من تأثير اتجاهات التعصب، ويساعد في إنجاح جهود المعالجة والخلاص.
إن فرض الحدود والقيود في بعض مجتمعاتنا على النشاط المعرفي والثقافي، حيث لا تتاح الفرصة في وسائل الإعلام، وحركة الإنتاج والنشر إلا لاتجاه آحادي، تعتبر عاملاً مساعداً يصب في خدمة الموقف التعصبي.
وضمن سياق العلاج المعرفي لا بد من ضخ ثقافة إيجابية، تدعو إلى التسامح واحترام حقوق الإنسان، وتركز على المشترك الديني والوطني، لقد تجاهل الخطاب الديني المعاصر في معظمه، طرح كثير من القيم والمفاهيم والآداب الإسلامية، التي تنظم العلاقة مع الآخر، والتعامل معه على أساس إنساني قويم، يمثل الأصل في رؤية الدين للإنسان، واهتمامه بحفظ حقوقه وكرامته، وبالغ هذا الخطاب في التركيز على أحكام وضعها الإسلام للحالات الاستثنائية في التعامل مع الآخر.
فمثلاً: حين يكون الآخر معتدياً يجب جهاده ومواجهته، يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾.
أما في الحالة الطبيعية حينما لا يكون هناك عدوان فالعلاقة تأخذ مساراً إيجابياً قائماً على الإنصاف والإحسان يقول تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
فالبر والقسط هو الأصل في العلاقة والتعامل مع الآخر، أما المواجهة والعداء فهي رد فعل على عدوان الآخر إذا حصل.
ومثال آخر يرتبط بأسلوب الدعوة والإرشاد فالأصل فيه هو الرفق، واستخدام اللغة المؤدبة مع الآخرين، يقول تعالى لنبييه موسى وهارون: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
إننا في حاجة لبعث مفاهيم الإسلام حول أصول التعامل الإنساني، وضوابط العلاقات الاجتماعية بين بني البشر، ولنشر ثقافة حقوق الإنسان، وآداب التخاطب مع الناس.
مسؤولية القانون
أولى مهام السلطة القانونية في أي بلد وضع التشريعات والقوانين لحماية حقوق الناس، ورعاية مصالحهم، وحماية الأمن الاجتماعي، وذلك لا يتحقق إلا بمنع وتجريم حالات الإساءة والاعتداء. والتحريض عليها أو الدفع باتجاهها.
إن فسح المجال للاتجاهات التعصبية، لكي تنشر أفكارها السلبية، وتوزع اتهاماتها الخاطئة، التي تثير نوازع الكراهية، وتكرس الانقسام والأحقاد بين الناس، لن يؤدي إلا إلى استحكام هذه الاتجاهات، ونموها في مختلف الأوساط. مما يهدد أمن الوطن واستقرار المجتمع.
ويمكننا أن نستنتج من الأحاديث الواردة عن رسول الله في التحذير من الإساءة لغير المسلمين من أهل الذمة، اهتمام الإسلام بالحد من أي توجه تعصبي سلبي. فقد جاء في سنن أبي داود أنه قال: «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة».
هكذا يعتبر نبي الإسلام أن الإساءة إلى مواطن غير مسلم، ولو بانتقاصه أي التقليل من شأنه، خصومة مع رسول الله تستوجب المحاسبة يوم القيامة.
«وحدث مرة في مجلس حفيد رسول الله الإمام جعفر الصادق أن رجلاً سب مجوسياً، فزجره الإمام جعفر ونهاه، فقال الرجل: إنه مجوسي نكح أخته! فأجابه الإمام: ((ذاك عندهم نكاح في دينهم))».
إن قوانين الدول الغربية، ومواثيق حقوق الإنسان، تمنع وتجرّم أي دعوات تحريضية على الكراهية، أو تشجيع على ممارسة الإرهاب والعنف ضد الآخرين، أو أي تصرف تمييزي.
ومجتمعاتنا الإسلامية أولى بمثل هذه التشريعات لوضع حد للخطابات التعبوية التحريضية المثيرة للفتن والانقسام، والمهددة لأمن المجتمع واستقراره، ولمنع أي ممارسات تمييزية بين المواطنين.