«ما شيء أكرم على الله من ابن آدم»
الإنسانية بين النص والخطاب الديني
يحتل الخطاب الديني في مجتمعاتنا الإسلامية موقعية خطيرة من التأثير لا يضاهيه فيها أي خطاب آخر، فهو الذي يصوغ العقل الجمعي، ويوجه السلوك العام. نظراً لارتباط مجتمعاتنا بالدين، ولما يمثله هذا الخطاب في نظرها من تعبير عن أوامر الدين وأحكامه.
من ناحية أخرى فإن الخطاب الديني أصبح مرآة لصورتنا أمام الأمم والحضارات الأخرى، فمن خلاله تتشكل الانطباعات والتقويمات عن أمتنا وديننا وثقافتنا.
وحين نجد ظاهرة عجز في العقل الجمعي للأمة، وظاهرة خلل في السلوك العام لأبنائها، وحين تهتز صورة الأمة على شاشة الرأي العام العالمي، فذلك يجب أن يدعونا إلى مراجعة خطابنا الديني، فهو إما أن يكون مسؤولاً عن حصول هذا الواقع السيئ، أو مهادناً له مكرساً لوجوده.
بين الخطاب والنص الديني
علينا أن نفرق بين الخطاب الديني والنص الديني، فالنص الديني هو كل ما ثبت وروده عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله محمد ، أي الكتاب والسنة. فالقرآن الكريم قطعي الصدور بكل ما بين دفتي المصحف الشريف منزه عن أي زيادة ونقصان، أما السنة الشريفة فهي ما ثبتت صحة وروده بالضوابط العلمية المقررة عند فقهاء الأمة.
وهذا النص الديني (الكتاب والسنة) فوق المحاسبة والاتهام، إنه يحكي عن الله تعالى، وعن وحيه الأمين، وعن المصدر المعصوم، ولا يمكن أن يتسرب لقلب مسلم ذرة من الشك في صدقه وقداسته.
أما الخطاب الديني فهو ما يستنبطه ويفهمه الفقيه والعالم والمفكر من النص الديني، أو من مصادر الاجتهاد والاستنباط المعتمدة.
ويتمثل الخطاب الديني في فتاوى الفقهاء، وكتابات العلماء، وأحاديث الخطباء، وآراء ومواقف القيادات والجهات الدينية.
وهنا لا قداسة ولا عصمة، فالاجتهاد قد يصيب وقد يخطئ، والمجتهد يعبّر عن مقدار فهمه وإدراكه، كما وقد يتأثر بمختلف العوامل النفسية والاجتماعية التي تنعكس على آرائه وتصوراته.
كما أن قسماً كبيراً من الخطاب الديني المعاصر لا يصدر عن فقهاء مجتهدين، بل عن وعاظ وخطباء محترفين، وجهات تمتهن التصدي للشأن الديني، بغض النظر عن الكفاءة والنزاهة.
وبذلك فالخطاب الديني قابل للنقد والتقويم، لأنه كسب بشري، ونتاج إنساني، أما النص الديني فهو وحي إلهي أو تعبير عنه.
صحيح أن الخطاب الديني يستند إلى النص الديني ويحتج به، لكن ذلك يتم عبر فهم وتفسير للنص، هذا الفهم والتفسير قابل للأخذ والرد، فهناك تفسيرات لبعض النصوص الدينية تفتقد الموضوعية والدقة، أو تجتزء النصوص من سياقاتها، وتقرؤها خارج منظومة قيم الرسالة ومقاصد الشريعة.
كما أن بعض ما يستند إليه من نصوص السنة يحتاج إلى التأكد والاطمئنان من ثبوت صدوره وصحة وروده.
النزعة الإنسانية
من أبرز مظاهر العجز والخلل في واقع مجتمعاتنا تدنيّ موقعية الإنسان، وانخفاض مستوى الاهتمام بقيمته وحقوقه، وحماية كرامته، حتى أصبحت أمتنا تحتل الصدارة في تقارير انتهاكات حقوق الإنسان على مستوى العالم، ليس من جهة السلطات السياسية فقط، وإنما على الصعيد الاجتماعي العام أيضاً. فهناك إرهاب فكري يصادر حرية التعبير عن الرأي، وتمييز ضد المرأة يحولها إلى إنسان من درجة ثانية، وقسوة على الأبناء تسحق شخصياتهم، ونظرة دونية إلى الآخر المختلف ضمن أي دائرة من دوائر الاختلاف.
ومن هذه الأرضية انبثقت توجهات إرهابية متوحشة، تمارس العنف، وإزهاق النفوس، وقطع الرؤوس، واختطاف الأبرياء، واستهداف المدنيين، كل ذلك باسم الدين، وتحت شعار الإسلام، وبعنوان الدفاع عن مقدسات الأمة.
هذه الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في المجتمعات الإسلامية، وهذا التجاهل والتنكر لكرامة الإنسان وقيمته، حينما يحدث كل ذلك بمقولات وتبريرات تنسب إلى الدين، فمن الطبيعي أن يكون الخطاب الديني في موضع المساءلة والاتهام.
إنه لا يساورنا شك في نزاهة الدين وبراءته من هذا الذي يحدث باسمه وينسب إليه، فالقراءة الصحيحة للنصوص الدينية تكشف عن اهتمام عميق بإنسانية الإنسان، واحترام شديد لكرامته وحقوقه، لا مثيل له في أي مبدأ أو حضارة.
وبالتالي فإنه يمكننا محاكمة الخطاب الإسلامي المعاصر وتقويمه على ضوء النصوص الدينية، لمعرفة مدى الخلل والقصور الذي يعانيه في مجال الاهتمام بإنسانية الإنسان واحترام كرامته وحقوقه.
صحيح أن استشهادنا بالنصوص الدينية سيكون هو الآخر تعبيراً عن اجتهاد في فهمها وتفسيرها، لكنه اجتهاد راجح بتوافقه مع أصول الرسالات الإلهية ومقاصد التشريع، وبانسجامه مع القيم الإنسانية ومنطق العقل.
وفيما يلي رصد لبعض ما نرى أنه مواقع خلل وقصور في الخطاب الإسلامي المعاصر، لجهة الاهتمام بكرامة الإنسان وحماية حقوقه.
مكانة الإنسان
عانت المجتمعات الأوربية إبان العصور الوسطى، من تنكر الكنيسة المسيحية لمكانة الإنسان وكرامته، وتركيزها في المقابل على تعظيم الجانب الإلهي، مما أسس لرد فعل مادي عنيف في تلك المجتمعات، يتنكر للخالق جلّ وعلا ويعلي مكانة الإنسان، من هنا جاءت بعض تعريفات المذهب الإنساني والنزعة الإنسانية معبرة عن هذا الاتجاه، كما جاء في عرض (والتر ليبمان) لما يقصده بالإنسانوية «حيث يعرض (والتر ليبمان 1929م) أخلاقية يقدمها كأنها أخلاقية (الإنسانوية) المتعارضة مع الربوبية: إنه يقصد بذلك أن الناس ما عادوا يعتقدون بملك سماوي، فهم محتاجون إلى أن يجدوا في التجربة البشرية معايير الخير كافة، يجب أن يعيشوا في الاعتقاد أن واجب الإنسان هو أن يجعل إرادته مطابقة لا لإرادة الله، بل لأفضل معرفة لشروط السعادة البشرية».
وقد أصيب الخطاب الإسلامي، في مساحة واسعة منه، بشيء من داء الكنيسة المسيحية، حيث الاستغراق في الحديث عن ذات الله تعالى وصفاته، مع الإهمال لمكانة الإنسان، والذي يمثل وجوده أروع آيات الله تعالى، وأفضل تجليات قدرته ومظاهر عظمته.
وقاد هذا الاتجاه إلى أبحاث موغلة عن ذات الله تعالى وصفاته، وانشغال بالاختلافات في هذا المجال، والتي أدّت في كثير من الأحيان إلى انقسامات وصراعات مؤسفة. كالصراع بين المعتزلة والشيعة من جهة، وبين الأشاعرة من جهة أخرى، حول الاتحاد بين الذات والصفات الذاتية، أو قول الأشاعرة بوجود صفات كمالية زائدة على الذات مفهوماً ومصداقاً، أو الخلاف حول رؤية الله تعالى في الآخرة، أو حول قدم القرآن وحدوثه.
مع أن منهجية القرآن الكريم هي التركيز على الحديث عن مخلوقات الله تعالى، والتفكير في عظمة الله من خلالها، والدعوة للتأمل في جمال الكون، ودقة أنظمته، واكتشاف الثروات الهائلة، والسنن الناظمة لحركة الوجود فيه.
يقول تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، ﴿وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾.
أما التفكير في الله تعالى فلم يرد الأمر به، بل على العكس هناك أحاديث وروايات تنهي عن الانشغال بالتفكير في ذات الله تعالى.
ورد عن رسول الله أنه قال: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا»، «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق»، «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله».
وجاء عن الإمام جعفر الصادق : «إياكم والتفكر في الله فإن التفكر لا يزيد إلا تيها»، «،إن الله تعالى يقول: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى﴾ فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا».
وفي مقابل استغراق الخطاب الديني في الحديث عن الله، كان الحديث عن مكانة الإنسان وأهميته خافتاً ضئيلا، لا يتناسب مع المساحة الواسعة التي أفردها القرآن الكريم لإبراز قيمة الإنسان ومكانته والامتيازات التي منحها الله تعالى إياه، بوصفه أفضل وأكرم موجود.
إن بداية القرآن الكريم هي باسم الله ونهايته بلفظ الناس، ووردت كلمة الناس فيه حوالي 234 مرة، والإنسان 90 مرة، وعباد أكثر من 100 مرة، وبشر 37 مرة، وبني آدم 8 مرات.
وتشيد آيات القرآن الكريم بمكانة الإنسان وخصائصه الفريدة كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾. ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾. ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾.
صحيح أن بعض الآيات تتحدث عن نقاط ضعف وجوانب سلبية في شخصية الإنسان، لكنها تأتي في سياق توجيهه إلى تجاوزها والسمو عليها عبر مدارج الكمال والرقي. فهي حالات يسف إليها الإنسان عند غفلته، ولا تسلبه الأهلية الذاتية للتفوق والامتياز.
وعادة ما يقف الخطاب الديني عند هذه الحالات مركزاً عليها، ليشكل من خلالها صورة الإنسان في لحظات ضعفه وغفلته، وكأنها الصورة التي أراد القرآن تقديمها عن الإنسان، وذلك هو مكمن خلل ترتبت عليه آثار سلبية في النظرة إلى الإنسان والتعامل معه من قبل بعض الأوساط الدينية.
إننا لو استقصينا النماذج البشرية التي قدمها القرآن الكريم في آياته المباركة، لوجدنا أن العدد الأكبر منها هو من الشخصيات العظيمة الصالحة، كالأنبياء والأولياء والمحسنين، بينما ينخفض عدد النماذج المنحرفة الفاسدة كالظلمة والطغاة والمعاندين، هذا على مستوى الحديث عن النماذج، ولعل ذلك يوحي لنا بتفضيل القرآن الكريم لتقديم الإنسان في صورته النبيلة المشرقة. مع الالتفات إلى ما أشار إليه القرآن الكريم من انتشار حالات الغفلة والضعف في أوساط بني البشر.
المهرجان الإلهي لتكريم الإنسان
في حديث القرآن عن خلق الإنسان تبرز المكانة الفريدة التي اختصه الله تعالى بها. ومن تجلياتها الملاحظات التالية:
- ليس في القرآن حديث تفصيلي عن خلق سائر الكائنات كالسماء والأرض والملائكة أو الموجودات الأخرى، كما هو الحال في الحديث عن خلق الإنسان.
- لقد بدأ الوحي الإلهي بالحديث عن الخلق وخص الإنسان بالذكر من بين جميع المخلوقات ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾.
- إن الله تعالى قد خلق كل الكائنات بقدرته، لكنه تعالى أحاط خلق الإنسان برعاية وتكريم استثنائي، حيث قال تعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾. فالعظيم الشأن لا يتولى بيديه إلا الأمر الكبير القدر الرفيع القيمة، ولأن الله تعالى منزه عن مشابهة الخلق بالتجسيم، فإن المقصود هو خلق الإنسان بعناية خاصة.
- كما نص تعالى أنه قد نفخ في الإنسان من روحه تعالى، ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾، وبالطبع لا يعني ذلك حلول جزء من الله تعالى في الإنسان كما زعم بعض الحلوليين، ولكنه يعني إظهار التشريف والتكريم للإنسان بإسناد النفخ، وإضافة عنصر الروح إليه تعالى.
- وقد أعلن الله تعالى لملائكته عن إرادته لخلق الإنسان، كما يعلن أي عظيم عن مشروع هام يريد إنجازه، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾.
- وعندما خلق الله تعالى الإنسان أقام له مهرجاناً كونياً للاحتفاء بولادة الإنسان ووجوده، وأمر الملائكة بأداء مراسيم التحية والإكرام له بالسجود ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾، ولعلها إشارة إلى خضوع قوى الكون للإنسان بتسخيرها له من قبل الله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾.
وقد استكثر البعض على الإنسان نوعاً أن تسجد له الملائكة، فقال أن السجود هو لشخص آدم باعتبار نبوته، وليس لجنس البشر، لكن سياق الآيات القرآنية يدحض هذا القول، حيث يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾، والآية خطاب للبشر وامتنان عليهم بالخلق ثم التصوير ثم سجود الملائكة لهم ممثلين في شخص أبيهم الأول آدم. يقول العلامة الطباطبائي: ((أن السجدة كانت من الملائكة لجميع بني آدم، أي للنشأة الإنسانية، وإن كان آدم هو القبلة المنصوبة السجدة، فهو في أمر السجدة كان مثالاً يمثل به الإنسانية، نائباً مناب أفراد الإنسان على كثرتهم لا مسجوداً له من جهة شخصه)).
هكذا يتحدث النص القرآني عن مكانة الإنسان وموقعيته، بينما لا يواكب الخطاب الإسلامي هذه الدرجة من الاهتمام بإبراز قيمة الإنسان. لقد ورد عن رسول الله قوله: «ما شيء أكرم على الله من ابن آدم».