مطلوب شماعة أدبية وجرأة موضوعية
المثقف ومسؤولية الجهر بالرأي
إقصاء الآخر أزمة تعاني منها أغلب المجتمعات العربية والإسلامية، لكنها تتفاوت في درجة الكثافة والشدة. وترتبط هذه الأزمة بثلاثة عوامل أساس، تنتج هذه الأزمة وتغذِّيها وتفرضها على المجتمع.
العامل الأول: الفهم الديني السائد في هذه المجتمعات الذي يَعُدُّ الرأي الآخر ضلالاً ومنكراً تجب محاربته وإزالته.
والعامل الثاني: سياسات الأنظمة الحاكمة التي ترفض وجود الرأي الآخر المختلف مع توجُّهاتها ومواقفها، وهذا ما مارسته شتى الأنظمة في البلاد العربية والإسلامية، من اشتراكية وقومية وليبرالية وإسلامية، إن بعض العلمانيين والناقدين للحالة الدينية يتحدثون عن إقصاء الآخر، وكَسِمَةٍ للتوجُّه الديني فقط، وهذا تجاهل للواقع، فالماركسية في مواقع تسلطها مارست أشد القمع لمخالفيها، والبعثيون في العراق مثلاً فتكوا بالحوزة العلمية في النجف، وخنقوا كل النشاط الإسلامي للسنة والشيعة. وكذلك فعلت القومية الناصرية في مصر.
أما العامل الثالث: فيتمثَّل في التربية والأعراف الاجتماعية التي تربي الفرد على أساس أن إبداء الرأي المخالف للأب أو لشيخ القبيلة أو للرئيس في الإدارة أو لعالم الدين هو إساءة أدب وعدم احترام وتقدير. وقد تترتَّب عليه ردود فعل غاضبة وإجراءات عقاب.
إنه لا يمكن تجاوز هذه الأزمة إلاَّ بمعالجة العوامل التي أنتجتها وفرضتها على واقع مجتمعاتنا.
لا بدّ من إعادة النظر في هذا الفهم السائد للدين في أوساطنا، فإذا كان المسلم يثق بصحة عقيدته ورأيه الديني، ويرى أنه مطالب شرعاً بمحاربة الضلال الذي يمثله الرأي الآخر، فعليه أن يعرف أن مواجهة الرأي تكون بالرأي، أما المنع والقمع والإلغاء والإقصاء، فهو يؤدي إلى نتيجة عكسية، حيث يمارس الرأي الآخر دوره في الخفاء ويتقوَّى بعامل التحدِّي، وقد تفاجأ بانتشاره وكسبه لمقومات القوة التي راكمها بعيداً عن الأضواء.
لقد دعا القرآن الكريم إلى مواجهة الرأي الآخر بأفضل أساليب الحوار وأخلاقيات التعامل:﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، بل نهى عن استعمال لغة الإساءة للآخر عند الحوار معه ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. إن القرآن الكريم يدعو الآخرين لإبداء رأيهم وإظهار حججهم وأدلتهم ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾، ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾.
من ناحية أخرى، فإن باب الاجتهاد في فهم الدين مفتوح، ولا يصح لأحد أن يحتكر تفسير الدين وفهمه، ويتهم كل رأي آخر بأنه ضلال وابتداع، لأن من حق الآخرين أن يواجهوه بنفس المنطق، وإذا كان يعتقد أنه يمتلك الأدلة القاطعة على صواب وصحة رأيه فإن الآخرين يعتقدون لأنفسهم ذلك أيضاً.
من ناحية ثالثة، فإن سياسات الحكومات هي المؤثر الأكبر في واقع مجتمعاتنا، فإذا ما أتاحت الحكومة فرصاً متكافئة لجميع الأطراف، وخاصة في مجال الإعلام والعمل الثقافي والاجتماعي، فستكون التعددية والتعايش السلمي بين فئات المجتمع هو الحال القائم. كما نجد ذلك في كثير من البلدان.
أما الانحياز لجهة ما ووضع كل الإمكانات تحت تصرفها وحرمان الآخرين من التعبير عن رأيهم ووجودهم فالنتيجة الحتمية كذلك هي الآحادية والاستبداد الفكري.
بعض الجهات تمارس دوراً قمعياً يكرِّس الاستبداد والآحادية ويغذِّي التطرّف والتشدّد عن طريق مصادرة ما يخالف التوجه السائد.
ووسائل الإعلام في بلداننا كلها رسمية، فالتلفزيون والإذاعة يعملان بنهج أحادي لا مجال فيهما إلا لرأي اتجاه واحد.
هنا لا بدّ أن يتحمَّل المثقف مسؤوليته بالإجهار برأيه والاستعداد لدفع الثمن. مشكلتنا أن معظم مثقفينا لا يريد أن يدفع ثمناً للحرية التي يتشدَّق بها ويدعو إليها، فهو يخشى أن يفوته مكسب من المكاسب.
إن مجتمعاتنا في مرحلة خطيرة حاسمة، وعلى المثقفين أن يقفوا عمليًّا إلى جانب تطلعاتهم ومجتمعاتهم فيكونون أكثر جرأة وشجاعة في مجال التعبير عن الرأي.
أما الجمهور فيجب أن يتجاوز موقف السلبية والتفرج على معاناة المفكرين والمثقفين وذوي الاجتهادات الإسلامية المختلفة.
المسألة ليست شخصية ترتبط بالكاتب أو المؤلف أو المكتبة التي تنشر الكتاب، بل ترتبط بحقِّ الجمهور في المعرفة والاطلاع.
لقد دفعت مجتمعاتنا ثمناً باهظاً لاتجاهات التطرف والإرهاب ولا يمكن مواجهة التطرف إلا بإقرار التعدّدية وحرّية الرأي.
نقد الذات
التحسُّس من نقد الذات، حالة مرضية سلبية، تنتج عن غرور زائف، أو شعور بالضعف يجري التستر عليه، وتؤدي هذه الحالة إلى تكريس الأخطاء والثغرات، وتفويت فرص معالجتها وتجاوزها.
وقد حذَّر القرآن الكريم من هذا المرض الخطير ونهى عن تبرئة الذات وتزكيتها. يقول تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِِّئُ نَفْسِي إِِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِِ إِِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾. ويقول تعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِِلَى الَّذِِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ الله يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ﴾.
وكما يصيب هذا المرض الذات الفردية فإنه يصيب الذات الجماعية، بأن تتحسَّس الأمة من نقد ذاتها وأوضاعها الراهنة أو على مستوى التاريخ.
إن الأصالة والحرص على هويّة الأمة وتقدير تاريخها وإنجازاتها الحضارية لا يعني تجاهل الأخطاء والثغرات ونقاط الضعف، فإن القرآن الكريم الذي ينص على الخيريّة المشروطة لهذه الأمة، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ هو ذاته يسجل النقد اللاذع لطليعة هذه الأمة أصحاب رسول اللهA، في مواقع الضعف والخطأ كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَ﴾.
إن تاريخ الأمة لا يتلخَّص في تاريخ سلطاتها السياسية حتى يكون النقد لتلك السلطات اتهاماً جماعيًا بحق الأمة، ففي تاريخ الأمة أئمة هدى وعلماء وفقهاء ومفكرون وأدباء، قدَّموا للبشرية إنجازات حضارية عظيمة. أما على صعيد الممارسة السياسية فلا يسع المنصف إلا أن يعترف بأن في تاريخ الأمة مساحة واسعة من الاستبداد.
وكما يقول المفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه (العرب والسياسة أين الخلل؟): «على الرغم من التألق الروحي والعقلي والعمراني للحضارة العربية الإسلامية فإن تاريخها السياسي ظل أضعف عناصرها على الإطلاق وأشدها عتمة. فهي حضارة جميلة ورائعة لكنها تعاني من «فقر دم سياسي» ومن «أنيميا سياسية» من حيث الواقع العملي على صعيد التطبيق والنظم والممارسة... وإلى يومنا هذا تبدو الأمة العربية، بملايينها البشرية والمادية، وبامتدادها القاري، وبكل طاقاتها الهائلة المعطلة، جسماً عملاقاً برأس سياسي ضئيل في منتهى الصفر».
وينقل الدكتور الأنصاري في بحثه شهادات كثيرة قديمة وجديدة لأعلام من علماء الأمة ومفكريها تشير إلى بؤس السياسة في الوجدان العربي، بسبب الواقع السياسي الأليم الذي عاشته الأمة في أكثر عهود تاريخها.
فالدولة الأموية التي استمرت حوالي قرن من الزمن، والدولة العباسية التي دامت أكثر من خمسة قرون، ثم الدولة العثمانية التي دامت أكثر من أربعة قرون، هذه الدول، مثلاً، لو قرأنا سيرها في التعامل الداخلي مع الأمة، لرأينا بوضوح وبما لا يقبل الدفاع والتبرير أن المساحة الأوسع من تاريخ هذه الدول تتسم بالاستبداد والظلم. وهناك بعض الفرج الزمنية المحدودة، التي تختلف بطبيعة الحال عن هذا الوصف، كالسنتين اللتين حكم فيهما عمر بن عبد العزيز، أو بسبب وجود ظروف سياسية تُلجئ الحاكم للتخفيف من ضغطه وقمعه، لكنها حالات مؤقتة على كل حال.
لقد عانى فقهاء الأمة ومفكروها وعلماؤها كثيراً من سياسات الاستبداد، التي صادرت حرياتهم حتى في المجال العلمي والفكري، فضلا عن الجانب السياسي. وما محنة القول بقدم القرآن أو حدوثه، أو ما عرف بـ«محنة خلق القرآن » إلا إنموذج من تلك النماذج.
وقد جمع أحد المؤلفين المتأخرين «عبود الشالجي» بعض ما نقله التاريخ من ألوان التنكيل والقمع وانتهاكات حقوق الإنسان التي مورست تاريخيًّا ضد الإنسان المسلم، ضمن موسوعة أطلق عليها «موسوعة العذاب» تقع في سبعة مجلدات تقشعر الأبدان من هول ما تحمله بعض صفحاتها من قصص وأحداث.
ففيه فصل عن العذاب بالتغطيس في مستودعات القذر كالبالوعة والكنيف، وفصل عن الوطء بالأقدام على الشخص حتى يموت، وفصل عن التعذيب بالتعليق من يد واحدة، والتعليق من يدين، والتعليق من الساق، والتعليق من الإبط، والتعليق من الثدي، والتعليق منكَّساً، وفصل عن التعذيب بسقي الدواء المسهل، وعن التعذيب بالملح، وعن التعذيب بالخصاء، وعن سمل الأعين، وسلّ اللسان، وجذع الأنف والأذن، وقلع الأضراس، وسلّ الأظافر، وإرسال السباع والحشرات على السجين، وشق لحم البدن بالقصب، وفصل عن قتل الأسير ووضع رأسه في حجر أقرب الناس إليه كزوجته أو ابنته أو والدته، ومجلد كامل عن ألوان القتل للمعارضين كالقتل بالشدخ بالعمود، والقتل رشقاً بالسهام، والقتل قعصاً بالرماح، والقتل بالبارود والرصاص، والقتل بآلات غير معدة للقتل، والقتل بالخنق، والقتل بالشنق، والقتل بالتغريق، ودفن الإنسان حيّاً، والبناء على المعذَّب، وهدم البناء على المعذَّب، والإحراق بالنار والماء المغلي، والسلق بالماء المغلي، والحقن بالماء المغلي... وأتوقف هنا عن ذكر عناوين بعض الفصول الأخرى لفظاعتها.
والكتاب مطبوع أكثر من مرة بمجلداته السبعة التي تزيد صفحاتها على 2700 صفحة ويتحدث عن مختلف الدول السابقة الماضية، وينقل معلوماته عن المصادر التاريخية المتداولة، فهل يمكن مع كل ذلك غضَّ الطرف وتبرئة تاريخنا من وجود الاستبداد؟
وقد يمكن التشكيك في بعض المعلومات والحوادث، لكن ما لا يمكن التشكيك فيه هو حصول مساوئ كثيرة في التاريخ السياسي للأمة.
إننا بحاجة إلى شجاعة أدبية وجرأة موضوعية لتشخيص مواقع الخطأ، كما نشيد بمواقع القوة ونفخر بها في تاريخنا المجيد. ولا يعني ذلك أن نستغرق في مشاكل التاريخ الماضي، ولا أن ننشغل بالخلاف حول أحداثها، ولا أن نمعن في جَلْد الذات، ولكن تقديس الذات وتبرئتها وتمجيد كل ما سلف وسبق هو حالة سلبية خاطئة.
إننا نفصل بين واقع الاستبداد في تاريخ الأمة وطبيعة تعاليم الإسلام وإنسانية قيمه وتشريعاته، كما ندرك أن أعلام الأمة الصالحين من الفقهاء والمفكرين كانوا مخالفين لمسيرة الظلم بل كانوا ضحايا لها في غالب الأحيان، لذلك فإننا لا ندين كل تاريخ الأمة وإنما ندين ما يستحق الإدانة، قصرت مساحته أو غلبت. والتقديس المطلق والتنـزيه التبريري العاطفي هو نوع مرفوض من خداع الذات.