ذكريات الصفار ومذكراته
كنت أجهّز كوب قهوة حينما جاءتني رسالة "واتس آب"، فتحتها فإذا هي من الأخ الكاتب والشاعر "أديب ابو المكارم" يخبرني أنه أحضر لي عددًا من الكتب هدية من الشيخ حسن موسى الصفّار، وكتابًا آخرًا من عنده، وآخر من الشيخ زكي الحبيب.
ورغم جمال كل الكتب التي احضرها، وروعة مضمونها، إلّا أن الكتاب الذي استوقفني وجعلني أكتب هذا المقال المختصر المختزِل لمقال آخر كنت أحضّره، هو كتاب "ظلال من الذاكرة" للشيخ الصفّار، وهي مذكرات شخصية جميلة، بأسلوب أدبي قصصي سلس، يؤرّخ فيها الشيخ بعض مراحل حياته وتجربته العملية في العمل الديني الاجتماعي الثقافي.
وقبل البدء أودّ أن أوضح أنني هنا لست بصدد "قراءة في كتاب"، ولا في تقييمه أو مدحه ونقده، إنما استعرض بعض مضامينه لأصل إلى شخصية الشيخ حسن الصفّار كما أعرفها.
الكتاب يتناول فيه الشيخ مرحلة الطفولة والشباب، ومرحلة اندماجه في الوسط الديني، ومرحلة دراسته الدينية في النجف الأشرف وقم المقدسة، ويتعرض خلال هذه المراحل لعدد من أساتذته، ومن التقى معهم من علماء من مختلف المذاهب، وكذلك تجربته في الكويت من خلال مدرسة الرسول الأعظم.
ثم يتناول مرحلة تعتبر الأهم في حياته العملية في إطار النشاط الاجتماعي الثقافي الديني، والتي بدأها الشيخ في مرحلة مبكرة من حياته في سلطنة عمان، وعنونها بـ "تجربتي الأولى في العمل الاجتماعي".
في هذه المرحلة العمانية -كنت وجيلي وقتها أطفالًا- وضع الشيخ لبنات بناء الوعي، وأسّس جيلًا مثقفًا حركيًّا رساليًّا كان نواة للعمل الديني، وحاملًا ثقافة إسلامية متقدمة جدًّا، وبين هذا وذاك استطاع وبمساعدة هذا الجيل خلق حالة التدين في المجتمع.
ولم تقتصر حركته تلك على مجتمع اللواتية، فهو في الأساس كان قد قَدِم لمجتمع البحارنة، وكان إمام مسجد عندهم في مدينة مسقط العاصمة، ولكنه وسّع حركته على أطياف الشيعة، وبالذات اللواتية حيث التف حوله جيل من الشباب يصفهم الشيخ في كتابه بـ "شبابًا ينطوون على عمق الانتماء والعاطفة الدينية، ويتصفون بالذكاء والثقة بالذات، والاهتمام بالدراسة والتعليم".
واستطاع الشيخ أن يؤسس مكتبة عامة باسم مكتبة الرسول الأعظم أصبحت "مقرًّا وعنوانًا لنشاط الشباب".
ومن خلال هذه المكتبة انطلق عدد من الأنشطة كنشرة "الوعي" وأيضًا مجلات حائطية، ودورات التأليف والكتابة والتلخيص، وأنشطة الاحتفالات الدينية، ونشاط التبرع بالدم أيام عاشوراء وغيرها كثير.
ويذكر الشيخ أن الذي ساعده في ذلك أجواء التسامح الديني التي كانت تسود البلد، وحسن العلاقة بين الحكومة ومختلف مكوّنات البلد.
كان الشيخ الصفّار يدأب على زيارة المسؤولين والوزراء، وكذلك علماء الدين من كل المذاهب، وعلى رأسهم مفتي عام السلطنة وقتها الشيخ إبراهيم العبري، وكذلك الشيخ أحمد الخليلي مفتي عام السلطنة الحالي، والعالم الأديب الشيخ سالم السيابي رئيس محكمة مطرح وقتها وغيرهم..
كما أن الشيخ كان يكتب في معظم مجلات وجرائد عمان، مثل جريدة عمان، وجريدة الوطن، ومجلات العقيدة والأسرة، ونشرت له أيضًا مجلة "الوحي" التابعة لوزارة الاوقاف.
يعدّد الشيخ في كتابه عددًا من المشاريع الأخرى التي استطاع أن يكرّسها ويؤسّسها مثل صلاة الجمعة، والمسيرة الحسينية على شارع الكورنيش، وطباعة كتب لشباب المكتبة وغيرها كثير.
تجربة الشيخ الصفّار ثرّة غنيّة بكثير من المواقف والدروس والتجارب التي كان المفروض أن يتم التأريخ لها في وقت أبكر من هذا.
ولكن أن يخرج العمل متأخرًا خير من ألا يخرج أبدًا.
تفاجأت وأنا أقرأ الكتاب أن الشيخ الصفّار وفي بعض مراحل حياته كان يكتب الشعر، وشكّل لي هذا مفاجأة من العيار الثقيل، حتى أنني قلت للأخ أديب أبو المكارم أني لا أتصور في شخصية الشيخ شاعرًا اطلاقًا؛ لأن ملامح وجهه جادّة جدًّا، وابتسامته تخرج منه بصعوبة، وإن خرجت فسرعان ما يمحوها بموضوع جادّ، وهذه ليست صفات شاعر نتوسم فيه مشاعر متباينة تظهر على ملامحه وتصرفاته، وكلامي لا يعني أن الشيخ بدون مشاعر، حاشاه، ولكن قسماته لا تساعده على اظهارها.
من الأمور التي استوقفتني في الكتاب إعجابه بشخصية أبو الحسن الندوي حيث التقى به في زيارة وفد من رابطة العالم الإسلامي لإيران وكان الشيخ الندوي على رأسه، وركّز الشيخ كثيرًا على مستوى الاعتدال الذي اظهره الوفد من جهة، والمستقبِلين له من جهة أخرى، رغم الحالة السلفية التي كانت مسيطرة على الرابطة وقتها، وكيف أن الوفد زار ضريح السيدة المعصومة في قم، وضريح الإمام الرضا في مشهد، ومستوى الحفاوة التي لقيها الضيوف من كبار رجال الحكومة في إيران وقتها، ومن عدد من المرجعيات الدينية البارزة هناك.
استوقفني هذا الموقف من جهتين، فالشيخ كعادته يطرح الجوانب المضيئة من مواقفه وتعاملاته، جوانب تجمع ولا تفرق، وأنا احترم الشيخ في هذا التوجه وأقدّره كثيرًا.
ولكن من جهة أخرى وأمانة للتاريخ، وأمانة أمام الأجيال، أرى من المهمّ أن يُعرَض الجانب الآخر من تلك الزيارة، فأبو الحسن الندوي رغم تصوفه، إلّا أن النزعة السلفية لم تفارقه، وبعد تلك الزيارة ـ المصنفة بالمعتدلة ـ كتب الندوي كتابًا عنيفًا بعنوان "اسمعي يا إيران" هاجم فيه الشيعة، وإيران الشيعية، وردّد كثيراً مما يردّده السلفيون من زيارات القبور، وسبّ الصحابة، وعدم الاهتمام بالمساجد، والمغالاة بالأئمة…إلخ.
الأمر الذي دفع الشيخ لطف الله الصافي لتأليف كتاب بعنوان "إيران تسمع فتجيب".
والشيخ أيضًا تجاوز ما تعرّض له من مشاكل لم تكن سهلة أبدًا في السلطنة لخّصها بعبارة بسيطة: "لقد واجهتني بعض المصاعب والمشاكل في تلك التجربة، وهذا أمر طبيعي في كل حراك ونشاط اجتماعي، وخاصّة حين تكون الأنشطة غير مألوفة في المجتمع".
فهذه العبارة لا تفي بـ ٣٪ مما قاساه وعاناه في نشاطه الاجتماعي.
من خلال معايشتي للشيخ الصّفار، ولقاءاتي به ـ وهي فترات ومناسبات قليلة وقصيرة ـ وأيضًا من خلال تتبعي لتجربته وحركته العملية، واستماعي لمحاضراته وقراءتي لكتبه على مدار عشرات السنين، أستطيع أن ألخّص بعض جوانب هذه الشخصية التي لا شك أفخر بها، واعتزّ بالعلاقة التي جمعتني بهذا الرجل.
وبالمناسبة، ليس هناك أمر أسهل من الكتابة عن الشيخ الصفّار وفيه، فالرجل واضح جدًّا، ويمتلك شفافية عالية، وجرأة في طرح أفكاره دون دبلوماسية أو مواربة، فهو مكشوف للجميع كما هو.
- الشيخ الصفار مثابر من الطراز الرفيع، فهو لا يكلّ ولا يملّ ولا يتعب، فمنذ طفولته وهو في هذا الطريق، يحاول نشر الوعي الذي يؤمن به، ويسعى قدر الإمكان إلى طرح أفكار عملية سهلة بسيطة تساعد للنهوض بالمجتمع.
- منذ أن عرفته عرفت فيه تصالحًا مع النفس، ومع الآخرين، فمهما بلغت حدّة الاختلاف والخلاف مع الآخر، تجده يتجاوزها بسعة صدر، بل ويبادر بنفسه لحلها، والاعتذار من الأطراف الأخرى حتى لو كان مقتنعًا بأنه لم يخطئ، هذه سجيته، وهذه فطرته التي أُكبرها فيه كثيرًا.
- الخطوط العريضة العامة لفكره ظلّت ثابتة معه، لم تتغير كثيرًا:
- فهو يحمل فكرًا وحدويًّا تقاربيًّا عميقًا.
- وهو يحمل فكرًا إصلاحيًا مستمرًا.
- ويحمل أيضًا فكرًا لا يقبل كثيرًا من الممارسات والأفكار التي يراها دخيلة على الإسلام عمومًا، وعلى التشيّع بالخصوص.
- وإضافة لهذا وذاك، فإنه في الجانب الاجتماعي يمتلك رؤية عميقة، ونظرة ثاقبة، وأفكارًا خلاقة لتطوير المجتمع لما فيه صالحه كأمّة تريد تطبيق الاستخلاف في الأرض وعمارتها، كما أنه مستمر في نشر ثقافة الحياة بشكل جميل جذّاب بعيدًا عن ثقافة الموت التي ينشرها بعضهم، وذلك بدون التعدي على الجانب الآخروي الذي أكّد عليه الإسلام الحنيف، وجعله هدفا أساسيًّا للإنسان.
- أستطيع أن اسميه رجل المبادرات، فالشيخ الصفّار، إذا اقتنع بفكرة أو مشروع، سعى لتحقيقه على أرض الواقع، ويبادر بكل الطرق إلى هذا، ويحشد الطاقات والإمكانات خلف الفكرة لتتحقق، وعندي من الشواهد الكثير في هذا الأمر، وعلى مختلف الأصعدة.
- يمتلك الشيخ نَفَساً اجتماعيًا عالياً، وهو مخلص ووفي لكل علاقاته الاجتماعية التي كوّنها وشكّلها خلال سنيّ حياته، فعلى سبيل المثال حينما يأتي الى عمان، يتذكر كثيرًا من الأسماء التي عاشرها قبل عقود من الزمن ـ وبعضهم توفاهم الله ـ ويسأل عنهم، ويطمئن على أحوالهم، بل ويحاول ترتيب جدول لزيارتهم، ومن مختلف الأطياف والمذاهب والأعمار، وهي صفة حميدة راقية تجبر المرء أن يحبه لهذا الإخلاص الذي يراه منه.
هذه وغيرها خلاصة أفكار كنت بدأت بكتابتها لمقال طويل نوعًا ما طلبه مني الشيخ زكي الحبيب ليضمه ضمن كتاب عن الشيخ الصفّار، ولكن لبعض الظروف الطارئة، وربما سوء فهم أيضًا من طرفي لم أستطع إنجازه، لأتفاجأ بالكتاب وقد صدر، وكان من ضمن الكتب التي وصلتني، وحمل عنوان (الشيخ حسن الصفار عالمًا.. مفكرًا.. مصلحًا) وفيه عدد كبير من المقالات لعدد من الأسماء اللامعة ممن عايشوا الشيخ وعاشروه.
وأريد التأكيد أن ما كتبته أعلاه لا يعني أن الشيخ شخصية مثالية، إطلاقًا، ولا أظن أن الشيخ يرضى أن يقال عنه ذلك، فهناك كثير من نقاط الضعف البشري لدى كل واحد منا.
وهناك كذلك كثير من الأخطاء التي نقع فيها، ونتعلم منها في تجربتنا في كل المجالات.
كما أن هنالك كثيرًا من الأفكار والتجارب والممارسات التي لا نتفق فيها مع بعضنا، وكثيرًا من أوجه الاختلاف التي قد تبرز هنا وهناك، وهذا بذاته أمر صحّي جدًّا، ويرتقي بعملنا للأفضل والأحسن.
ولكن الأجمل أن هذا الاختلاف يظل في مكانه الصحيح، ولا يؤثر في عمق الأخوة الإيمانية، ولا في حجم المحبة والاحترام، ولا في الانصاف والاعتراف بإنجازات الآخرين.
اختم كلامي بالشكر الجزيل للأخ الأديب أديب أبو المكارم لتجشمه عناء توصيل هذه التحف الجميلة، ولهديته المهمّة وهي مؤلفه الذي عنونه بـ "ظاهرة التقريظ والتقديم في الأدب العربي…الشيخ الصفّار نموذجًا" والذي لم أشرع بقراءته بعد.
وشكر خاصّ للشيخ زكي الحبيب لإهدائه الكتاب الجميل "الشيخ حسن الصفار عالمًا، مفكرًا، مصلحًا" معتذرًا منه لتأخري عليه فيما طلب مني.
والشكر الجزيل للشيخ الصفّار الذي اتحفني بعدد من كتبه، منتظرًا منه بلهفة أن يكمل كتابة بقية تجربته وذكرياته لأنها أيضًا تشكل مرحلة مهمّة جدًّا، ومنعطفاً تاريخياً في تجربة العمل الإسلامي في المنطقة لتستفيد منها الأجيال، وليطّلع عليها التاريخ من فم أصحابها مباشرة.
بالمناسبة كوب القهوة الذي كنت أجهّزه، حضّرته وأخذته معي في الطريق، وأنا متوجه إلى صديقي الجديد أديب ورفيقه الجميل إبراهيم.