اليوم الجديد والروح المتجدّدة
﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴿٣٣﴾ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ﴾ [سورة المدثر، الآيتان 33-34]
كلّ يوم جديد يطلّ على الإنسان، هو صفحة جديدة بيضاء في كتاب حياته، ويمثل له فرصة متجدّدة لتجاوز الثغرات، وتحصيل المكاسب.
وهناك رواية جميلة المعنى، لكنها ضعيفة السند، جاءت في بعض المصادر السنيّة عن رسول الله [1] ، ووردت في كتاب (من لا يحضره الفقيه) عن أمير المؤمنين علي [2] ، وفي الكافي عن الإمام جعفر الصادق، أنه قال: (مَا مِنْ يَوْمٍ يَأْتِي عَلَى ابْنِ آدَمَ إِلَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمُ: يَا بْنَ آدَمَ، أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ وَأَنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ، فَقُلْ فِيَّ خَيْرًا وَاعْمَلْ فِيَّ خَيْرًا، أَشْهَدْ لَكَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّكَ لَنْ تَرَانِي بَعْدَهَا أَبَدًا)[3] .
والرواية تعبّر عن لسان حال اليوم فتنسب القول إليه مجازًا.
وقد شاءت حكمة الله تعالى أن يكون الليل مساحة زمنية فاصلة، يركن فيها الإنسان إلى السكون والراحة، بعد مسيرة كدحه اليومي، ليستقبل اليوم التالي بحيوية ونشاط متجدّد. يقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [سورة غافر، الآية: 61].
التأمل في ظواهر الطبيعة
إنّ التفات الإنسان إلى حقائق الكون والحياة، واهتمامه بمعرفة أسرارها ووظائفها، يجعله أكثر قدرة على التفاعل معها، والاستفادة منها، لذلك تتحدّث كثير من آيات القرآن الكريم عن ظواهر الطبيعة، كحركة الشمس والقمر، واختلاف الليل والنهار، لتثير فكر الإنسان حولها.
أولًا: تذكّره بقدرة الله سبحانه، فحركة الشمس والقمر، ومجيء الليل والنهار، من آيات قدرة الله وعظمته.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [سورة آل عمران، الآية190]
ثانيًا: تلفت نظره إلى أنّ الكون الذي يعيش فيه، يخضع لنظام دقيق بديع، وأنّ عليه أن يضبط مسار حركته في إطار هذه السنن والقوانين الإلهية الحاكمة للكون والحياة، يقول تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [سورة يس، الآية 40]
ومن المعلوم أنّ تعاقب الليل والنهار، هو أحد نواتج دوران الأرض حول نفسها، أثناء دورانها حول الشمس، وتحتاج عملية الدوران حول محورها أمام الشمس من الغرب إلى الشرق 24 ساعة تقريبًا، تشكّل اليوم الواحد، وأثناء هذا الدوران فإنّ الوجه الذي يتعرّض من الأرض للشمس يكون نهارًا، والوجه الآخر يكون ليلًا، ونظرًا لدرجة دوران الأرض حول الشمس، فإنّ تعاقب الليل والنهار يحدث تدريجيًّا مع حركة الدوران.
ثالثًا: ليستوحي الإنسان من حالة التغيير والتحول في ظواهر الطبيعة، ما يبعث في نفسه التطلّع للتغيير نحو الأفضل، في شخصيته ومسار حياته.
استقبال اليوم الجديد
إنّ على الإنسان أن يستقبل يومه الجديد بروح متجدّدة، تتجدّد فيها الثقة بالله، والأمل والرجاء في رحمته وفضله، فلا يسيطر القلق والهاجس على نفسه، ولا يعيش حالة التشاؤم والإحباط، ولا يتوقف عن التطلّع للتقدّم والطموح للأفضل.
ونلحظ أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن مجيء الصبح وبداية النهار الجديد، بعبارات توحي بالبهجة والحيوية، ففي قوله تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ﴾ (أي كشف عن وجهه المشرق الذي يتلألأ بكلّ حبّات الضوء التي تتساقط من الأفق)[4] .
(وقلّ أن يستيقظ قلب لمشهد الصبح عند إسفاره وظهوره، ثم لا تنبض فيه نابضة من إشراق وتفتّح وانتقال شعوري من حالٍ إلى حال، يجعله أشدّ ما يكون صلاحية لاستقبال النور الذي يشرق في الضمائر مع النور الذي يشرق في النواظر)[5] .
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ إنه تعبير بالغ الحيوية والإيحاء فـ (الصبح حي يتنفّس. أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدبّ في كلّ حي. وأكاد أجزم أنّ اللغة العربية بكلّ مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرًا لهذا التعبير عن الصبح. ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفّس! ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح)[6] .
أهمية صلاة الفجر
وهنا نجد أنّ لتوقيت صلاة الفجر أهمية خاصة، كعبادة يفتتح بها الإنسان كلّ يوم جديد يطلّ عليه.
إنّ على الإنسان أن يكون يقظًا لتأدية صلاة الفجر، ضمن ساعة التحوّل والانتقال من ظلام الليل وسكونه، إلى ضياء النهار وحركته، ليعيش أجواء هذا التحوّل والتغيير.
إنّ الالتزام بأداء صلاة الفجر، خاصة في أول وقتها، هو نوع من التربية على التحكم في الوقت وحسن إدارته، حيث يقرّر الإنسان الاستيقاظ ومغادرة فراش نومه في الوقت المحدّد شرعًا، ولا يستسلم لداعي الكسل، والرغبة في الراحة، والتسويف في أداء الواجب.
ولأنّ بعض الناس يفشلون في هذا الامتحان، ويستثقلون مقاومة الرغبة في الخلود للنوم والراحة، على حساب أداء الفريضة، جاءت الآية الكريمة تؤكّد الأهمية الخاصة لصلاة الفجر في وقتها، يقول تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [سورة الإسراء، الآية: 78].
لقد عنونت الآية صلاة الفجر بأنها قرآن الفجر؛ لاشتمال الصلاة على القراءة من القرآن الكريم، ثم وصفتها بأنها صلاة وقرآن مشهود، حيث يشهد أداء صلاة الفجر ملائكة الليل الذين قد أنهوا مهمّتهم، وملائكة النهار الذين يبدؤون استلام مهامهم، حسبما أفادت أحاديث وروايات وردت عن النبي وعن أئمة أهل البيت ، فقد جاء عنه : (﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ قَالَ: تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)[7] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ، فَإِذَا صَلَّى الْعَبْدُ الصُّبْحَ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أُثْبِتَتْ لَهُ مَرَّتَيْنِ، أَثْبَتَهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ)[8] .
أداء الصلاة في وقتها
ومعلوم أنه يجب على الإنسان المسلم أداء صلاة الصبح في وقتها المحدّد من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وهو أقلّ من ساعة ونصف الساعة. والأفضل أول الوقت وما قرب منه.
ولا يجوز للمسلم أن يتجاهل وقت صلاة الصبح في برنامجه بحيث يؤديها بعد انتهاء وقتها، إلّا في حال الاضطرار والاستثناء، كما لو غلبه النوم يومًا ما. أما أن يتأخر في نومه وهو يعلم أنه سوف لا يستيقظ لصلاة الفجر فذلك حرام، وهو استخفاف بالصلاة، وبسببه يبدأ الإنسان يومه الجديد بمعصية الله تعالى، مما يترك إيحاءات سلبية على نفسه، وقد يسلبه التوفيق في مشوار يومه، وأساسًا فإنّ السهر وتأخير النوم في الليل برنامج غير صحي، وتنتج عنه أضرار مختلفة.
إنّ من عوامل التهيؤ لاستقبال اليوم الجديد بحيوية وثقة، أخذ القسط الكافي من النوم ليلًا، ليستيقظ الإنسان بنشاط جسمي، وارتياح نفسي، أما مع السهر وتأخر النوم، فسيبدأ الإنسان يومه العملي متعبًا مرهقًا جسميًّا، ومتوترًا نفسيًّا، وذلك ما يؤثر على أدائه وإنتاجه العملي، وطريقة تعامله مع التحدّيات والمشاكل التي تواجهه.
وتفيد التقارير أنّ نسبة كبيرة من حوادث المرور تحصل صباحًا، بسبب النعاس وضعف التركيز عند السائقين الذين لم يأخذوا كفايتهم من النوم ليلًا، ولممارستهم السرعة في قيادة سياراتهم لإدراك وقت أعمالهم.
كما يلحظ المدرّسون والمشرفون التربويون في المجال التعليمي التأثير السَّلبي للسهر على استيعاب الطلاب لدروسهم، وتفاعلهم معها. وذلك ما يُلحظ أيضًا في أداء الموظفين ممن يسهرون ويتأخرون في نومهم.
المثول بين يدي الله
ما أروع أن يبدأ الإنسان يومه الجديد بالمثول في محراب العبادة بين يدي الله تعالى، ليؤكّد في أعماق فكره وقلبه الإيمان بالله الخالق القدير، وليجدّد العهد على نفسه بالالتزام بدين الله، وليتلو بلسانه أهم آيات الذكر الحكيم، وهي سورة الحمد، فاتحة القرآن الكريم، والمدخل إلى عالمه الرحيب، التي تستعرض مضامين القرآن ومقاصده، بلغة مكثّفة مركّزة، لا تغني عنها أيّ سورة أخرى من سور القرآن الكريم، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، كما ورد عن النبي ، ويقرأ بعدها أيّ سورة أخرى.
وفي صلاة الفجر يستحضر الإنسان عظيم صفات الله تعالى، من خلال تلاوته للقرآن، وسائر أذكار الصلاة، فهو الله أكبر من كلّ شيء، وهو الرحمن الرحيم، ربّ العالمين، مالك يوم الدين، وحده لا شريك له، العظيم الأعلى.
كما يجدّد عهد العلاقة بالله، والصِّلة به، والانفتاح عليه، من خلال الإقرار بالعبودية له، والاستعانة به وحده، وبطلب الهداية منه كي يسلك الصراط المستقيم، الذي سلكه الصالحون، وانحرف عنه الفاسدون.
إنّ هذا الانفتاح على الله سبحانه وتعالى يُلهم الإنسان روح الثقة والاطمئنان، ويملأ نفسه بالأمل والرجاء، فيستقبل يومه الجديد بمعنويات رفيعة، وقلب مطمئن، وتفاؤل متجدّد.
التلاوة والدّعاء
وإلى جانب الصلاة، فإنّ تلاوة شيءٍ من القرآن، وقراءة الأدعية المأثورة في الصباح، عنصر ملهم لتجديد روح الإنسان في يومه الجديد.
ومن أدعية الصباح المأثورة الدعاء الوارد عن أمير المؤمنين وبدايته: (اللّهُمَّ يا مَن دَلَعَ لِسانَ الصَّباحِ بِنُطقِ تَبَلُّجِهِ، وَسَرَّحَ قِطَعَ الّلَيلِ المُظلِمِ بِغَياهِبِ تَلَجلُجِهِ، وَأتقَنَ صُنعَ الفَلَكِ الدَّوّارِ في مَقاديرِ تَبَرُّجِهِ، وَشَعشَعَ ضِياءَ الشَّمسِ بِنُورِ تَأجُّجِهِ).
إنّ عبارات الدعاء تأتي في سياق التعبيرات القرآنية، وإيحاءاتها الإيجابية عن وقت الصباح، كما أنّ مضامينه العالية تقوّي ضعف سنده، كما يشير إلى ذلك الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: (فلا يضرّ بهذا الدعاء الجليل ضعف سنده مع قوة متنه، فقد دلّ على ذاته بذاته)[9] .
وأساسًا فإنّ (المناط في جواز قراءة الأدعية ليس صحة استنادها إلى المعصوم، بل صحة مضامينها، فإن صحت المضامين جازت قراءتها حتى لو لم يعلم استنادها إلى المعصوم) كما يقول السيد السيستاني[10] .
وممّا جاء في هذا الدعاء هذه العبارات الرائعة الملهمة: (إلهي، هذِهِ أزِمَّةُ نَفسي عَقَلتُها بِعِقالِ مَشِيَّتِكَ، وَهذِهِ أعباءُ ذُنُوبي دَرَأتُها بِعَفوِكَ وَرَحمَتِكَ، وَهذِهِ أهوائِي المُضِلَّةُ وَكَلتُها إلى جَنابِ لُطفِكَ وَرَأفَتِكَ، فَاجعَلِ اللهُمَّ صَباحي هذا نازلًا عَلَي بِضِياءِ الهُدى وَبِالسَّلامَةِ فِي الدّينِ وَالدُّنيا).