توطين الفقاهة
يقول تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾. [سورة التوبة، الآية: 122]
التزام المجتمع بالدين يتأسس على معرفة مفاهيمه وأحكامه، لكنّ معرفة هذه المفاهيم والأحكام بتفاصيلها، وإنزالها وتطبيقها على القضايا والوقائع الخارجية، يحتاج إلى بذل جهد في دراستها واستنباطها، من المصادر الدينية المعتمدة، وهذا ما لا يتمكن منه عامة الناس.
فلا بُدّ وأن تتوجه وتتفرغ شريحة من أبناء المجتمع للتفقه في الدين، والاجتهاد في معرفة مفاهيمه وأحكامه، ثم يقومون بتبيينها للناس، ونشرها في أوساطهم، ليتمكنوا من تطبيق الدين في حياتهم.
وهذا ما تتحدّث عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾. [سورة التوبة، الآية: 122]، فهي تحثّ وتحضّ على توجه وخروج طائفة من كلّ مجتمع، من أجل التفقه في الدين، ﴿فَلَوْلَا﴾: حرف حض وبعث، و﴿نَفَرَ﴾: أي تحرّك وخرج، ﴿مِن كُلِّ فِرْقَةٍ﴾: أي من كلّ جماعة، ﴿مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾: أي فئة ومجموعة.
والتفقه في الدين هو فهم المعارف والأحكام الدينية بدقة وتأمّل، لذلك أصبح معنى الفقاهة اصطلاحًا: هو اكتساب قدرة الاجتهاد، واستنباط الأحكام الشرعية، والفقيه هو المجتهد.
الاجتهاد واجب كفائي
لا يكفي أن يكون في المجتمع علماء لم يبلغوا درجة الاجتهاد، بل لابُدّ من وجود فقهاء مجتهدين.
وبناءً على هذه الآية وأدلة أخرى، فإنّ الفقاهة في الدين واجب كفائي على كلّ مجتمع ديني، بأن يتخصّص من أبنائه شريحة لدراسة العلوم التي تمكنهم من استنباط المفاهيم والأحكام الشرعية، ولا يسقط هذا الوجوب إلّا بوجود القدر الكافي من الفقهاء حسب حاجة المجتمع، وبهذا أفتى الفقهاء في جميع المذاهب.
ومن خلال تأمّله في الآية الكريمة قال الشيخ محمد مهدي شمس الدين: (لا يبعد استفادة عدم كفاية وجود مجتهدين في شعب من الشعوب الإسلامية، لسقوط وجوب التفقه عن سائر الشعوب الإسلامية، بل يجب على كلّ شعب ﴿فِرْقَةٍ﴾ مسلم، أن يكون منه نافرون متفقهون (مجتهدون)؛ لأنّ الأمر في الآية الكريمة وارد بنحو العموم الاستغراقي ﴿كُلِّ فِرْقَةٍ﴾، فلا يتحقق الامتثال بنفر طائفة من فرقة واحدة أو أكثر، إذا لم ينفر طوائف من جميع الفرق)[1] .
ماذا يعني توطين الفقاهة والمرجعية؟
حين نتحدّث عن توطين الفقاهة، فإنّ المقصود بذلك الاهتمام والسعي لوجود فقهاء، وانبثاق حركة لممارسة الاجتهاد والاستنباط في المجتمعات الدينية، ضمن أوطانها المختلفة.
وذلك على نسق مصطلح توطين المعرفة، وهو مصطلح متداول في بحوث التنمية والتطوير.
ويهدف توطين المعرفة إلى نشر العلوم والمعارف، وصولًا إلى إنتاجها وتوظيفها في خطط التنمية البشرية داخل الوطن، ويشمل استقطاب أفضل مناهج العلم والمعرفة، وبناء القدرات وتطوير الكفاءات، ودعم مشروعات البحث العلمي، وانشاء مدن المعرفة.
وفي مجال الفقاهة والاجتهاد، هناك مجتمعات شيعية تحتضن حوزات علمية في أوطانها، يتخرج منها الفقهاء والمجتهدون، وتنشط فيها حركة الاجتهاد والبحث العلمي الاستدلالي، وهناك مجتمعات شيعية تفتقر إلى وجود العلماء والمبلغين من أبنائها، وتحتاج إلى جلبهم من بلدان أخرى، وبعض مجتمعاتنا فيها طبقة من العلماء والمبلغين، لكن ليس بينهم - أو يقل بينهم - من هم في مستوى الفقاهة والاجتهاد.
أما توطين المرجعية، فالمقصود منه وجود فقهاء مؤهلين جامعين لشرائط التقليد المقررة في البحوث الفقهية، يتصدون من داخل الوطن لمقام المرجعية الدينية، كما كان قائمًا في بلادنا إلى ما بعد منتصف القرن الماضي.
التطور التاريخي للفقاهة المحلية
كان مجتمعنا الشيعي في منطقة القطيف والأحساء، في عصر سابق، ينعم بوجود عدد من الفقهاء والمجتهدين، وبعضهم تسنّم موقع المرجعية والتقليد، ليس على المستوى المحلي فقط، بل كان مرجعًا للتقليد في بلدان أخرى أيضًا، فالشيخ أحمد زين الدين الأحسائي (1166هـ-1241هـ) قلّده بعض العراقيين، وكثير من الإيرانيين، وعلى رأسهم ملك إيران آنذاك فتح علي شاه، وأسرته، ووزراؤه، وكبار رجال دولته. وقد سجّل الدكتور ميرزا مهدي خان في تاريخه: أنّ ربع الشعب الإيراني كانوا من مقلّديه والتابعين له[2] .والشيخ محمد بن علي آل عبدالجبار القطيفي (توفي 1252هـ)، كان له مقلّدون في عدد من مدن إيران، والعراق، والبحرين، ومسقط، والأحساء، والقطيف[3] .
لكن هذه الحالة انحسرت في الأزمنة المتأخرة، وكانت أغلب مناطقنا في القطيف والأحساء، قبل نصف قرن من الزمن، تكاد تخلو من وجود عالم يقيم صلاة الجماعة، ويجيب على الأسئلة الشرعية، فضلًا عن وجود فقيه مجتهد.
وبحمد الله تعالى، حصل في هذه العقود الأخيرة، إقبال على طلب العلم الديني، من أبناء مجتمعنا المحلي، وأصبح لدينا في كلّ مدينة وقرية، عدد من طلبة العلوم الدينية، والعلماء الأفاضل، والخطباء والمبلغين.
الارتقاء بالحركة العلمية
وما يجب أن نفكر فيه، ونهتم به في هذه المرحلة، هو الارتقاء بالحركة العلمية المحلية، وتوطين الفقاهة في المجتمع، بأن يصل الأكفاء والمؤهلون من أبنائنا في الحوزات العلمية، إلى درجة الفقاهة والاجتهاد، وأن تكون في بلادنا حركة علمية اجتهادية، تمارس البحث العلمي، وتنتج المعرفة الدينية في أعلى مستوياتها.
وقد برز لدينا فضلاء في مستوى الفقاهة، يتصدّون لتدريس المرحلة العليا (البحث الخارج) في الحوزات العلمية، داخل البلاد وخارجها، وهو ما يعزّز الأمل بمستقبل واعد مشرق على هذا الصعيد.
ولا ينقص أبناءنا الذكاء والموهبة، فقد أثبتوا كفاءتهم وتميّزهم في المجالات العلمية الأكاديمية المختلفة، كالطب والهندسة والفيزياء والرياضيات والإلكترونيات وغيرها.
إنّ علينا، أولًا: أن ندعم إقامة ورعاية الحوزات العلمية الدينية في الوطن.
ثانيًا: أن نشجع الكفاءات المتميّزة في دراسة العلوم الدينية، لتواصل مسيرتها نحو الفقاهة والاجتهاد، فبعضهم قد تتعثر مسيرته بسبب فقدان الدعم والمساندة، ولك أن تقارن بين ما يحصل عليه المبتعث للدراسات الأكاديمية العليا من مكافآت، وما يحصل عليه المتفرّغ للدراسات العليا في الحوزات العلمية!!
ثالثًا: تقدير ودعم الإنتاج العلمي التخصصي، كطباعة البحوث العلمية، ونشرها، والإشادة بالمتميّز منها.
رابعًا: هناك أهمية للتحفيز المعنوي، والإشادة بالإنجازات العلمية، في ميدان بحوث الفقاهة والاجتهاد، فمن المؤسف أن تبرز بعض حالات التحاسد والتنافس السلبي في الساحة الدينية، فيكون هناك تجاهل أو تقليل من شأن الكفاءات، فلا تنال ما تستحق من الإشادة والتقدير، ولا يعرف المجتمع من نال درجة الفقاهة والاجتهاد من أبنائه.
إنّ وجود الفقهاء المجتهدين يعزّز الحالة الدينية في المجتمع، لما لهم من المكانة والتأثير في النفوس، ويرفع ثقة الناس في انتمائهم الديني، ويرتقي بمستوى الحركة العلمية الدينية في البلاد.
توطين الاهتمامات الفقهية
حاجة المجتمعات لوجود فقهاء مجتهدين من أبنائها، ليس من أجل أن يجتروا ويعيدوا بحث الموضوعات الأصولية والفقهية التي أُشبعت دراسة وبحثًا، وإن كان بحثها مهمًّا لجهة تنمية القدرة العلمية الاجتهادية، وهي موضوعات لا يمكن تجاوزها أو التقليل من شأنها، لكنّ روادها كثيرون، والاستفادة من باحثيها في مجالها لا يستلزم خصوصية محلية.
إنّما الحاجة الأهم للفقهاء المحليين، تكمن في تميّزهم المفترض، بإدراك مشاكل مجتمعاتهم وخصوصياتها، وتقديم المعالجات العلمية المناسبة لها.
فالوضع السياسي في كلّ مجتمع، والقضايا الاجتماعية القائمة فيه، والتحدّيات الثقافية، والعلاقة بينه وبين أطراف محيطه، كلّ هذه الأبعاد تحتاج إلى بحث ومعالجة في تميّزاتها وخصوصياتها، على هدي الشريعة الإسلامية.
وظاهرة العزوف عن معالجة القضايا المحلية، عبر البحث العلمي الفقهي، تكشف عن ضعف شعور بالمسؤولية الاجتماعية الوطنية، أو تهيّب من ارتياد بحوث غير مألوفة، أو خوف من إبداء الرأي والنظر فيها.
إن الفقيه الشيعي في بلده مواطن مسلم، عليه أن يتحمّل مسؤوليته تجاه وطنه ومجتمعه ودينه، وألّا يسجن نفسه ضمن القبيلة المذهبية المنكفئة عن التفاعل مع تطورات العصر، وقضايا الوطن.