يوم العزّاب وثقافة الهروب من المسؤولية
يقول تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ [سورة الصافات، الآية: 24].
تؤكد الرؤية الدينية أنّ الإنسان كائن مميّز في الوجود، منحه الله تعالى قدرات ومؤهلات عقلية وروحية ونفسية استثنائية، فضّله بها على سائر المخلوقات، وفتح له مجال التصرف والاستفادة من خيرات الكون وثرواته، وتسخير ما فيه من الإمكانات.
ونتيجة لهذا التميّز أصبحت للإنسان قابلية التكليف، وأهلية تحمّل المسؤوليات، وحين يكون بعض أفراد البشر فاقدًا لهذه القابلية والأهلية، كصغار السنّ، ومتخلّفي القدرات العقلية، يرتفع التكليف، وتسقط أعباء المسؤولية.
الإنسان كائن مسؤول
فالأصل في الانسان أنه كائن مسؤول، خلقه الله تعالى في هذه الحياة، ليكلفه ويمتحنه ويختبره بتحمّل المسؤوليات.
لم يخلقه الله تعالى بهذا المستوى من التميّز والفرادة، ليعيش لاهيًا عابثًا.
يقول تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [سورة المؤمنون، الآية: ١١٥].
إنه مسؤول تجاه نفسه، وتجاه ربّه، وتجاه من حوله من أبناء جنسه، وتجاه الطبيعة التي يعيش في أحضانها. وسيقف بعد هذه الحياة أمام ربه ليحاسبه على أيّ تقصير في تحمّل مسؤولياته.
فالحياة بالنسبة للإنسان قاعة امتحان، وساحة اختبار، خلق فيها ليتحمّل المسؤوليات، لا ليتهرّب منها.
يقول تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ [سورة الصافات، الآية: 24].
ويقول تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٩٢﴾ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سورة الحجر، الآية: 92].
إنّ الله اختار الانسان ليكون خليفة له في الأرض، وأعلن ذلك للملائكة ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [سورة البقرة، الآية: 30].
وكلّف الله الإنسان عمارة الأرض ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [سورة هود، الآية: 61]، أي طلب منكم عمارتها.
ويقول تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة يونس، الآية: 14].
ويقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [سورة الملك، الآية: 2].
ورد عن أمير المؤمنين علي : «اتَّقُوا اللهَ فِي عِبَادِهِ وَبِلاَدِهِ، فَإنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ»[1] .
إنّ التأكيد على مسؤولية الإنسان، يعني:
أولًا: تعزيز شعوره بقيمته ودوره في هذه الحياة، وأنه كائن مميّز عند ربه وخالقه. وذلك ما يعطي لحياته معنًى وقيمة.
ثانيًا: يدفع الإنسان لتفجير طاقاته واستنهاض قدراته لتحمّل المسؤولية. حتى يحقّق الهدف من وجوده فلا يتهّرب من تحمّل المسؤولية، بل يجتهد للقيام بها على أفضل وجه.
ثالثًا: يجعله ذلك أكثر التزامًا ومراعاةً للمبادئ والقيم في سلوكه وتصرفاته. لاعتقاده بأنه محاسب أمام الله تعالى.
الرؤية المادية وضياع الإنسان
في مقابل هذه الرؤية الدينية، هناك رؤية مادية، تتجاهل هدفية الحياة، وأنّ وجود الإنسان فيها بإرادة الهية، ولغاية حكيمة، وأنه سيؤول إلى حياة أخرى، ينتظره فيها الحساب والجزاء.
وانطلاقًا من هذه الرؤية المادية فالحياة الدنيا فرصة وحيدة لوجود الإنسان، وعليه أن يستمتع فيها بأعلى قدر من الشهوات والرغبات. فلا غاية ولا هدف له إلّا مصالحه الدنيوية ورغباته.
وهذا ما يفقد الحياة معناها. ويعزّز الأنانية في نفس الإنسان، ويطلق العنان لشهواته دون أيّ سقفٍ قيمي أخلاقي، فيعيش ضائعًا تائهًا.
وكما يقول مُنظِّر الوجودية الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) توفي 1980م: (إنّ الدافع الأساسي للسُّلوك البشري هو الرغبة في تحقيق إرضاء الذات بصورة كاملة، وذلك بمحاولة أن يصبح الإنسان السبب في وجود نفسه، وقال سارتر: إنّ هذا الهدف مناقض لنفسه، ومن المحال تحقيقه، ولذلك فهو يعدّ النشاطَ البشري كلّه بلا جدوى، والإنسان برأيه عاطفة لا فائدة منها)[2] .
وفي عصرنا الحاضر تتسيّد الثقافة النابعة من هذه الرؤية، وتحاول توجيه أنماط حياة الإنسان وَفْقَهَا، بتحريض الشهوات والرغبات في نفس الإنسان، وتشجيع السلوك الاستهلاكي، وتجاهل القيم الإنسانية والأخلاقية، والسعي للتهرب من أيّ مسؤولية، والتمحور حول الذات فقط وفقط.
يقول الشاعر:
مارَسْتُ ألفَ عِبادَةٍ وعِبادَةٍ فَوَجَدْتُ أفضَلَها عِبادَةَ ذاتِي
تمجيد العزوبية
ومن أواخر موضات وصرعات هذه الثقافة، تمجيد حالة العزوبية، والتنفير من الزواج، وتشكيل الحياة العائلية الأسرية، باعتبارها عبئًا على الإنسان، وإثقالًا له بتحمّل مسؤولياتها، بينما يعيش في حالة العزوبة حرًّا طليقًا، غير مرتبط بأيّ إرادة أخرى.
وقد اخترعوا يومًا يسعون لجعله يومًا عالميًّا للعزّاب وهو اليوم 11 من الشهر الميلادي الحادي عشر من نوفمبر، فيكون 11/11 من كلّ عام يومًا عالميًّا للعزّاب.
ويرجع سبب اختيار الحادي عشر من نوفمبر تحديدًا، لتكرار الرقم (واحد)، أربع مرات. تأكيدًا للوحدانية في نفس الإنسان.
والرقم (واحد) الذي يرمز إلى المفرد استخدمته الصين للدلالة على الأعزب؛ لذلك أصبح تاريخ الحادي عشر من نوفمبر هو "اليوم العالمي للعزّاب".
وفي المملكة المتحدة (بريطانيا) يتم الاحتفال بيوم العزّاب، الذي يُطلق عليه أيضًا يوم العزّاب الوطني في 11 مارس. حيث تم إطلاقه بواسطة مجموعة من خبراء العلاقات المعترف بهم دوليًّا من أجل مساعدة العزّاب، إما في احتواء حالتهم الفردية أو «القيام بشيءٍ حيال ذلك»[3] .
ويبدو أنّ هذا العيد انطلق من الصين حيث وجدت شركة علي بابا الصينية أنّ مبيعات شهر نوفمبر من كلّ سنة منخفضة. فاخترعت عيد العزّاب "singles day" في يوم 11/11 عام 2009، لتحثّ كلّ شخص على أن يُهديَ نفسه شيئًا، وأصبح بهذا أكبر يوم تسوق أونلاين في العالم، بمبيعات تصل إلى مليارات الدولارات.
فعلى سبيل المثال، وصلت المبيعات في مواقع على بابا إلى 5.8 مليار دولار في عام 2013، و9.3 مليار دولار في عام 2014، و14.3مليار دولار في عام 2015، و17.8 مليار دولار في عام 2016، وأكثر من 25.4 مليار دولار أمريكي في عام 2017م[4] .
ومع انتشار الاحتفالات بيوم العزّاب بين فئات مجتمعية أكبر في بلدان أكثر، انتهزت العديد من الشركات الفرصة لاستهداف المستهلكين الصغار بتقديم التخفيضات الكبيرة في هذا اليوم من أجل تحقيق مبيعات أعلى، بما في ذلك الأنشطة التجارية مثل المطاعم ومراكز التسوق عبر الإنترنت.
الترويج الإعلامي والثقافي
ورغم أنّ "يوم العزّاب" هو في الأصل احتفال خاص بالشباب الصيني، إلّا أنّ هذا الاحتفال لم يقتصر على الصينيين، بل امتدّ لعدد كبير من دول العالم، حيث يحتفل شباب كلّ دولة بهذا اليوم على طريقته الخاصة، كما أصبح في صدارة الترند في السعودية وعدة دول عربية منها الإمارات العربية المتحدة، والكويت والبحرين، لحرص شباب هذه الدول على الاحتفال عبر صفحاتهم على "إكس أو تويتر سابقًا" بتدوينات وفيديوهات وصور خاصة لها دلالتها المتعلقة بهذا اليوم.
وقد تصدر وسم "# اليوم_العالمي_للعزّاب" موقع التواصل الاجتماعي "إكس أو تويتر سابقًا"، حيث تفاعل آلاف المغردين مع الوسم معبرين بغالبيتهم على أنه لا يوجد أجمل من العزوبية، وأنّها أقوى أنواع الحرية، وأنّ البقاء بلا زواج هو أفضل من زواج فاشل حيث تناقل العديد منهم عبارة "أن يفوتك قطار الزواج أفضل من أن يدهسك".
وعبّر الكثير من المغرّدين عن رأيهم بالعزوبية حيث أجمع أغلبهم على أنّ العزوبية هي الرديف للحرية، فقال أحدهم: "أقوى أنواع الحرية أن تكون أعزب".
ووصفت أُخرى العزوبية قائلة: "أحلى حياة همي نفسي وبس ماخذه راحتي وادلع نفسي بدون عناء ودراما".
كما وجد مغرّدون بالعزوبية راحة من المسؤولية والمصاريف الزائدة، فقال أحد المغرّدين: "الله يديمها من راحه وقل المسؤوليات والمصاريف الزايده".
التنفير من الزواج
يبدو أنّ هناك نشاطًا مكثّفًا لنشر ثقافة التنفير من الزواج، وإعداد دراسات تدعمها، حيث تشير بعض الأبحاث بما في ذلك دراسة ألمانية أجريت عام 2018 إلى أنّ الصور النمطية حول العزاب البائسين والأزواج السعداء ليست صحيحة على الإطلاق[5] .
وبحسب ما نشرته "ديلي ميل" البريطانية، أثبتت نتائج الدراسة، التي أُجريت على أكثر من 5000 من الأزواج المقيمين في الولايات المتحدة، أنّ 79% من الأزواج والزوجات يصنّفون في فئة أصحاب صحة "غير مثالية" للقلب[6] .
كما نشرت سكاي نيوز عربية[7] مقالًا عن دراسة تكشف 7 مزايا لحياة العزوبية، منها أنّ العزّاب أكثر نجاحًا، وأكثر سعادة، وأكثر صحة، وأكثر رضًا عن حياتهم!!
إنّ علينا التصدّي لهذه الثقافة المادية، التي تريد مسخ إنسانية الإنسان، وإفقاده أهم مميّزات وجوده، وهو الأهلية لتحمّل المسؤوليات في هذه الحياة.
وفي مقابل هذه الثقافة المنحرفة، علينا أن نبثّ وننشر توجيهات الدين بالحثّ على الزواج.
ورد عن رسول الله : «النِّكَاحُ من سُنَّتِي فمَنْ لمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَليسَ مِنِّي»[8] .
وعنه : «مَا بُنِيَ بِنَاءٌ فِي اَلْإِسْلاَمِ أَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى مِنَ اَلتَّزْوِيجِ»[9] .
الزواج والأسرة
هذا الاهتمام الكبير من الأديان بالزواج والأسرة؛ لأنّها تحقق أغراضًا أساسًا في حياة الفرد والمجتمع، ومن أبرزها:
أولًا: العلاقة الزوجية الأسرية هي الطريق المشروع والآمن لتلبية الحاجة البيولوجية الجنسية والعاطفية. وبدون هذه العلاقة الزوجية، إما أن يعيش الإنسان الكبت والحرمان الغريزي، أو الانفلات والانحراف الأخلاقي، ويبدو أنّ هذا ما تشجع عليه الثقافة المادية، حيث تنتشر في مجتمعاتها العلاقات العاطفية خارج الإطار الزوجي، ومنها العلاقات المثلية والشذوذ الجنسي.
لذلك تعتبر الأديان أنّ الزواج يحصّن دين الإنسان وأخلاقه، ورد في الحديث عن النبي محمد : (مَنْ تَزَوَّجَ أَحْرَزَ نِصْفَ دِينِهِ، فَلْيَتَّقِ اَللَّهَ فِي اَلنِّصْفِ اَلْآخَرِ)[10] .
ثانيًا: عبر تكوين الأسرة يستمرّ التناسل البشري، ويتم إعداد الإنسان وتأهيله للحياة، فهي محضن تربية الإنسان وتنشئته، فيها يتعلم لغة النطق ولغة الحياة، حيث يكتسب عادات السلوك وأساليب التعامل.
ثالثًـا: الأسرة باعث الاطمئنان النفسي والاستقرار العاطفي، وحسب تعبير القرآن فهي سكن للإنسان، يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، كما أنّ الأسرة تعزّز الأمن والتماسك الاجتماعي.
يرى (أوجست كونت) عالم الاجتماع الديني توفي 1875م: أنّ الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع، وأنّ المجتمع يتكون من أسر لا أفراد[11] ، ويرى أنّ الأسرة تتميّز قوانينها بالطبيعة الخلقية والعاطفية، أما العقلية فثانوية، بعكس قوانين المجتمع[12] .
رابعًا: الأسرة خيمة يتفيّأ الإنسان ظلالها طوال حياته، حين يكون طفلًا، ويوم يغدو شابًّا، وإذا ما غزاه الشيب والكبر، ولا يستغني عن عطائها مهما حقّق من تقدّم ذاتي ومكانة وشخصية؛ لأنّ عطاء الأسرة يرتبط بكيانه الروحي، وبعمق وجوده العاطفي، فهي الملجأ والملاذ له في وجه الأعاصير والأزمات.
وإذا كانت هناك مشكلات تعترض الكيان الأسري بسبب تطورات الحياة، فإنّ المطلوب مواجهة هذه المشكلات ومعالجتها، وليس الإعراض عن الزواج.
إنّ أيّ مجال من مجالات الحياة يحمّل الإنسان التزامات ومسؤوليات، ولا يخلو من المشكلات، كالتعليم والوظيفة والعمل، وهنا لا بُدّ من تشجيع الإنسان على مواجهة التحدّي، ومعالجة المشاكل بأفضل الطرق، وليس دفع الإنسان للابتعاد عن أيّ مجال تواجهه فيه مشكلات وتحدّيات.
وفي هذه السياق نؤكد على أهمية وجود مؤسسات اجتماعية، تُعنى بشؤون الزواج والأسرة، من نشر الوعي والثقافة التي ترغّب في الزواج وتحثّ عليه، وتؤهل لحسن إدارة الحياة الزوجية، وتقديم الدعم والمساعدة للراغبين في الزواج، وتيسير وتسهيل الأمور لهم.
ومن الضروري وجود مؤسسات إرشادية لمعالجة المشكلات الناشئة في المجال الأسري.