الثراء النفسي والثراء المادي
ورد عن رسول الله 
: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ»[1] .
يندفع الإنسان غريزيًّا لتحصيل الإمكانات المادية، والثراء المالي، وذلك من النزعات المتجذّرة في نفس الإنسان، والمنبثقة من حبّ الذات، إنّها نزعة التملك والحرص على حيازة الأشياء، والاختصاص بها، وهي تظهر باكرًا في حياة الإنسان من عهد طفولته الأولى.
يقول تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾. [سورة العاديات، الآية: 8] وهو المال كما يقول المفسّرون.
وسعي الإنسان لتحصيل الثراء المادي بالطرق المشروعة أمرٌ إيجابي؛ لأنه بذلك يمارس الفاعلية والنشاط في وجوده، ويسهم في إعمار الأرض، وحركة الحياة.
يقول تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾. [سورة الملك، الآية: 15].
لذلك ورد عن الإمام جعفر الصادق 
: «لاَ خَيْرَ فِي مَنْ لاَ يُحِبُّ جَمْعَ اَلْمَالِ مِنْ حَلاَلٍ»[2] .
أغراض الثراء
ويفترض أن يستهدف الإنسان من تحصيل الثراء المالي، تلبية احتياجاته، وتعزيز قيمته في محيطه الاجتماعي، وتحقيق الراحة والسعادة في حياته.
لكنّ الإنسان ليس وجودًا ماديًّا فقط، بل هو كيان متعدّد الأبعاد، له بُعدٌ عقلي وروحي ونفسي، وكما يحتاج إلى الثراء المادي، فإنه يحتاج الثراء في الأبعاد الذاتية الأخرى من شخصيته.
ولو توفر له الثراء المادي، وكان فقيرًا في داخل نفسه وذاته، فإنه لا يحقق إنسانيته، ولا يضمن راحته وسعادته.
من الصحيح أنّ هناك من الاغنياء من هم سعداء، ولكن هناك أيضًا نسبة كبيرة منهم غير سعداء، رغم أنّهم يملكون ثروات طائلة، ولو كان المال وحده، أو على الأقلّ سببًا رئيسًا للسعادة لكان هؤلاء من أكثر الناس سعادة.
في دراسة لكلية بوسطن على موقع «أتلانتيك» بعنوان «المخاوف السِّرية لأكثر الأغنياء ثراءً، أشارت الدراسة إلى أنّ «الناس الذين يملكون ثروات تزيد على ٢٥ مليون دولار يتحدّثون بصراحة عن حياتهم بقلق. والنتيجة مفاجئة حيث يزيد أعداد الأثرياء الذين يشعرون بالقلق والعزلة، ومخاوف إزاء العمل والحب، والأهم من ذلك كلّه مخاوفهم على أطفالهم». أما قائمة الأثرياء الذين انتهت حياتهم بالانتحار بسبب الاكتئاب فهي قائمة طويلة - ونجد فيها المغني المشهور مايكل جاكسون، وكريستين أوناسيس ابنة الملياردير اليوناني أو ناسيس صاحب الجزر والأساطيل البحرية والطائرات، وكذلك نجد فيها الرئيس السابق لسلسلة بنوك ليمان براذرز الشهيرة في الولايات المتحدة، إيلي بلاك، الذي انتحر بالقفز من نافذة في الطابق ٤٤ في أحد مباني نيويورك، والحال نفسها تكرر مع البليونير الألماني أدولف ميركل Adolf Merckle، وغيرهم الكثيرون[3] .
الثراء النفسي والروحي
لذلك فإنّ الدين يوجه الإنسان للاهتمام بالثراء النفسي والروحي، الذي غالبًا ما يغفل عنه الإنسان ويتجاهله، مع أنه الأجدر والأولى بالاهتمام.
وفي هذا السياق يأتي الحديث الوارد عن رسول الله : «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ»[4] .
و(العرَض بالتحريك: متاع الدنيا وحطامها، والعرْض بالسكون: خلاف النقد من المال، فكلّ عرْض داخل في العَرَض، وليس كلّ عرَض عرْضًا)[5] .
وعن أبي ذرٍّ قال رسول الله : «يا أبا ذرٍّ، أتَرى كثرةَ المالِ هوَ الغِنى»؟ قُلتُ: نعَم، قالَ: «فَتَرى قِلَّةَ المالِ هوَ الفَقرُ»؟ قلتُ: نعَم يا رسولَ اللَّهِ. قالَ: «إنَّما الغِنى غِنَى القَلبِ، والفَقرُ فقرُ القلبِ»[6] .
إنّ الغنى الحقيقي هو الثراء النفسي بالمشاعر الإيجابية، والفقر الحقيقي هو افتقاد تلك المشاعر والأحاسيس.
وورد عن الإمام جعفر الصادق إنّ رسول الله قال لعليٍّ : «يَا عَلِيُّ، لاَ فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ اَلْجَهْلِ، وَلاَ مَالَ أَعْوَدُ مِنَ اَلْعَقْلِ»[7] .
والحديث يشير إلى أهمية الثراء في الجانب العقلي والفكري، فالقدرات العقلية هي الثروة الأهم في حياة الإنسان، فعوائدها وفوائدها أهم من عوائد الثروة المالية.
وورد عن الإمام علي : «فَقْرُ اَلنَّفْسِ شَرُّ اَلْفَقْرِ»[8] .
فحين تخلو النفس من النزعات الإيجابية، وتنضب الأحاسيس والمشاعر الإنسانية، يعيش الإنسان الافتقار إلى المعنى في وجوده وحياته.
ماذا يعني غنى النفس؟
إذا كان الغنى المالي يعني وفرة الإمكانات المالية المادية، فإنّ غنى النفس هو قوة المشاعر والنزعات والميول الإيجابية في أعماق ذات الإنسان، وانعكاسها على سلوكه.
ونتناول أهمّ تجلٍّ لثراء المشاعر النفسية التي تتقاطع مع معادلة الثراء المالي، على ضوء النصوص الدينية.
مشاعر الكرامة والعزّة
تؤكد النصوص الدينية، أنّ على الإنسان أن يُعزّز في نفسه مشاعر الكرامة والعزّة، فلا يضع شخصيته في مواقف الهوان والذلّ، من أجل الحصول على شيءٍ من الإمكانات المادية، إنّ كسب المال والثراء بالعمل والكدح، وعبر الطرق المشروعة، ينسجم مع كرامة الإنسان وعزّته، أما إذا كان باستجداء الآخرين، وتحمّل مهانتهم وامتنانهم، فهذا يسبب فقر المشاعر الإيجابية في نفس الإنسان.
إنّ الله تعالى يشيد بالفقراء الذين يعيشون ثراءً في مشاعر الكرامة والعزة في نفوسهم، فيتعفّفون عن إظهار حاجتهم، حتى يتصور الناس أنّهم أغنياء، لعدم طلبهم من الآخرين شيئًا، وإذا ما اضطروا للسؤال، كان ذلك بأدبٍ ولطفٍ ودون ضغط وإلحاح، انطلاقًا من رقّة مشاعرهم وعواطفهم.
يقول تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾. [سورة البقرة، الآية: 273].
الاستغناء عن الناس
وقد خصّصت بعض كتب الحديث أبوابًا لنصوص دينية تحت عنوان: (الاستغناء عن الناس) كما في كتاب (الكافي) ج2، ص148-149، وكتاب (كنز العمال) ج3، ص403-404، وفي (بحار الأنوار) بعنوان: (غنى النفس والاستغناء عن الناس، واليأس عنهم) ج72، ص105-113.
جاء في الكافي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ محمد الباقر قَالَ: «الْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ عِزُّ الْمُؤْمِنِ فِي دِينِهِ، أَوَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَاتِمٍ-
إِذَا مَا عَزَمْتَ الْيَأْسَ أَلْفَيْتَهُ الْغِنَى إِذَا عَرَّفْتَهُ النَّفْسَ وَالطَّمَعُ الْفَقْرُ»([9]).
وعَنِ الإمام جعفر الصادق : «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ: لِيَجْتَمِعْ فِي قَلْبِكَ الِافْتِقَارُ إِلَى النَّاسِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُمْ، فَيَكُونَ افْتِقَارُكَ إِلَيْهِمْ فِي لِينِ كَلَامِكَ، وَحُسْنِ بِشْرِكَ، وَيَكُونَ اسْتِغْنَاؤُكَ عَنْهُمْ فِي نَزَاهَةِ عِرْضِكَ، وَبَقَاءِ عِزِّكَ»[10] .
بأن تنزّه عرضك من التدنّس بالسؤال عنهم وتُبقي عزّك بعدم التذلّل عندهم للأطماع الباطلة[11] .
وعَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ أَعْيَنَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الإمام جعفر الصادق يَقُولُ: «طَلَبُ الْحَوَائِجِ إِلَى النَّاسِ اسْتِلَابٌ لِلْعِزِّ، وَمَذْهَبَةٌ لِلْحَيَاءِ، وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ عِزٌّ لِلْمُؤْمِنِ فِي دِينِهِ، وَالطَّمَعُ هُوَ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ»[12] .
وعَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ علي بن موسى الرِّضَا : جُعِلْتُ فِدَاكَ، اكْتُبْ لِي إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ دَاوُدَ الْكَاتِبِ، لَعَلِّي أُصِيبُ مِنْهُ، قَالَ : «أَنَا أَضَنُّ بِكَ أَنْ تَطْلُبَ مِثْلَ هَذَا وَشِبْهَهُ، وَلَكِنْ عَوِّلْ عَلَى مَالِي»[13] .
إنّ الإمام الرضا يرفض أن يكون أحد أصحابه المحترمين، يقف موقف الطلب والحاجة لمسؤول في السُّلطة، لينال منه شيئًا من المكاسب والامتيازات.
وقد اشترط رسول الله على أبي ذرٍّ: «لا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا، وَلا سَوْطَكَ، وَإِنْ سَقَطَ مِنْكَ، حَتَّى تَنْزِلَ إلَيْهِ فَتَأْخُذُهُ»[14] .
هذه هي التربية النبوية للإنسان المؤمن، أن يعوّد نفسه الاعتماد على ذاته، وعدم تكليف الآخرين شيئًا من حاجاته، حتى الصغير منها، كتناول العصى من الأرض حينما تسقط منه وهو راكب دابته.
وورد عن الإمام محمد الباقر : «أُقْسِمُ بِاللَّهِ وَهُوَ حَقٌّ، مَا فَتَحَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ، إِلَّا فَتَحَ اَللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ»[15] .
فحين يطلب الإنسان شيئًا من الآخرين، يستهلك من مشاعر العزَّة والكرامة في نفسه، فهو باب فقر في المشاعر الإيجابية.
وعن محمد بن مسلم قال أبو جعفر الإمام محمد الباقر : «يَا مُحَمَّدُ، لَوْ يَعْلَمُ اَلسَّائِلُ مَا فِي اَلْمَسْأَلَةِ، مَا سَأَلَ أَحَدٌ أَحَدًا، وَلَوْ يَعْلَمُ اَلْمُعْطِي مَا فِي اَلْعَطِيَّةِ مَا رَدَّ أَحَدٌ أَحَدًا، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُ مَنْ سَأَلَ وَهُوَ بِظَهْرِ غِنًى لَقِيَ اَللَّهَ مَخْمُوشًا وَجْهُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ»[16] .
وورد عن الإمام الحسن العسكري : «اِدْفَعِ اَلْمَسْأَلَةَ مَا وَجَدْتَ اَلتَّحَمُّلَ يُمْكِنُكَ»[17] .
إنّ هناك من يستسيغ لنفسه أن يطلب من الآخرين حتى الطلبات الصغيرة، أو الأشياء الكمالية غير المهمّة، وهو خطأ كبير، إنه قد يكون معذورًا لو سأل ما يضطرّ إليه في حياته، ولا يمكنه أن يتحمّل عدم توفره.
ومما ينسب إلى أمير المؤمنين علي :
صُنِ النَفسَ وَاِحمِلها عَلى ما يزيِنُها تَعِش سالِمًا وَالقَولُ فيكَ جَميلُ
وَلا تُرِينَّ الناسَ إِلّا تَجَمُّلًا نَبا بِكَ دَهرٌ أَو جَفاكَ خَليلُ
وَإِنْ ضاقَ رِزقُ اليَومِ فَاِصبِر إِلى غَدٍ عَسى نَكَباتِ الدَهرِ عَنكَ تَزولُ
يَعِزُّ غَنِيُّ النَفسِ إِن قَلَّ مالُهُ ويَغنى غَنِيُّ المالِ وَهوَ ذَليلُ[18] .
إنّ هذه النصوص رسالة شديدة لمن يحترفون المسألة من الناس، لقضاء شؤون حياتهم، وبعضهم يتقاعس عن العمل، أو يطلب ويسأل لكماليات في معيشته، مع إمكانية الصبر والتحمّل.
وحتى في مجال تسيير بعض الأمور، يبحث عن الوجاهات والوساطات لأمور يمكن تحصيلها بشيءٍ من الجهد لكنه يتكاسل عن بذل الجهد.
