دين المحبة ودعاة الكراهية
جاء في الكافي بسند صحيح عَنِ الإمام محمد الباقر : إِنَّ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَتَى النَّبِيَّ ، فَقَالَ لَهُ: أَوْصِنِي، فَكَانَ مِمَّا أَوْصَاهُ: «تَحَبَّبْ إِلَى النَّاسِ يُحِبُّوكَ»[1] .
إنّما جاءت الرسالات الإلهية لهداية الإنسان إلى طريق الخير والصلاح، ولإسعاد حياته، وتنظيم العلاقة السليمة بينه وبين أبناء جنسه.
يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. [سورة الحديد، الآية: 25].
والكتاب هو نصوص الرسالة الإلهية، والميزان هو المعايير والتشريعات الناظمة لحياة الناس، أما الهدف من إنزال الكتاب والميزان فهو أن يقوم الناس بتطبيق القسط وهو العدل.
وتعزيز المحبة والألفة بين الناس، هو الأرضية المساعدة، على تحقيق أهداف الدين في حياة الإنسان.
فلا تسعد حياة الإنسان، ولا تنتظم علاقاته مع الآخرين، في أجواء العداوة والكراهية والخصومة.
إنّ أجواء المحبة والألفة تصنع السعادة والراحة والرضا في نفس الإنسان، حين يكون الحبّ متبادلًا بينه وبين من حوله. بينما يعيش الأذى والانزعاج والعناء النفسي، إذا ساءت علاقته مع بعض من حوله، في أيّ دائرة من دوائر حياته الاجتماعية، في وسط العائلة، أو المدرسة، أو مجال العمل، وفي الفضاء الاجتماعي العام.
والمحبة تهيئ النفوس للتعاون، وإنجاز الأعمال المشتركة، وتبادل الخدمات والمصالح، بينما يتعذّر ذلك في ظلّ حالة الكراهية والعداوة.
كما أنّ المحبة توفر طاقة الإنسان، النفسية والفكرية والعملية للبناء، والفعل الإيجابي، بينما تدفع الكراهية والعداوة لصرف الطاقة في الهدم، والجانب السلبي.
التأكيد الديني على المحبة والأُلفة
من هنا نجد تأكيد النصوص الدينية على المحبة والألفة بين الناس، وأن ينمّي الإنسان المتديّن في نفسه مشاعر المحبة للآخرين، خاصة القريبين منه دينيًّا واجتماعيًّا، ويطهّر قلبه من نزعات الحقد والحسد والعداوة والبغضاء، كما أنّ عليه أن يسعى للاقتراب من الآخرين، والتآلف معهم، واكتساب محبتهم.
جاء في حديث بسند صحيح عن رسول الله : «الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ»[2] .
ولتعدّد النصوص الواردة في الدعوة للمحبة، خُصّص لها باب في بعض كتب الحديث، ففي الكافي باب بعنوان: (باب التحبّب إلى الناس والتودّد إليهم) ج2، ص642، وفي كتاب وسائل الشيعة باب بعنوان: (باب استحباب التحبّب إلى الناس والتودّد إليهم)، ج12، ص51.
ومن النصوص الواردة في هذا السياق، ما جاء بسند صحيح عَنِ الإمام محمد الباقر : إِنَّ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَتَى النَّبِيَّ ، فَقَالَ لَهُ: أَوْصِنِي، فَكَانَ مِمَّا أَوْصَاهُ: «تَحَبَّبْ إِلَى النَّاسِ يُحِبُّوكَ»[3] .
وعنه : «التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ»[4] .
وعنه : «رَأْسُ اَلْعَقْلِ بَعْدَ اَلْإِيمَانِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، اَلتَّحَبُّبُ إِلَى اَلنَّاسِ»[5] .
وعنه : «اَلتَّوَدُّدُ نِصْفُ اَلدِّينِ»[6] .
وعنه : «أَلَا إِنَّ فِي اَلتَّبَاغُضِ اَلْحَالِقَةَ، لاَ أَعْنِي حَالِقَةَ اَلشَّعْرِ، وَلَكِنْ حَالِقَةَ اَلدِّينِ»[7] .
مناشئ الكراهية
إنّ للكراهية والبغضاء مناشئ ثلاثة رئيسة:
أولًا: الأنانية المفرطة التي تنتج مشاعر الكراهية والحسد والحقد، فلا بُدّ من تزكية النفس، وتنمية النزعة الإنسانية في أعماقها، حتى تعمر نفسه بحب الخير للآخرين.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَنْ كَرَّهَ اللَّهُ إِلَيْهِ الشَّرَّ، رَزَقَهُ اللَّهُ مَوَدَّةَ النَّاسِ، وَمُجَامَلَتَهُمْ، وَتَرْكَ مُقَاطَعَةِ النَّاسِ، وَالْخُصُومَاتِ»[8] .
ثانيًا: الانفعالية وردّ الفعل، حيث قد يواجه الإنسان من الآخرين ما يسوؤه، فيكون ذلك سببًا لكراهيته وعداوته لهم، وهذا أمر طبيعي، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، لكن على الإنسان العاقل الواعي، أن يسعى لتجاوز العداوات، والتخلص منها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
عليه أن يُنمّي في نفسه خلق الحلم والإغضاء عن السيئة، وعدم التفاعل معها، ومواجهتها بالصفح والتسامح، إنّ الله تعالى يقول في صفة المؤمنين الصالحين: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾. [سورة الفرقان، الآية: 63]، ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾. [سورة الفرقان، الآية: 72]، ويقول تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [سورة فصلت، الآية: 34] أي أن يضبط انفعالاته، ويحتوي ويستوعب المواقف السلبية من الآخرين، ويبحث عن حلٍّ لأيِّ مشكلة بينية.
ثقافة الكراهية
ثالثًا: المنشأ الثقافي، فهناك ثقافات تدعو إلى الكراهية على أساس الاختلاف العرقي، أو القومي أو الطبقي، أو الديني والفكري، حيث تنبعث في نفس الإنسان الكراهية للآخرين، لمجرّد اختلافه معهم في رأي أو موقف، على الصعيد الفكري والديني والاجتماعي. فيدخل معهم في عداوة وصراع. وهذا سلوك خطأ، لا مبرر له. فالرأي شأن خاص بالإنسان، ولا يصح انكار حقه في ذلك.
وإذا كنت ترى خطأ رأي الآخر، وصحة رأيك، وكان يهمك تغيير رأيه، فإنّ السبيل إلى ذلك هو الحوار والإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن.
يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. [سورة النحل، الآية: 125]،
وهناك نصوص دينية كثيرة توجه الإنسان المؤمن للابتعاد عن معاداة الآخرين وخصومتهم، لمخالفتهم له في رأيه الديني، بل تأمره بالإحسان إليهم.
يقول تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾. [سورة الممتحنة، الآية: 8].
وورد بسند معتبر عن الإمام جعفر الصادق : «لاَ تُخَاصِمُوا اَلنَّاسَ لِدِينِكُمْ فَإِنَّ اَلْمُخَاصَمَةَ مَمْرَضَةٌ لِلْقَلْبِ إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ : ﴿إِنَّكَ لاٰ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلٰكِنَّ اَللّٰهَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ﴾ وَقَالَ: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنّٰاسَ حَتّٰى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾؟ ذَرُوا اَلنَّاسَ فَإِنَّ اَلنَّاسَ أَخَذُوا عَنِ اَلنَّاسِ»[9] .
إنّ العلاقة بين أتباع الأديان المختلفة، يجب أن تقوم على الاحترام المتبادل، ومع فقده تسود حالة التوتر والصراع، وهذا ما لا يريده الدين.
وبالمناسبة يجب أن نرحب ونشيد بالقرار الذي اتخذه البرلمان الدانماركي أمس الخميس 7 ديسمبر، بحظر ("المعاملة غير اللائقة للنصوص ذات الأهمية الدينية الكبيرة لمجتمعات دينية معترف بها" بأغلبية 94 صوتًا مقابل 77 صوتًا معارضًا في البرلمان المؤلف من 179 مقعدًا. وسيؤدي ذلك عمليًّا إلى حظر حرق النصوص الدينية كالقرآن الكريم، أو تمزيقها، أو تدنيسها علنًا، أو في مقاطع فيديو التي يُقصد نشرها على نطاق واسع. ويُعاقب المخالفون بدفع غرامة أو بالسجن لمدة تصل إلى عامين)[10] .
ونأمل أن يصبح هذا القرار موضع تنفيذ، وأن تحدوَ سائر الدول الغربية حدو الدنمارك، لتجاوز الاضطراب والتوتر في المجتمعات المختلفة، بما يؤثر على السلم والاستقرار المجتمعي والعالمي.
دعاة الكراهية في الداخل الديني
ولا يقتصر وجود المشكلة على العلاقة بين أتباع الديانات، بل هي قائمة حتى في الداخل الديني، بين أتباع المذاهب في الدين الواحد، وبين أتباع المذهب الواحد، حينما تختلف مدارسهم أو مرجعياتهم.
إنّ الساحة الدينية تعاني من وجود اتجاهات تنشر الكراهية بين المسلمين، وبين المؤمنين، بسبب الاختلاف في بعض الآراء الدينية. ويعطون لذلك عناوين دينية زائفة، يضلّلون الناس بها، حيث يتّهمون المختلفين معهم في دينهم، ويرمونهم بالابتداع والضلال. مما يسبب الانقسامات والنزاعات بين المؤمنين.
وعلى الإنسان الواعي ألّا يخضع لتأثير هذه الاتجاهات، ويقع في فخ الكراهية والقطيعة والعداوة لإخوانه المؤمنين.
أنموذج من الأزهر
كنت أقرأ في حياة شيخ الأزهر الشيخ مصطفى عبدالرازق[11] (1302-1366هـ/ 1885-1947م) يقول: كنت طالبًا من صغار الطلاب أيام جاء الشيخ محمد عبده[12] إلى الأزهر، وكان أساتذتنا - عفا الله عنهم - لا يفتؤون يذمون لنا الشيخ، ويمثلونه خطرًا على الدين داهمًا، فتتأثر بذلك عقولنا الطفلة، وكنتُ أفرُّ بديني من أن ألقى الأستاذ أو أستمع إلى دروسه، مع أنه كان صديق والدي، وحضرتُ درسه مرة لأشهد كيف تشيه وجوه الملحدين وتشيه معها عقولهم وقلوبهم، فلما رأيت الرجل بالرواق العباسي، وسمعته يفسر كتاب الله: قلت منذ ذلك الوقت: (اللهم إن كان هذا إلحادًا فأنا أول الملحدين، وإن كان رفضًا حبُّ آل محمد فليشهد الثقلان أنّي رافضي).
ولم يترك أيّ فرصة ليسمع من الإمام ويجلس عنده للتتلمذ إلّا كان أول الحاضرين[13] .
أنموذج من قُم
وجاء في خواطر المرجع الديني السيد موسى الزنجاني: كنتُ درستُ في البدايات عند الشيخ المطهّري (1919 - 1979م)[14] ، أتذكرُ عندما توفي والده، تقرّر أن أكتب إليه رسالة تعزية، لكني خاطبته في الرسالة باسم حجة الإسلام فقط؛ بسبب إغواء شخص قال لي: إنّ الشيخ لم يكن قويًّا في ولايته للمعصومين . بعد ذلك عرفت أنّ الرجل أغواني، وأنّ الشيخ من أهل الدرجة العليا في الولاء. ومع ذلك فقد أجاب على رسالتي ولقبّني بحجة الإسلام والمسلمين، مع أنّي درستُ عنده فترة من الزمن، لقد خجلت كثيرًا من ذلك[15] .
بالمناسبة فإنّ الشهيد الشيخ مرتضى مطهّري، الذي له في الساحة العلمية والدينية مكانة كبيرة، لم يكن يتمتع بهذه المكانة في حياته، بل عانى كثيرًا من التعبئة ضدّه في الوسط الديني، لتنفير الناس من الالتفاف حوله، والتأثر بأفكاره الإصلاحية.
وقد كتب المؤرخ الإيراني المعروف الشيخ علي دواني كتابًا بعنوان: (ذكرياتي مع الشهيد مطهري)[16] .
وفي هذا الكتاب أشار إلى الغصص التي تجرّعها الشيخ المطهّري في الوسط الديني، فبعد أن بقي في قم 17 عامًا، كان فيها أستاذًا بارزًا، وعلمًا يشار إليه بالبنان، اضطرّ إلى ترك قم والإقامة في طهران، بسبب تأثير التعبئة ضدّه على المرجعيات الدينية في قُم.
وبعد أن التفّ حوله في طهران جمع كبير من الشباب الجامعيين والمثقفين، وبعض رجال الأعمال، واجهته عاصفة أخرى من الاتّهامات، حاصرته، وأبعدت عنه جموع الملتفّين حوله. يقول الشيخ علي دواني: إنه جاء من قم إلى طهران وقصد المسجد الذي يصلي فيه الشيخ المطهّري جماعة (مسجد الإمام الجواد) وقت صلاة المغرب، فكان عدد المصلين يتراوح بين 17 - 18 مصلٍّ، أكثرهم من عمّال البناء في بناية قرب المسجد، (أقمنا الصلاة جماعة بصفّين قصيرين، أغلب من فيهما من المؤتمّين هم عمّال البناء، وذلك خلف شخص هو أستاذ في جامعة طهران، وعالم بارز، وأستاذ سابق للفقه والفلسفة في الحوزة العلمية في مدينة قم، ومؤلف كتاب "أصول الفلسفة والمذهب الواقعي" الذي كان له ذلك الصدى الواسع في داخل البلد وخارجه)[17] .
تنقية الأجواء الدينية من نزعات الكراهية
إنّ من أولى مهام المؤمنين الواعين، تنقية الأجواء الدينية من نزعات الكراهية والأحقاد والخصومات، وإشاعة المحبة والألفة، وتعزيز أخلاق الاحترام المتبادل، وحسن الظنّ، وإدارة اختلاف الرأي بالحوار، وإتاحة الفرصة لكلّ طرف أن يقدّم أدلته وبراهينه.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «صَدَقَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ، إِصْلَاحٌ بَيْنِ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا وَتَقَارُبٌ بَيْنِهِمْ إِذَا تَبَاعَدُوا»[18] .
وعلى الإنسان ألّا يكون إمّعة، يتبع الآخرين دون تأمّل وبحث، ولا يتسرّع في كراهة وعداء أحد من المؤمنين، وألّا يكون شريكًا في تهميش ومحاصرة المصلحين، بتأثير التعبئة المضادة من المخالفين لهم في الرأي والموقف.