حماية الانسجام الاجتماعي
يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. [سورة الحجرات، الآية: 10].
من أهم أغراض الدين، صنع العلاقات الطيّبة، وتعزيزها بين أبناء المجتمع الإنساني، ليعيش الناس فيما بينهم أعلى درجة ممكنة من الوئام والانسجام.
ولتحقيق هذا الغرض اعتمد الدين عددًا من البرامج، نذكر منها:
أولًا: تزكية النفوس وتهذيبها، بتنمية المشاعر الإيجابية تجاه الآخرين، كالعدل والإنصاف والمحبّة والإحسان، وكبح المشاعر السلبية، كالكراهية والحسد والحقد.
ثانيًا: وضع التشريعات والتعاليم التي تحدّد الحقوق والواجبات في التعامل بين الناس، على مختلف المستويات، وفي جميع المجالات، حتى يعرف كلُّ واحدٍ ما له وما عليه تجاه الطرف الآخر، وإذا حصل أيّ اختلاف يكون الاحتكام لهذه الحدود المقرّرة شرعًا، عبر التوافق أو التقاضي.
ثالثًا: التأكيد على المسؤولية الاجتماعية في حماية الانسجام الاجتماعي، وهو موضوع حديثنا.
المسؤولية الاجتماعية
يعتمد الدين نهج الواقعية في معالجته لقضايا الحياة الإنسانية، فالمشرّع الحكيم، وهو الله سبحانه وتعالى، يعرف الطبيعة البشرية المستهدفة لتشريعات الدين، وأنّها تنطوي على مكامن ضعف، كما تتميّز بنقاط قوة، فمهما كانت درجة الإيمان والوعي والالتزام الأخلاقي في أيّ مجتمع، وفي شخصية أيّ فرد، إلّا أنّ غير المعصوم يصدر منه الخطأ، فالمجتمع البشري ليس مجتمعًا مثاليًّا ملائكيًّا، لذلك من المتوقع حصول خلافات ونزاعات وخصومات في أوساط أيّ مجتمع.
لكنّها إذا حصلت لا يصح تجاهلها والسُّكوت عليها؛ لأنّ آثارها وأضرارها سوف لا تقتصر على دائرة المتورّطين فيها، فقد تتسع، وتكون لها تبعات على مساحة واسعة من المجتمع، مما يُهدّد حالة الانسجام والتآلف، ويصيب المجتمع بداء التشتت والانقسامات.
إصلاح ذات البين واجب ديني
لذلك يؤكد الدين على دور إصلاح ذات البين، فهو فريضة واجبة على نحو الوجوب الكفائي، لا بُدّ وأن يتصدّى لكلّ نزاع وخلاف في المجتمع، من يسعى لإصلاح ذات البين، وإلّا فالإثم يطال الجميع.
فكما يهرع الناس حينما يشبُّ أيّ حريق في محيطهم من أجل تطويقه وإطفائه. وذلك لأنّهم يدركون مخاطر الحرائق، من تلف أرواح، وخسائر ممتلكات، ولأنّهم يخشون من امتداد الحريق، باستمرار اشتعال النار، فهي تبدأ من نقطة ما، لكنّها لا تقف عندها، بل تلتهم ما حولها، وتزداد اتقادًا واشتعالًا، وتقول هل من مزيد.
ولأنّ الناس يقدِّرون حاجة بعضهم إلى بعض في هذه المواقف الخطيرة، حيث لا يتمكن صاحب المحلّ الذي اندلع فيه الحريق من مقاومته وإخماده بمفرده. كذلك يجب أن يكون موقفهم تجاه الحرائق الاجتماعية.
وهذا ما يظهر من الآيات القرآنية التي تتحدّث عن إصلاح ذات البين.
الخطاب القرآني
يقول تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾. [سورة الحجرات، الآية: 9].
إنه أمر وخطاب موجّه للجميع، إذا حصل اقتتال بين فئتين من المؤمنين، وهو أمر وارد ومتوقع ضمن الطبيعة البشرية حتى في مجتمع المؤمنين، والآية تتحدّث هنا عن الحدّ الأعلى للنزاع، وهو الاقتتال، لكنّ الأمر بالصلح ليس محصورًا ببلوغ النزاع إلى حدّ الاقتتال، بل يشمل أيَّ مستوًى من مستويات النزاع.
عندما يحصل نزاع بين جهتين أو فئتين من المجتمع، فإنّ واجب الآخرين هو التدخل للإصلاح: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ ولا يجوز التفرج والسكوت.
وفي الآية التي بعدها، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. [سورة الحجرات، الآية: 10].
فكلا الطرفين أخوة لكم؛ لأنّ المؤمنين تشدّهم رابطة الأخوة الإيمانية، ولا يصح لك أن تنحاز إلى أحد الطرفين ضدّ الآخر على حساب السعي للإصلاح.
ويأتي الأمر بتقوى الله، فعدم السعي للإصلاح مخالف لتقوى الله، وإصلاح ذات البين يجعل المجتمع أقرب إلى رحمة الله.
وفي بداية سورة الأنفال يقول تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾. [سورة الأنفال، الآية: 1].
أفضل من التطوع بالعبادة
إنّ المبادرة إلى إصلاح ذات البين من أفضل ما يتقرّب به إلى الله، ويفوق فضله فضل التطوع بالصلاة والصيام والصدقة.
جاء في وصية أمير المؤمنين علي 
لولديه الحسنين عند وفاته: «أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اَللَّهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا 
يَقُولُ: صَلاَحُ ذَاتِ اَلْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ اَلصَّلاَةِ وَاَلصِّيَامِ»[1] .
وورد عن النبي : «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ»[2] .
وعنه : أنه قال لأبي أيوب الأنصاري: «يَا أَبَا أَيُّوبَ، أَلا أَدُلُّكَ عَلَى صَدَقَةٍ يَرْضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْضِعَهَا؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «تُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا»[3] .
ويمكن الحديث عن ثلاثة مجالات لإصلاح ذات البين:
الأول: المصالحة بين الأفراد
كثيرًا ما تحصل خلافات بين الأفراد، بسبب تضارب المصالح، أو اختلاف الرأي، أو وقوع سوء تصرّف بقول أو فعل. ومعظم الخلافات قد تكون لأسباب وهمية كسوء الظنّ، أو النقولات المغرضة، وقد تكون لأسباب تافهة.
فلا بُدّ من مبادرات تساعد الطرفين على تجاوز الخلاف، ويستدعي الأمر صرف شيءٍ من الجهد والوقت، بل قد تقتضي صرف شيءٍ من المال، فلا ينبغي البخل أو التقاعس عن القيام بواجب الإصلاح.
وردعن ابن سنان عن مفضّل قال: قال أبوعبدالله [الإمام جعفر الصادق] : «إِذَا رَأَيْتَ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْ شِيعَتِنَا مُنَازَعَةً فَافْتَدِهَا مِنْ مَالِي»[4] .
الثاني: الإصلاح في الخلافات الأسرية
يقول تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾. [سورة النساء، الآية: 35].
وقد ذهب جمعٌ من العلماء إلى أنّ الآية الكريمة تأخذ طابع الوجوب، أي إنّها توجب على المجتمع التدخل لمعالجة الخلاف بين الزوجين، ورفض موقف عدم المبالاة منه، ومردّ ذلك إلى الآثار السلبية التي يمكن أن يتركها هذا الخلاف، فالزوجان عضوان في المجتمع، والخلاف بينهما ينعكس سلبًا على نفسيتيهما وسلوكهما وإنتاجهما، كما يمكن أن يؤثر على تنشئة الأبناء، إضافة إلى إمكانية امتداد الخلاف إلى أُسرتي الزوجين، ناهيك عمّا يمكن أن يتركه من أثر سلبي على الأمن الأخلاقي للمجتمع، نتيجة التفكك الأسري، وانعكاس ذلك على السلوك الأخلاقي العام للزوجين.
لذلك لا يقبل الشرع أن يبقى المجتمع ساكتًا عن المشاكل الزوجية متفرّجًا عليها. والسبيل إلى المعالجة هو ما تقترحه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّـهُ بَيْنَهُمَا﴾، وقد ذهب مفسّرون إلى القول إنّ الأمر ﴿فَابْعَثُوا﴾ منوطٌ بالحاكم الشرعي، فيما ذهب مفسّرون آخرون إلى اعتبار ذلك واجبًا كفائيًّا على الواعين من أبناء المجتمع، في حين قال آخرون بأنّ مسؤولية ذلك تقع على عائلتي الزوجين.
ويستلزم القيام بهذه المهمّة إنشاء مؤسسات تعنى بهذا الشأن الأسري الاجتماعي، كمراكز الإرشاد الأسري، وجمعيات التنمية الأسرية.
الثالث: الإصلاح بين الفئات والقيادات الاجتماعية
إنّ الخلافات في هذا المجال من أشدّ الخلافات ضررًا على المجتمع، وتأثيرًا على انسجامه وأُلفته، خاصة إذا أخذت عنوانًا دينيًّا.
من هنا يكون التصدّي لها ومحاصرتها أكثر أهمية، وأشدّ وجوبًا، وثواب السعي لمعالجتها أعظم عند الله تعالى، ومن المؤسف قلّة الاهتمام بها والتصدّي لمعالجتها. لذلك تنمو وتتصاعد الخلافات والنزاعات في أوساط المؤمنين، بسبب ما يحدث من سوء تفاهم، أو سوء فهم، أو سوء تصرّف بين القيادات الدينية والاجتماعية.
بينما لو كان هناك تصدٍّ للتطويق وإصلاح ذات البين، لأمكن تلافي كثير من الخلافات أو تحجيمها.
أنموذج للاقتداء
وأذكر هنا بالمناسبة أنموذجًا للقيام بدور إصلاح ذات البين على هذا الصعيد، وتأثيره الإيجابي في البيئة التي حصل فيها.
يذكر الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي رحمه الله، في سيرة أبيه الفقيه الميزرا محسن الفضلي (1309-1409هـ) الذي كان مقيمًا في البصرة، أنه حصلت هناك مشكلة كبيرة بين المؤمنين، بدأت من الكويت، وامتدّت إلى البصرة، بين عالمين كان لهما نفوذ وتأثير في المنطقتين، هما المرجع الديني الشيخ حبيب بن قرين الأحسائي (توفي 1363هـ) الذي كان مقيمًا في الكويت ثم انتقل إلى البصرة، والعالم البارز السيد مهدي القزويني (متوفى 1358هـ) الذي كان مقيمًا في الكويت ثم انتقل إلى البصرة أيضًا.
حيث وصلت للسيد القزويني معلومات تفيد بأنّ الشيخ حبيب بن قرين يرى بعض مقولات الغلو في أهل البيت ، فاتخذ موقفًا شديدًا ضدّه، وألف كتابًا عنوانه: (بوار الغالين) طبع سنة 1332هـ.
الشيخ ابن قرين لم يكتب ردًّا، ولم يتخذ موقفًا مضادًا، بل اعتصم بالصمت إخمادًا للفتنة، وحفاظًا على الوحدة. لكنّ الأجواء الاجتماعية في البصرة تضخم فيها موقف الخلاف. فتحرك الشيخ الميرزا محسن الفضلي لإصلاح ذات البين، وأخذ معه أحد العلماء، وأحد الشخصيات الاجتماعية، وذهب لزيارة السيد القزويني، وتناقش معه في موضوع الخلاف، وسأله: ما الذي تأخذه على الشيخ ابن قرين؟ قال: اعتقاده نهج الغلوّ. قال: لو أثبتنا لك بالوثائق المصدّقة أنّ اعتقاده لا يختلف عن اعتقادنا، ماذا سيكون موقفك؟ قال: تنحلّ المشكلة.
فاشهد ممن معه على المحضر، ثم ذهبوا إلى الشيخ ابن قرين، وفاتحه بموضوع المصالحة مع السيد القزويني، فرحّب بذلك مستبشرًا. فطلب منه أن يكتب معتقده بخطه ويختمه بختمه، فاستجاب لذلك.
وعادوا بالجواب وثيقة مدونة إلى السيد القزويني، فتراجع عن موقفه، وصعد المنبر يوم الجمعة، وطرح الموضوع، ومدح الشيخ ابن قرين، ومما قاله: (لو كان هناك إمام ثالث عشر معصومًا لقلت إنه الشيخ ابن قرين).
ثم جمعهما الشيخ الفضلي في مجلسه، ثم أقام لكلٍّ منهما للآخر وليمة كبرى في داره، وتم الصلح، وعاد الوئام والانسجام بين المؤمنين هناك[5] .
إنّ هذه القصة تؤكد أهمية المبادرة لاحتواء الخلافات الدينية والاجتماعية، كما تظهر أثر المرونة والاستجابة عند طرفي الخلاف لتجاوز المشكلة.
