مشكلة الإنسان مع أخيه الإنسان
يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿٢٧﴾ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٨﴾ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴿٢٩﴾ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. [سورة المائدة، الآيات: 27-30].
غريزة حبّ الذات تدفع الإنسان لحماية نفسه من الأخطار، وللسعي لنيل المكاسب والمصالح، مما يؤدي به إلى استنهاض قدراته وطاقاته، وتحقيق الهدف الإلهي من وجوده وهو الخلافة في الأرض وإعمارها.
لكنّ إطلاق العنان لغريزة حبّ الذات، يؤدي إلى التصادم بين بني الإنسان، حيث يتنازعون على تحصيل المكاسب والمصالح، ويعتدي بعضهم على بعض.
من هنا كانت حاجة البشرية إلى القيم الإيمانية والأخلاقية، لكبح جماح حبّ الذات في نفوسهم، وترشيده في سلوكهم، لينضبط حبّ الذات باحترام حقّ الآخر من أبناء جنسهم.
وكلّما تجذّرت القيم الإيمانية والأخلاقية في نفس الإنسان، كان أبعد عن ظلم أخيه الإنسان، والاعتداء عليه، أما حين ينحسر التزام الإنسان بالقيم، فإنّ رغباته الأنانية تدفعه إلى العدوان على الآخرين.
أول جريمة قتل
يأمر الله نبيّه محمدًا 
أن يتحدّث للناس عن أول قصة ظلم وعدوان مارسه الإنسان ضدّ أخيه الإنسان، في بداية تاريخ البشر على وجه الأرض. إنّها أول جريمة قتل بين بني البشر.
يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾ أي اقرأ عليهم. ﴿نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ﴾ أي خبرهما.
ولآدم عدد من الأبناء، لكنّ حادثة وقعت بين اثنين من ولده تستحقّ أن تذكر؛ لأنّها تقدّم درسًا وعبرة، وتسلّط الضوء على مشكلة الإنسان في علاقته مع أخيه الإنسان، وهي مشكلة فرط الأنانية التي تدفع إلى العدوان. والجرأة على إنهاء حياة الآخر.
والآية لم تذكر اسمهما، لكنّ الروايات تذكر أنّهما هابيل وقابيل، وفي العهد القديم (التوراة) هابيل وقايين؛ لأنّ المهم في القصة أنّها تحكي عن نموذجين في السلوك والتعامل، نموذج ينطلق من الالتزام بالقيم، ونموذج ينطلق من الأنانية المفرطة المتمرّدة على القيم.
وقراءة هذا الخبر على الناس ليس من أجل التسلية والاستمتاع بقصة تاريخية، مملحة ببعض الأساطير والإضافات غير الصحيحة، كما هو الحال في نقل وتداول كثير من أحداث التاريخ، وإنّما لتقرير حقيقة، وتعزيز مبدأ الحقّ في النفوس، ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾.
عمل عبادي أدّى لجريمة القتل
والقصة تتلخص في أنهما ﴿قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ يعني قدّم كلٌّ منهما عطاءً يتقرّب به إلى الله، ولم تذكر الآية نوعية ما تقدّما به من قربان؛ لعدم أهمية هذا التفصيل أيضًا، لكنّ الروايات ذكرت أنّ أحدهما، وهو هابيل، كان يملك أنعامًا وماشية فقدّم كبشًا، والآخر، وهو قابيل، يمتلك زرعًا، فقدّم شيئًا من ثمر زرعه.
ولأنّ الهدف هو القربة إلى الله، فإنّ المهم هو قبول الله تعالى لهذا القربان، لكن ما حصل أنّ الله تقبل قربان أحدهما، ولم يتقبّل من الآخر، لماذا؟ هل لأنّ أحدهما أجمل من الآخر؟ أم لأنه أكبر أو أصغر؟ أو لأنّ هناك مصلحة لله في هذا القربان أو ذاك؟ كلّا.
وإنّما لأنّ أحدهما كان صادقًا في نية تقربه إلى الله تعالى، وكان يعيش تقوى الله في داخل نفسه، أما الآخر فقدّم قربانه بدافع المنافسة والتظاهر والتباهي، ولم تكن نفسه عامرة بتقوى الله.
وجاء في رواية أنّ هابيل اختار أسمن كبش في ماشيته قربانًا له، بينما قدّم قابيل أخسّ ما في مزرعته قربانًا[1] .
ومن الطبيعي أنه ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. فليس المهم عند الله الصورة الظاهرة، وإنّما داخل النفس.
ولكن كيف ظهر أنّ الله تعالى تقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل؟
هناك احتمالان: الأول: الوحي وإخبار الله تعالى لآدم.
الثاني: ما ذكرته بعض الروايات أنّ علامة القبول كانت نزول نار أو صاعقة نارية تحرق القربان، وهو مستوحى من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾. [سورة آل عمران، الآية: 183]
اشتدّ غضب قابيل لأنّ الله لم يتقبّل قربانه، وصب جام غضبه على أخيه هابيل تهديدًا وإرعابًا، ولم يكن لأخيه هابيل ذنب، ولم تصدر منه أيّ إساءة له تستوجب غضبه وتهديده، فقبول القربان أو عدم قبوله قرار إلهي، وسبب القبول يعود إلى الإنسان نفسه، فبإمكانه أن يجعل عمله مقبولًا عند الله إذا ما اتقى الله وأخلص له عمله، وذلك ما حقّقه هابيل، ولم يحرص عليه قابيل.
موقفان متغايران
وبدل أن يراجع قابيل نفسه، ويعالج نقطة ضعفه، بالتوبة إلى الله، وإخلاص النية له، فكر في الانتقام من أخيه هابيل، ﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾، إنه الحسد الذي يجعل الحاسد كارهًا لوجود متفوق عليه ماديًا أو معنويًا، وبدل أن يفكر في المنافسة الإيجابية، يسعى للتخلص من وجود المتميّز عليه، بتصفيته جسديًّا أو اغتيال شخصيته المعنوية.
لم يواجه هابيل التهديد بتهديد مقابل، بل أرشد أخاه إلى أن يراجع نفسه في علاقته مع الله، ذلك أنه ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.
أما ردّه على التهديد بالقتل، فقد كان إعلانه المسالمة، ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.
ليس المانع خوفي منك، ولا ضعفي أمام قوتك، ولا عجزي عن قتلك، وإنّما لأنّي أخاف الله ربّ العالمين، ولا تعني الآية أنه استسلم له ليقتله، فهي تتحدّث عن مرحلة التهديد، ولا تدلّ على أنّ القتل كان فوريًّا عند التهديد.
هنا تتجلّى ثمرة التقوى، وهي الخوف من الله الذي يردع الإنسان عن الظلم والعدوان.
ورد عن الإمام الحسين 
: «لاَ يَأْمَنُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ خَافَ اَللَّهَ فِي اَلدُّنْيَا»[2] .
ثم يعظ هابيل أخاه ليردعه عن الإقدام على جريمة القتل: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾.
النفس الأمارة بالسوء
ويبدو أنّ صراعًا دار في داخل نفس قابيل، وانطلق صوت من ضميره ووجدانه لتحذيره من فداحة ما يريد الإقدام عليه، لكنّ نفسه الأمارة بالسوء، والطافحة بالحسد، أسكتت صوت ضميره، ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
والتطويع لا يطلق إلّا مع وجود شيءٍ من الصلابة والممانعة. وقد تكون بمعنى التيسير والتسهيل على المستوى النفسي.
وبعد أن قتل أخاه تورط بجثمانه، ماذا يفعل به؟ ويحتمل بعض المفسّرين استظهارًا من روايات، أنّها كانت أول حادثة موت لأحدٍ من البشر، ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ﴾، أي يحفر في الأرض، كأنه يطلب شيئًا في داخلها، ثم يطمر ما حفر بالتراب، وورد في بعض الروايات أنّ غرابين اقتتلا أمامه، فأردى أحدهما الآخر، ثم حفر له بمنقاره وبرجله، وألقاه في الحفيرة وواراه.
فتعلّم قابيل منه هذه الطريقة، وشعر في نفسه بالخجل لجهله مقارنة بخبرة الغراب، ﴿قَالَ يَا وَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾. [سورة المائدة، الآية: 31].
أدرك متأخرًا فداحة ما أقدم عليه، وندم لشعوره بالعار ووقوعه في الخسران.
استلهام العبر والدروس
1/ إنّ الهدف من هذه القصة، هو تسليط الضوء على أهم تحدٍّ يواجهه الإنسان في حياته الاجتماعية، وهو علاقته مع أخيه الإنسان، التي تتراوح بين مسارين، مسار هيمنة الروح المصلحية الأنانية، ومسار الانطلاق من قيم عليا دينية وأخلاقية، وقد مثّل قابيل المسار الأول، فقاده حسده لقتل أخيه، بينما مثل هابيل المسار الآخر، حيث منعه خوفه من الله عن التفكير في قتل أخيه.
2/ يفترض أنّ رابطة الرحم والنسب تعزّز حالة المودة والتواصل، وتمنع حصول الإساءة والعدوان، خاصة بين أخوين منحدرين من أبٍ واحدٍ وأم واحدة، ونشأا في كنف واحد، وتلقيا تربية صالحة من آدم . لكنّ النفس الأمارة بالسوء دفعت قابيل لهتك كلّ تلك الحرمات، وقتل أخيه المسالم.
إنّ عرض هذه الحادثة يستهدف التحذير من الوقوع في هذا الجرم الفظيع، وكأنّ الله تعالى يخاطب كلّ إنسان، احذر أن تكون مثل قابيل مؤذيًا لأحدٍ من إخوتك، أو معتديًا عليه بأيِّ شكلٍ من أشكال العدوان.
والاغتيال المعنوي لا يقلّ فظاعة عن التصفية الجسمية.
ومن المؤسف أن نجد حدوث هذا السلوك القابيلي بين إخوة مؤمنين، أشقاء أو غير أشقاء، وغالبًا ما يكون الاختلاف والتنازع في الإرث سببًا للعدوان وانتهاك الحرمات بين الأخوة والأخوات.
3/ تشير قصة ابني آدم ، إلى أنّ العمل الديني والعبادي يمكن أن يتحول بسبب الأغراض المصلحية والروح الأنانية، إلى سبب ومبرر للنزاع والعدوان، فهما قد ﴿قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ وهو شأن عبادي، واشتعل الحسد في نفس قابيل؛ لأنّ أخاه هابيل حقّق مكسبًا معنويًّا، حيث تقبّل الله منه، إنّ الحسد كما يكون تجاه المكاسب المادية، يكون كذلك تجاه المكاسب المعنوية، وهو من أسوأ أنواع الحسد؛ لأنه يشوّه ويلوّث الأجواء الدينية والمعنوية.
نزاعات في الوسط الديني
ويشير القرآن الكريم في عدد من آياته، إلى أنّ حصول الاختلافات في الوسط الديني هو بسبب البغي بين حملة الدين.
يقول تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾. [سورة البقرة، الآية: 213]
ويقول تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾. [سورة آل عمران، الآية: 19]
يقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان: (إنه تعالى يخبرنا أنّ الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين وإنّما أوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغيًا بينهم وظلمًا وعتوًّا)[3] .
وقد يحسد عالم دين عالمًا آخر لأنه حقّق مستوى علميًّا أرقى منه، أو كسب ثقة والتفافًا اجتماعيًا أوسع منه.
ورد عن الإمام علي : «إِنَّ اَللَّهَ يُعَذِّبُ سِتَّةً بِسِتَّةٍ ... وَاَلْفُقَهَاءَ بِالْحَسَدِ»[4] .
وقد يحصل تنافس غير شريف بين ذوي الاهتمامات والمؤسسات الدينية المختلفة، كالمساجد والحسسينيات وسائر البرامج والأنشطة الدينية.
وفي قصة ابني آدم تحذير واضح من هذا المنحدر الخطير.
