مواجهة الغلو والغلاة في نهج الإمام الصادق (ع)
قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾. [سورة المائدة، الآية: 17].
الغلو لغة، هو: الارتفاع وتجاوز الحدّ، ومن هذا المعنى اللغوي يطلق على ارتفاع الأسعار غلاءً، أي زيادة عن حدّها المتعارف. ويقال: غلى الماء، بمعنى تجاوز حدّه قبل الغليان وارتفع وطما.
وفي الاصطلاح، يقصد من الغلو: التشدّد في أيّ موضوع ديني، بما يتجاوز الحدّ الذي قرّره الدين، والاعتقاد في أشخاص بما يتجاوز بهم حدّ العبودية، ويرفعهم إلى مقام الألوهية.
يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾. [سورة المائدة، الآية: 77].
الغلوّ في الأمم السابقة
الغلوّ في الأشخاص كالأنبياء والأئمة والأولياء، ظاهرة عانت منها الرسالات السماوية السابقة، كاليهودية والنصرانية، وهذا ما تتحدّث عنه الآية الكريمة: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾. [سورة المائدة، الآية: 17] حيث يقولون: ربنا يسوع المسيح، ويعتقدون بالتثليث، الأب والابن والروح القدس، (الأقانيم الثلاثة)، وقد ردّ القرآن الكريم عليهم بقوله: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ﴾. [سورة المائدة، الآية: 73].
إنه غلوٌّ ورفع لعيسى لمقام الألوهية، وتجاوز لحدّ العبودية. وربما برروا ذلك بتميز شخصية عيسى أنه ولد من دون أب، ولكنّ آدم قبله قد خلق من دون أب وأم.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾. [سورة آل عمران، الآية: 59].
وربما برروا ذلك بما ظهر على يده من معجزات، كنفخ روح الحياة، وكإحياء الموتى، وشفاء الأمراض المزمنة، ولكنها لم تكن بقدرته الذاتية، وإنّما بإقدار الله تعالى له على ذلك، وهو ما صرح به عيسى لهم.
يقول تعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. [سورة آل عمران، الآية: 49].
فالنبي يقوم بالعمل الإعجازي بإذن الله، حين يقتضي الأمر ذلك لإثبات صدق رسالته، ولا يحترف القيام بالأعمال الاعجازية دائمًا أبدًا.
فنبي الله موسى أمره الله أن يلقي عصاه لتأكل ما يأفك السحرة، ولكنها بعد ذلك عادت عصى طبيعية يتوكأ عليها، ويهشّ بها على غنمه.
يقول تعالى: ﴿قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ ﴿١٩﴾ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ ﴿٢٠﴾ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ﴾. [سورة طه، الآيات: 19-21].
وكذلك إنّ نبي الله عيسى ، لم يكن جالسًا على باب المقبرة ليحيي كلّ ميت يؤتى به ليدفن، ولم يفتح عيادة ليشفي كلّ المرضى، ولكنه كان يفعل ذلك حين يأذن الله تعالى له به، لإثبات صدق نبوته.
وللتأكيد على انعدام القدرة الذاتية للنبي عيسى عن التصرف الإعجازي، لولا إقدار الله تعالى له، تشير الآية الكريمة إلى أنه لا يستطيع دفع الهلاك والفناء عن نفسه.
يقول تعالى: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾. [سورة المائدة، الآية: 17].
وقد تحدّث القرآن الكريم في عددٍ من آياته ضدّ ما حصل من غلوٍّ في الأمم السابقة، ليحذّر المسلمين من الوقوع في مثله، لذلك وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة يتحدّث فيها النبي عن عبوديته وخضوعه لله تعالى، وأنه بشر محدود القدرات، إلّا فيما يأذن الله له به من معجزات.
يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ﴾. [سورة الكهف، الآية: 110].
ويقول تعالى: ﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾. [سورة الأعراف، الآية: 188].
ويقول تعالى: ﴿قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ﴾. [الأنعام، الآية: 50].
الغلو في أئمة أهل البيت
لكنّ ما حذّر القرآن المسلمين منه وقع فيه بعضهم، حيث نشأت بعض تيارات الغلوّ والفرق المغالية، في مختلف مذاهب المسلمين، وتركزت تيارات الغلوّ أكثر حول أئمة أهل البيت . وذلك لعدّة أسباب:
1/ تميّز شخصيات الأئمة بقدرات وكفاءات استثنائية، في علمهم وفضلهم وأخلاقهم، مما أوجب الانبهار بهم، إلى حدّ الغلوّ عند بعض الجاهلين والمغرضين.
إنّ شخصية كعلي بن أبي طالب ، الاستثنائية المتميزة، من الطبيعي أن تستقطب الأنظار وتخلق الانبهار، كما تغيظ الحاسدين، لذلك ورد عن النبي : أنه قال مخاطبًا عليًّا: «يَا عَلِيُّ إِنَّمَا مَثَلُكَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ كَمَثَلِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، أَحَبَّهُ قَوْمٌ فَأَفْرَطُوا فِي حُبِّهِ فَهَلَكُوا، وَأَبْغَضَهُ قَوْمٌ وَأَفْرَطُوا فِي بُغْضِهِ فَهَلَكُوا، وَاقْتَصَدَ فِيهِ قَوْمٌ فَنَجَوْا»[1] .
وفي حديث آخر عن جابر بن عبدالله: لَمّا قَدِمَ عَلِيٌّ عليه السلام عَلى رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله بِفَتحِ خَيبَرَ، قالَ لَهُ رَسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله: «لَولا أن تَقولَ فيكَ طَوائِفُ مِن اُمَّتي ما قالَتِ النَّصارى لِلمَسيحِ عيسَى بنِ مَريَمَ، لَقُلتُ فيكَ اليَومَ قَولًا لا تَمُرُّ بِمَلَأٍ إلّا أخَذُوا التُّرابَ مِن تَحتَ رِجلَيكَ ومِن فَضلِ طَهورِكَ يَستَشفُونَ بِهِ! ولكِن حَسبُكَ أن تَكونَ مِنّي وأنَا مِنكَ»[2] .
وأشار إلى هذه الحقيقة أحد الباحثين السعوديين من القصيم الأستاذ محمد بن علي المحمود، في مقال له نشرته جريدة الرياض، يقول فيه: (الغلوُّ في علي - رضي الله عنه - ظهر منذ القدم. وكما قلت من قبل في مقالي عن المسيح - عليه السلام - إنّ الغلوَّ فيه لم يكن بمعزل عن الصفات الشخصية التي تفرد بها، من حيث كونها صفات استثنائية، تستقطب الانبهار الشديد، ومن ثم الغلو، وكذلك الحال في علي - رضي الله عنه -. إنّ الغلو في شخصية معتبرة تاريخيًّا، لا ينبع من فراغ، خاصة إذا كانت الشخصية لا تنشد بسلوكها القولي والعملي الغلوّ ولا تطلبه، بل ترفضه وتأباه في حقّها.
وليس الانبهار والإعجاب مصدره السابقة في الإسلام، إذ يشاركه غيره في هذا، ولا لمجرد القرابة، فغيره أقرب، ولا للمصاهرة فغيره صاهر، ولا للبلاء فغيره أبلى، ولا للخلافة فغيره تولاها.. إلخ. وإنّما لصفات عديدة، تنطبع بها هذه الشخصية، ولا يملك المرء إزاءها إلّا أن يؤخذ بها، سواء استطاع تفسيرها أو لم يستطع ذلك، بأن قد يكون ما يستعصي على التفسير والتعليل هو الأدعى للانبهار والإعجاب)[3] .
2/ ردّ الفعل للانتقاص من مقام الأئمة من قبل أعدائهم، والظلم والحيف الذي وقع عليهم، أثار أحاسيس التعاطف معهم، وأدى بالبعض إلى المبالغة والغلو فيهم.
3/ محاولات التشويه لصورة الأئمة من طرف أعدائهم، بتشجيع الاتجاهات المغالية والمنحرفة في أوساط الموالين لهم.
ورد في رواية معتبرة لإبراهيم ابن أبي محمود عن الإمام علي بن موسى الرضا : «إنَّ مُخالِفينا وَضَعوا أخبارًا في فَضائِلِنا وجَعَلوها عَلى ثَلاثَةِ أقسامٍ: أحَدُهَا الغُلُوُّ، وثانيهَا التَّقصيرُ في أمرِنا، وثالِثُهَا التَّصريحُ بِمَثالِبِ أعدائِنا»[4] .
4/ دور المصلحيين والانتهازيين الذين أرادوا استغلال انجذاب المحبين للأئمة، وعميق تعاطفهم مع شخصياتهم، فصنعوا اتجاهات الغلوّ مزايدة، ليستقطبوا المحبّين للأئمة، وتكون لهم الزعامة عليهم.
لهذه الأسباب ولغيرها نشأت فرق الغلوّ، وتكاثرت في الأجواء المحيطة بأهل البيت ، وسببت للأئمة الأذى كثيرًا في نفوسهم، وإرباكًا في أوساط الموالين لهم، وأصبحت ورقة بيد أعدائهم.
وقد تصدّى الأئمة لهذه الظاهرة بدءًا من أمير المؤمنين علي ، الذي ورد عنه أنه قال: «هَلَكَ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَالٍ، وَمُبْغِضٌ قَالٍ»[5] .
وورد أنه اتخذ إجراءً قاسيًا بحقّ المغالين إذ أحرقهم بالنار، عندما رفضوا التوبة وأصروا على القول بتأليهه.
الإمام الصادق في مواجهة الغلوّ والغلاة
وفي عهد الإمام الصادق تكاثرت وتناسلت فرق الغلاة، فبلغت أكثر من عشرين فرقة، تذكرها كتب الفرق. وذلك بسبب أجواء الحرية النسبية أواخر عهد الأمويين وبداية عهد العباسيين، ولإقبال جمهور الأمة على أهل البيت ، حتى إنّ شعار العباسيين في ثورتهم كان (إلى الرضا من آل محمد)[6] .
واهتمّ الإمام الصادق بمواجهة الغلوّ والغلاة، وورد عنه روايات كثيرة في هذا الشأن، كما جاء في سيرته مواقف عديدة ضدّهم.
1/ فقد حذّر شيعته منهم، وأمرهم باجتنابهم ومقاطعتهم.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ: أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «أَدْنَى مَا يَخْرُجُ بِهِ اَلرَّجُلُ مِنَ اَلْإِيمَانِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى غَالٍ فَيَسْتَمِعَ إِلَى حَدِيثِهِ وَ يُصَدِّقَهُ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ قَالَ: صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لاَ نَصِيبَ لَهُمَا فِي اَلْإِسْلاَمِ: اَلْغُلاَةُ وَاَلْقَدَرِيَّةُ»[7] .
وعَنِ اَلْمُفَضَّلِ بْنِ مَزْيَدٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وَذَكَرَ أَصْحَابَ أَبِي اَلْخَطَّابِ وَاَلْغُلاَةَ، فَقَالَ لِي: «يَا مُفَضَّلُ، لاَ تُقَاعِدُوهُمْ وَلاَ تُؤَاكِلُوهُمْ وَلاَ تُشَارِبُوهُمْ وَلاَ تُصَافِحُوهُمْ وَلاَ تُوَارِثُوهُمْ»[8] .
وعَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): وَذَكَرَ اَلْغُلاَةَ، فَقَالَ: «إِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَكْذِبُ حَتَّى إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَيَحْتَاجُ إِلَى كَذِبِهِ»[9] .
وعنه : «اِحْذَرُوا عَلَى شَبَابِكُمْ اَلْغُلاَةَ لاَ يُفْسِدُونَهُمْ، فَإِنَّ اَلْغُلاَةَ شَرُّ خَلْقِ اَللَّهِ، يُصَغِّرُونَ عَظَمَةَ اَللَّهِ، وَيَدَّعُونَ اَلرُّبُوبِيَّةَ لِعِبَادِ اَللَّهِ، وَاَللَّهِ إِنَّ اَلْغُلاَةَ شَرٌّ مِنَ اَلْيَهُودِ وَاَلنَّصٰارىٰ وَاَلْمَجُوسَ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا. ثُمَّ قَالَ : إِلَيْنَا يَرْجِعُ الْغَالِي فَلَا نَقْبَلُهُ، وَبِنَا يَلْحَقُ الْمُقَصِّرُ فَنَقْبَلُهُ»[10] .
2/ وكان الإمام يجاهر بلعن الغلاة والبراءة من مقولاتهم.
ورد عنه : «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَالَ فِينَا مَا لَا نَقُولُهُ فِي أَنْفُسِنَا، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَزَالَنَا عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَنَا وَإِلَيْهِ مَآبُنَا وَمَعَادُنَا وَبِيَدِهِ نَوَاصِينَا»[11] .
وعنه : «إِنَّ قَوْمًا كَذَبُوا عَلَيَّ مَا لَهُمْ أَذَاقَهُمُ اَللَّهُ حَرَّ اَلْحَدِيدِ! فَوَ اَللَّهِ مَا نَحْنُ إِلَّا عَبِيدَ اَلَّذِي خَلَقَنَا وَاِصْطَفَانَا لاَ نَقْدِرُ عَلَى ضَرٍّ وَلَا نَفْعٍ، إِنْ رَحِمَنَا فَبِرَحْمَتِهِ وَإِنْ عَذَّبَنَا فَبِذُنُوبِنَا. [إلى أن قال ] إِنِّي اِمْرُؤٌ وَلَدَنِي رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَمَا مَعِي بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ، إِنْ أَطَعْتُهُ رَحِمَنِي وَإِنْ عَصَيْتُهُ عَذَّبَنِي عَذَابًا شَدِيدًا»[12] .
وكان أشدّ الفرق غلوًّا فرقة الخطابية، التي تزعمها أبو الخطاب محمد بن مقلاص الأسدي، وقد ادّعى ألوهية الإمام الصادق ، وأولوا قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ﴾ أنه الإمام فقال : «لَا وَاللَّهِ لَا يَأْوِينِي وَإِيَّاهُ سَقْفُ بَيْتٍ أَبَدًا، هُمْ شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَاللَّهِ مَا صَغَّرَ عَظَمَةَ اللَّهِ تَصْغِيرَهُمْ شَيْءٌ قَطُّ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ عِيسَى أَقَرَّ بِمَا قَالَتِ النَّصَارَى لَأَوْرَثَهُ اللَّهُ صَمَمًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهِ لَوْ أَقْرَرْتُ بِمَا يَقُولُ فِيَّ أَهْلُ الْكُوفَةِ لَأَخَذَتْنِي الْأَرْضُ، وَمَا أَنَا إِلَّا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا أَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ضَرٍّ وَ لَا نَفْعٍ»[13] .
وقد أمر أبو الخطاب أصحابه بالتلبية للإمام: لَبَّيْكَ يَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ لَبَّيْكَ، فلما بلغ الإمام ذلك خَرَّ سَاجِدًا وَأَلْزَقَ جُؤْجُؤَهُ بِالْأَرْضِ وَبَكَى، وَأَقْبَلَ يَلُوذُ بِإِصْبَعِهِ وَيَقُولُ: بَلْ عَبْدٌ الله [لِلَّهِ] قِنٌّ دَاخِرٌ مِرَارًا كَثِيرَةً»[14] .
وعن أبي بصير قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِاللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إِنَّهُمْ يَقُولُونَ! قَالَ: «وَمَا يَقُولُونَ؟» قُلْتُ: يَقُولُونَ: تَعْلَمُ قَطْرَ اَلْمَطَرِ وَعَدَدَ اَلنُّجُومِ وَوَرَقَ اَلشَّجَرِ وَوَزْنَ مَا فِي اَلْبَحْرِ وَعَدَدَ اَلتُّرَابِ، فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى اَلسَّمَاءِ، وَقَالَ: «سُبْحَانَ اَللَّهِ سُبْحَانَ اَللَّهِ، لَا وَاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ هَذَا إِلَّا اَللَّهُ»[15] .
وعنه أنه قال لمن قال له: إنّ فلان يَقُولُ: إِنَّكُمْ تَقْدِرُونَ أَرْزَاقَ الْعِبَادِ! فَقَالَ: «وَاللَّهِ مَا يَقْدِرُ أَرْزَاقَنَا إِلَّا اللَّهُ وَلَقَدِ احْتَجْتُ إِلَى طَعَامٍ لِعِيَالِي فَضَاقَ صَدْرِي وَأَبْلَغْتُ إِلَى الْفِكْرَةِ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَحْرَزْتُ قُوتَهُمْ فَعِنْدَهَا طَابَتْ نَفْسِي»[16] .
إنّ هذا غيض من فيض ما ذكرته المصادر من روايات عن الإمام الصادق في مواجهة الغلوِّ والغلاة.
تيارات الغلوِّ في الزمن الحاضر
نعيش الآن في زمن تعالت فيه بعض أصوات الغلو، من خلال بعض الكتابات والخطابات، والأناشيد والقنوات الفضائية، وقد لا يعتقد بعضهم بالغلوّ إلى حدّ ادّعاء الألوهية للأئمة، ولكن ما يقولونه ويطلقونه يوهم بالغلوّ، ويغري بالقول به، ويوقع الآخرين فيه، ويعطي الفرصة لتشويه خطّ أهل البيت ، لذلك يجب التصدّي لهذه الاتجاهات والتيارات المغالية، كما فعل الإمام الصادق .
إنّ على العلماء والواعين أن يتصدّوا لتيارات الغلوّ في هذا العصر، كما تصدّى لها الإمام الصادق في عصره، وسائر الأئمة . ولعلّها في هذا العصر أشدّ خطرًا على الدين.
إنّها تضلّ الناس عن حقيقة الدين، وحقيقة فكر أهل البيت ، القائم على التوحيد الخالص لله تعالى، وعلى العقلانية والمنطق، وليس على الأوهام والأساطير والخرافات.
وتسبب ردّ فعل عن الدين في أوساط أبنائنا وشبابنا، الذين انفتحوا على معطيات العلم والمعرفة في هذا العصر.
وتشوه مذهب أهل البيت أمام جمهور الأمة. وتشعل نيران الفرقة والفتنة المذهبية.
وتسعى لتربية جيل من أبناء الشيعة على الغلوّ والتشدّد والتطرف والوقوف في وجه مراجع الدين، وفقهاء المذهب وعلمائه المخلصين الواعين.
وننقل هنا تحذير المرجعية العليا من هذا الخطر الداهم، كما جاء في البيان الصادر عن مكتب السيد السيستاني بعنوان (وصايا المرجعيّة الدينيّة العليا للخطباء والمبلّغين بمناسبة قرب حلول شهر المحرّم الحرام عام 1441هـ): (وليحذر المبلّغون والشعراء والرواديد أشدّ الحذر عن بيان الحقّ بما يوهم الغلوّ في شأن النبيّ وعترته (صلوات الله عليهم)، والغلوّ على نوعين: إسباغ الصفات الألوهيّة على غير الله سبحانه، وإثبات أمور ومعانٍ لم تقم حجّة موثوقة عليها، ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) خالٍ عن الغلوّ بنوعيه، بل هو أبعد ما يكون عنه، وإنّما يشتمل على الإذعان للنبيّ وعترته (صلوات الله عليهم) بمواضعهم التي وضعهم الله تعالى فيها من دون زيادة ولا إفراط، بل مع تحذّر في مواضع الاشتباه، وورعٍ عن إثبات ما لم تقم به الحجّة الموثوقة، وإنّما المتّقي من لا يغلو فيمن يحبّ كما لا يحيف على من يبغض، ولا يصحّ بناء هذه المعاني على مجرّد المحبّة، وتصديق كلّ من زاد شيئًا، والإذعان له بمزيد الإيمان، فإنّ ذلك يؤدّي إلى المزايدة في أمر الدين بغير حجّة، وحدوث البدع، وطمع الجاهلين، وترؤّس أهل الضلالة، وتراجع المتورّعين العاملين بالحجّة والمتوقّفين عند الشبهة، وذلك يمحق الدين ويرتدّ ارتدادًا معاكسًا بتفريط آخرين، والزيادة في العقيدة بغير حجّة موثوقة على حدّ النقصان فيها ممّن قامت عليه الحجّة عليها، ومن زاد اليوم شيئًا بغير حجّة زيد عليه غدًا حتّى إنّه ليُتّهم بالتقصير والقصور، فلزوم الحجّة والميزان أحمد وأسلم)[17] .
إنّ هذا التّحذير الواضح الرصين من المرجعية العليا، يجعل العلماء والخطباء والكتاب أمام مسؤولية شرعية تاريخية، ويقدّم لجمهور المؤمنين معيارًا بيّنًا جليًّا لمعرفة خطابات وشعارات تيار الغلوّ واتجاهات الغلاة، فالغلوّ بحسب بيان المرجعية ينطبق على كلّ كلام يسبغ الصفات الألوهية على غير الله، وعلى ما يوهم ذلك، كما ينطبق على إثبات أيّ أمرٍ أو معنى لم تقم حجة موثوقة عليه.
ويؤكد على رفض أيّ زيادة في العقيدة بغير حجة موثوقة، وإنّها لا تقلّ خطورة عن النقصان في العقيدة.
وأنّ فتح باب المزايدة في الدين يدخل الساحة الدينية في نفق مظلم.
ونأمل أن يأخذ هذا التحذير موقعه المناسب من الاهتمام في أوساط الواعين من أبناء الأمة، وأتباع مدرسة أهل البيت .