العزلة والانكفاء الاجتماعي في رؤية أهل البيت (ع)
ورد عن الإمام محمد بن علي الجواد أنه قال: «مَنْ هَجَرَ اَلْمُدَارَاةَ قَارَبَهُ اَلْمَكْرُوهُ»[1] .
يشكّل أتباع أهل البيت مدرسة متميّزة فكريًّا وفقهيًّا في وسط جمهور الأمة، انطلاقًا من اعتقادهم بالإمامة، وأخذهم معالم الدين من أئمة أهل البيت .
إنّهم جزء لا يتجزأ من الأمة، في أصول المعتقد الديني، والالتزام بأركان الإسلام وفرائضه، لكنّهم في تفاصيل العقيدة والأحكام، يأخذون فيما اختلف فيه بمذهب أهل البيت ، في مقابل من يأخذون بآراء أئمة وفقهاء آخرين.
سياسة التهميش والحصار
وكانت السُّلطات الأموية والعباسية بدوافع سياسية تتحسّس من نموّ خطّ الولاء لأئمة أهل البيت ، وتمارس الحصار والتضييق على أتباعهم، وتشيع في أوساط الجمهور مختلف الاتهامات ضدّهم، لتشويه صورتهم، وإبعاد الناس عن التأثر بهم.
يقول الفتح بن شخرف: (حملتني عيني فنمت، فبينما أنا نائم إذا بشخصين، فقلت للذي يقرب منّي: من أنت يا هذا؟ فقال: من ولد آدم. قال: قلت: كلّنا من ولد آدم، فمن الذي وراءك؟ قال: علي بن أبي طالب. قلت: أنت قريب منه ولا تسأله؟ قال: أخشى أن يقول الناس إنّي رافضي)[2] ، هكذا انعكست سياسة التخويف على هؤلاء الناس حتى في أطياف نومهم.
وينقل الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد) كيف أنّ الإمام أحمد بن حنبل تعرّض للوم والعتاب؛ لأنه كان يستقبل إحدى الشخصيات الشيعية الموالية لأهل البيت وهو عبد الرحمن بن صالح الْأَزْدِيّ الكوفي (توفي ٢٣٥هـ).
حيث أورد البغدادي عن يعقوب بن يوسف المطوعي قال: (كان عبد الرحمن بن صالح الْأَزْدِيّ رافضيًّا وكان يغشى الإمام أحمد بن حنبل، فيحترمه الإمام أحمد بن حنبل فيقربه ويدنيه، فقيل له: يا أبا عبدالله، عبد الرحمن رافضي! فقال: سبحان الله، رجل أحبّ قومًا من أهل بيت النبي ، نقول له لا تحبّهم؟ هو ثقة)[3] .
ومن أبرز أهداف هذه السياسة، دفع أتباع أهل البيت إلى العزلة والانكفاء الاجتماعي، خوفًا من بطش الأمويين والعباسيين، وابتعادًا عن الاحتكاك بالمختلفين المعبّأين ضدّهم.
الأئمة يرفضون العزلة والانكفاء
ويبدو أنّ بعض الشيعة بسبب ذلك صار عندهم ميل ورغبة للعزلة والانطواء على أنفسهم ليعيشوا قناعاتهم في أجوائهم الخاصة بهم، وليعبّروا عن آرائهم فيما بينهم، وليمارسوا شعائرهم وعباداتهم وفق مذهبهم، بعيدًا عن اعتراض الآخرين ونقدهم. وحتى لا يتعرّضوا للأذى والوشاية بهم.
لكنّ أئمة أهل البيت كانوا يسعون لإفشال هذه السياسة، ويدفعون شيعتهم للانفتاح على جمهور الأمة والتواصل معهم، والحضور في الفضاء الاجتماعي العام.
أولًا: لأنّ العزلة والانكفاء تكرّس ضعف الثقة بالذات عند الفرد والمجتمع، وترفع مستوى الخوف والرهبة في النفس، وقد تتحوّل إلى رهاب اجتماعي.
ثانيًا: تصنع الحواجز وتؤسّس للانقسام المجتمعي، بينما يحرص الأئمة على تأكيد وحدة الأمة، واندماج شيعتهم في المحيط الاجتماعي.
ثالثًا: العزلة والابتعاد عن الناس يعطي الفرصة لتشويه الصورة عن الفرد والجماعة، بينما التواجد والحضور الاجتماعي يتيح المجال للتعرف المباشر، وبروز الكفاءات والطاقات، ويمكّن من إيصال رسالة أهل البيت لجمهور الأمة.
ويمكن الحديث عن جهود الأئمة على هذا الصعيد ضمن ثلاثة مسارات:
التوجيه بالتواصل الاجتماعي
المسار الأول: مجال التواصل الاجتماعي: هناك توجيه مكثف من الأئمة لشيعتهم في الانفتاح على محيطهم الاجتماعي، يقول عبدالله بن زياد: سَلَّمْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِاللَّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِمِنًى ثُمَّ قُلْتُ: يَا بْنَ رَسُولِ اَللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ مُجْتَازُونَ لَسْنَا نُطِيقُ هَذَا اَلْمَجْلِسَ مِنْكَ كُلَّمَا أَرَدْنَاهُ فَأَوْصِنَا، قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ «عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اَللَّهِ وَصِدْقِ اَلْحَدِيثِ وَأَدَاءِ اَلْأَمَانَةِ وَحُسْنِ اَلصُّحْبَةِ لِمَنْ صَحِبَكُمْ وَإِفْشَاءِ اَلسَّلاَمِ وَإِطْعَامِ اَلطَّعَامِ صَلُّوا فِي مَسَاجِدِهِمْ وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ وَاِتَّبِعُوا جَنَائِزَهُمْ»[4] .
وعن هشام الكندي قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللَّهِ ع يَقُولُ: «كُونُوا لِمَنِ انْقَطَعْتُمْ إِلَيْهِ زَيْنًا وَلَا تَكُونُوا عَلَيْهِ شَيْنًا صَلُّوا فِي عَشَائِرِهِمْ وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ وَلَا يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ»[5] .
وعنه : عَلَيْكُمْ بِالصَّلاَةِ فِي اَلْمَسْجِدِ وَحُسْنِ اَلْجِوَارِ لِلنَّاسِ وَإِقَامَةِ اَلشَّهَادَةِ وَحُضُورِ اَلْجَنَائِزِ، إِنَّهُ لاَ بُدَّ لَكُمْ مِنَ اَلنَّاسِ، إِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَغْنِي عَنِ اَلنَّاسِ حَيَاتَهُ، فَأَمَّا نَحْنُ نَأْتِي جَنَائِزَهُمْ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَصْنَعُوا مِثْلَ مَا يَصْنَعُ مَنْ تَأْتَمُّونَ بِهِ وَاَلنَّاسُ لاَ بُدَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَا دَامُوا عَلَى هَذِهِ اَلْحَالِ»[6] .
وعن معاوية بن وهب قلت للإمام الصادق : كَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصْنَعَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَبَيْنَ خُلَطَائِنَا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسُوا عَلَى أَمْرِنَا؟ قَالَ: «تَنْظُرُونَ إِلَى أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تَقْتَدُونَ بِهِمْ فَتَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ فَوَ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَعُودُونَ مَرْضَاهُمْ وَيَشْهَدُونَ جَنَائِزَهُمْ وَيُقِيمُونَ الشَّهَادَةَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَيُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ إِلَيْهِمْ»[7] .
دفع الكفاءات للمشاركة في الشأن العام
المسار الثاني: دفع الكفاءات من أتباعهم للمشاركة في الشأن العام، لخدمة مصالح الدين والأمة، ولتجاوز سياسة التهميش والعزلة.
جاء عن الإمام الصادق «إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي أَنَّ شِيعَتَنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ كَانُوا خِيَارَ مَنْ كَانُوا مِنْهُمْ، إِنْ كَانَ فَقِيهٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ مُؤَذِّنٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ إِمَامٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ أَمَانَةٍ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ وَدِيعَةٍ كَانَ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كُونُوا حَبِّبُونَا إِلَى اَلنَّاسِ وَلاَ تُبَغِّضُونَا إِلَيْهِمْ»[8] .
ونتيجة لهذا التوجيه تبوأ عدد من تلامذة الأئمة الكفوئين مواقع مهمة في إدارة الشأن العام على الصعيد العلمي والسياسي والاجتماعي، نذكر منهم بعض النماذج.
1/ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ (ت: 141هـ) تربّى في مدرسة الإمام زين العابدين ثم في مدرسة الإمامين الباقر والصادق .
قال الذهبي في ميزان الاعتدال: (أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثّقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم)[9] .
كان فقيهًا يزدحم الناس على أخذ الفقه عنه، وإذا دخل المسجد أخليت له سارية النبي ، فيحدّث الناس، وله علم باختلاف الأقوال، وهكذا فرض احترامه على الجميع بكفاءته وأخلاقه مع وضوح انتمائه لمدرسة أهل البيت .
ورد أنّ الإمام محمد الباقر قال له: «اِجْلِسْ فِي مَسْجِدِ اَلْمَدِينَةِ وَأَفْتِ اَلنَّاسَ، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ»[10] .
وقد استجاز الإمام الباقر أن يفتي الناس حسب اختلاف مذاهبهم. قال: إنّي أقعد في المسجد، فيجيئني الناس فيسألوني، فإن لم أجبهم لم يقبلوا منّي، وأكره أن أجيبهم بقولكم وما جاء عنكم، فقال له : «انْظُرْ مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَأَخْبِرْهُمْ بِذَلِكَ»[11] ، فكان يجلس في المسجد يفتي المسلمين، كلّ أهل مذهب حسب رأيهم، لذلك فرض احترامه ومكانته في المجتمع.
خرّجَ حديثه مسلم في صحيحه، والترمذي، وأبو داوود، والنسائي، وابن ماجة.
2/ نوح بن درَّاج (ت: 182هـ) من أصحاب الإمام الصادق [12] ، طلبت السلطة العباسية منه تولي القضاء، فاستأذن الإمام وأذن له في ذلك[13] .
3/ علي بن يقطين (ت: 182هـ) محدّث فقيه متكلّم، من كبار رجالات الشيعة، ومن أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام)[14] ، تولى الوزارة في عهد المهدي العباسي، وتصدّى لأمور الديوان، ونال حظوة كبيرة عند الهادي، وكان بمثابة رئيس الوزراء لهارون، وقد تقدّم إلى الإمام الكاظم مرّات عديدة يطلب منه الإذن في ترك منصبه والاستقالة منه، فنهاه عن ذلك.
4/ عبد الله بن النجاشي: من أصحاب الصادق [15] ، ولي الأهواز من قبل المنصور العباسي، وقد كتب له الإمام رسالة فيها توجيهات لكيفية القيام بمهامه في الولاية، نقلتها المصادر الشيعية كوسائل الشيعة.
الاستيعاب النفسي والمرونة الفقهية
المسار الثالث: تنمية الاستيعاب النفسي والمرونة الفقهية:
ومن أجل تعزيز اندماج الشيعة في جمهور الأمة، وتثبيت حضورهم الاجتماعي، وتيسير مشاركتهم الفاعلة في الشأن العام، كان الأئمة يوجهون أتباعهم إلى تنمية قدرة التحمّل والاستيعاب في نفوسهم، وتحمّل إساءات بعض الجاهلين والمغرضين.
عَنِ اِبْنِ مُسْكَانَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ : «إِنِّي لَأَحْسَبُكَ إِذَا شُتِمَ عَلِيٌّ بَيْنَ يَدَيْكَ إِنْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَأْكُلَ أَنْفَ شَاتِمِهِ لَفَعَلْتَ» فَقُلْتُ: إِي وَاَللَّهِ، جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي لَهَكَذَا وَأَهْلَ بَيْتِي، قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلْ فَوَ اَللَّهِ لَرُبَّمَا سَمِعْتُ مَنْ شَتَمَ عَلِيًّا وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أُسْطُوَانَةٌ فَأَسْتَتِرُ بِهَا فَإِذَا فَرَغْتُ مِنْ صَلاَتِي أَمُرُّ بِهِ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَأُصَافِحُهُ»[16] .
وإلى جانب الاستيعاب النفسي، وجّه الأئمة أتباعهم للأخذ بالمرونة في تطبيق الأحكام الشرعية، فأيُّ حكم في المجال العبادي وفق مذهب أهل البيت، يؤدي الالتزام به إلى إثارة الطرف الآخر، يمكن تجاوزه والعمل وفق المذهب الآخر، فيما يصطلح عليه بالتقية. فإذا كانت بعض أعمال الوضوء أو الصلاة مثلًا محلّ اختلاف بين مذهب أهل البيت والمذاهب الأخرى، وكان التزام الشيعي برأي مذهبه فيها يسبب له حرجًا مع الآخرين، جاز له العمل وفق المذهب الآخر، وعمله صحيح ومجزٍ. كغسل القدم في الوضوء بدل مسحها والسجود على ما لا يصح السجود عليه، والتكتّف في الصلاة، وما شابه ذلك.
لقد أكّد الأئمة على استخدام التقية والمداراة حينما لا يكون الطرف الآخر متفهّمًا لحقّك في ممارسة شعائرك الدينية، والتعبير عن رأيك المذهبي؛ لأنّ البديل عن ذلك هو التصادم مع محيطك الاجتماعي، أو الانعزال والانكفاء على الذات، وإدراكًا من الأئمة لمقاصد الدين العليا وأولوياته في الحياة الإنسانية، فإنّهم يأمرون بالمداراة والمرونة، بدلًا عن الصدام وإثارة التوترات في الوسط الديني.
ورد عن الإمام الصادق : «إِنَّ اَلتَّقِيَّةَ تُرْسُ اَلْمُؤْمِنِ وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لاَ تَقِيَّةَ لَهُ»[17] .
وورد عن الإمام الجواد : «مَنْ هَجَرَ اَلْمُدَارَاةَ قَارَبَهُ اَلْمَكْرُوهُ»[18] .
والمداراة هي الملاينة والملاطفة لاستيعاب أيّ تشنّج وتوتر محتمل، وهي من درأ، أي دفع، ومنه قوله تعالى: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾، ومن ضعفت وانعدمت عنده هذه القابلية، تعرّض للمكاره والأسواء في علاقته بمحيطه الاجتماعي.
رسائل حضارية لمجتمعات الأمة
إنّ هذه الرؤية المبدئية الأصيلة لأئمة أهل البيت ، تحمل رسائل حضارية مهمّة لمجتمعات الأمة في كلّ زمان ومكان.
1/ إنّها تؤكّد على تعزيز الوحدة والتآلف في المجتمع الإسلامي، وأنّ تنوع المذاهب الدينية لا ينبغي أن يكون سببًا للانقسام والخصام.
2/ وهي توجه أتباع المذاهب للتّحلّي بالاستيعاب النفسي لبعض إشكاليات الخلاف المذهبي فيما بينهم، وأن تعتمد الفتاوى الفقهية المذهبية منحى الواقعية والمرونة، لمنع حدوث التوترات الاجتماعية بمبررات دينية.
3/ وأنّ على ذوي الكفاءات والمواهب أن ينخرطوا بإخلاص في مواقع الخدمة لمجتمعاتهم وأوطانهم، بغضّ النظر عن الانتماءات المذهبية.