بمناسبة ذكرى ميلاد الرسول الأعظم
قيادة التحول الأخلاقي
في القرن السادس الميلادي كانت المجتمعات البشرية بشكل عام والجزيرة العربية بشكل خاص تعيش عصرًا من أسوأ عصور التدهور والانحطاط الأخلاقي.
فقد انحسرت آثار تعاليم الأنبياء والرسل، وعبث التحريف والتزوير فيما جاؤوا به للناس من شرائع وكتب، وأصبحت رسالات الأنبياء السابقين كاليهودية والمسيحية حالة من الكهنوت، تستغلّها طبقة من رجال الدين الفاسدين من (الأحبار والرهبان)، الذين كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله، وكان القياصرة والأكاسرة في الروم والفرس، يحكمون الناس بالطغيان والظلم والاستبداد، يسحقون كرامة الناس ويذيقونهم الذلّ والفقر والحرمان، فلم تكن للإنسان قيمة ولا مكانة ولا احترام.
وفي الجزيرة العربية كان المجتمع عبارة عن قبائل متناثرة، يعيش الناس فيها بلا هدف، فيقتتلون على أتفه الأسباب، تسودهم الأساطير والخرافات، يعبدون الأصنام والأوثان وتسيطر على نفوسهم الأنانية المفرطة والعصبية المقيتة، وتكثر بينهم الحروب والمعارك، صراعًا على المراعي، وتحصيلًا للغنائم.
حتى قال شاعرهم:
وأحيانًا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلّا أخانا
وكان التفاخر والتباهي بين القبائل هو ما يشغل أذهانهم، بما يدفعهم إلى التعالي ويكرّس التمييز والطبقية فيما بينهم.
ولأنّهم يعيشون حياة القتال والحرب، كانوا يقدّسون القوة، أما الضعفاء فلا قيمة لهم ولا مكانة، ومن هنا كانت المرأة مهانة محتقرة ينظر إليها بدونية؛ لأنّها لم تكن جزءًا من معادلة القوة في الحرب، بل كانت ـ في كثير من الأحيان ـ تشكل عبئًا على القبيلة، لجهة حمايتها ومنع أسرها، مما يكلّف القبيلة، لذلك كانوا ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾.
في ظلّ هذه الأوضاع في الجزيرة العربية، وما ذكرناه على المستوى العالمي، وبالتحديد في سنة (570 للميلاد) أشرق على البشرية نور نبيّنا محمد في شهر ربيع الأول من عام الفيل، كما تشير الروايات.
حينما ابتعث رسول الله إلى البشرية قاد حركة تحوّل أخلاقي، فوضع حدًّا للتدهور والانحطاط الذي كان سائدًا في المجتمعات البشرية وأسّس لعصر جديد، فقد أعلن رسول الله أنّ المهمّة الأساس لرسالته وشريعته هي إتمام مكارم الأخلاق، كما في الحديث الشريف «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ اَلْأَخْلاَقِ» وفي رواية «لأتمّم صالح الأخلاق».
وإنّما تفيد الحصر، أي حصر مهمّته ووظيفته وهدف رسالته الأساس في هذا الهدف (أن يتمّم للناس مكارم الأخلاق).
أي إنه لا يبدأ من الصّفر، فالأخلاق تنبع من فطرة الإنسان ووجدانه النقي السّليم، كما أنّ عقل الإنسان السّوي يدفعه إلى مكارم الأخلاق.
وهناك كلمة جميلة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: «لَوْ كُنَّا لاَ نَرْجُو جَنَّةً وَلاَ نَخْشَى نَارًا وَلاَ ثَوَابًا وَلاَ عِقَابًا لَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَطْلُبَ مَكَارِمَ اَلْأَخْلاَقِ فَإِنَّهَا مِمَّا تَدُلُّ عَلَى سَبِيلِ اَلنَّجَاحِ».
الإنسان بعقله السّوي يدرك أنّ مكارم الأخلاق تنفعه وتنجحه في إدارته لشؤون ذاته وإدارة حياته في مجتمعه البشري.
إنّ الأخلاق تنبع من الفطرة ويرشد إليها العقل، والأنبياء يأتون لتوجيه الإنسان إلى عقله، ومساعدته أمام ضغوط الشّهوات والأهواء التي تنحرف به عن الفطرة وعن إرشاد العقل، فتبعده عن مكارم الأخلاق. كما أنّ الأنبياء يقومون بتبيين مصاديق القيم الأخلاقية وتطبيقاتها.
قبل رسول الله كان هناك رسل وأنبياء، ولكن بسبب الفترة الزمنية الفاصلة تلاشت آثار تلك الرّسالات والشّرائع وحرّفت، فجاء رسول الله ليذكّر الناس بما كان في تلك الشّرائع ويصدّقها ويكمّلها، وهذا ما تؤكّد عليه آيات القران الكريم ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾.
ومع تطورات الحياة البشرية هناك مصاديق وموارد جديدة تحتاج إلى تبيين تطبيق تلك القيم عليها وهذا هو دور رسالة رسول الله «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ اَلْأَخْلاَقِ».
كما أنّ الله سبحانه وتعالى يتحدّث عن أهمّ صفة وميزة في شخصية رسول الله وهي الجانب الأخلاقي مما يدلّ على أهمية هذا البعد في الرسالة الإسلامية، فحينما يصف الله تعالى نبيّه لا يتحدّث عن علمه، ولا عن فضله، ولا عن جوانب الكمال المختلفة في شخصيته، وإنّما يتحدّث عن هذا الجانب الأخلاقي فيقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
وكأنّ هذه الصّفة هي الأهم والأبرز التي ينبغي الالتفات إليها والاهتمام بها، وبالفعل قام رسول الله بجهد عظيم من أجل إعادة بناء ذلك المجتمع، وتشكيله على أنقاض ذلك المجتمع الجاهلي، الذي كان يعاني من التدهور والانحطاط الأخلاقي، ورغم صعوبة المواجهة والمعاناة، فقد تحقق على يدي النبي إنجاز كبير، حيث أسّس مجتمعًا جديدًا تتمثّل فيه مكارم الأخلاق، التي كانت متجاهلة ومهملة في المجتمع قبل بعثة رسول الله ، والقرآن الكريم يشير إلى هذه التغييرات التي حصلت في المجتمع كقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ .
حيث تشير الآية إلى أنّ التغيير قد تحقّق، وأنّ حالة الاحتراب والاقتتال زالت، وحينما تصف الآيات القرآنية المجتمع الذي ربّاه رسول الله تقول إحدى الآيات: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.
لقد تغيّرت الحالة في ذلك المجتمع من سيادة الأنانية إلى خُلق الإيثار ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ والمجتمع الذي كان يعيش العصبية القبيلة، حيث كان الإنسان يقاتل مع قبيلته دون سؤال أو نقاش، تحت شعار (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) بحرفيته، هذا المجتمع تبدّل حاله، إلى ما وصفه به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بقوله: «وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ، نَقْتُلُ آبَاءَنا وَأَبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذلِكَ إلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا» ، فلم يعد المعيار هو الانتماء إلى القبيلة، وإنّما الانتماء إلى الحقّ، فمن واجه الحقّ وحاربه ـ ولو كان من الآباء والإخوة ـ كان المسلمون يقاتلونه.
وهكذا تأسّس مجتمع جديد على أساس قيم جديدة، ولا نقول إنّ ذلك المجتمع كان مجتمعًا مثاليًّا ملائكيًّا، هو مجتمع بشري تظهر فيه الأخطاء والثغرات، وتحصل فيه الانحرافات كأيّ مجتمع بشري، لكنّ الحالة العامة والصورة المجملة كانت إيجابية.
التعبئة الأخلاقية
السؤال: كيف استطاع رسول الله أن ينجز هذا التغيير ويحقّق هذا الهدف؟
وفي الجواب نشير إلى أهم ميزة ألا وهي: التعبئة الأخلاقية.
كان رسول الله يكافح معتقدات الشّرك ومظاهر الوثنية، ويدعو إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وفي الوقت ذاته كان يحارب نزعات الشَّر وميول الفساد والانحراف داخل النُّفوس، ليغرس فيها بذور الفضيلة والصّلاح، ويوجّهها إلى مكارم الأخلاق. وهي مهمّة التزكية التي تشير الآيات القرآنية إلى قيام النبي بها كمهمّة أساس في رسالته.
يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾.
فالآية قدّمت التزكية التي تشير إلى الجانب الأخلاقي على التعليم.
وفي آية أخرى يشير الله تعالى إلى الهدف الأساس من بعثة الأنبياء ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
وإنجازًا لهذه المهمّة الأساس بذل النبي جهده الأكبر في التعبئة الأخلاقية، بالتأكيد على محورية الأخلاق في الالتزام الديني، فقد ورد عنه أنه قال: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خلقًا»
والتركيز على الأخلاق؛ لأنّها ثمرة العقيدة والعبادة. وفي حديث آخر عنه : «إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا».
وقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ فلانةً تُكثِرُ من صلاتِها وصدقتِها وصيامِها غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بلسانِها قال: (هي في النَّارِ).
ومن هذه النصوص يظهر أنّ النبي كان يركز على التعبئة الأخلاقية، وهو ما حقّق هذا الإنجاز العظيم ببناء مجتمع أخلاقي على أنقاض ذلك المجتمع الجاهلي.