مواجهة التحدّيات
كما يدخل الطالب إلى قاعة الامتحان، وهو لا يعرف تفاصيل الأسئلة التي توجه إليه في موادّ امتحانه، وعليه أن يكون متهيئًا ومستعدًّا لاستقبال مختلف الأسئلة، كذلك الإنسان حينما يعي الحياة، فإنه يدخل إلى قاعة امتحان، لا يدري ما هي تفاصيل التحدّيات التي سيواجهها في مسيرة حياته، وعليه أن يكون مستعدًّا للامتحان والمواجهة.
فالحياة ليس رحلة سياحية للترفيه عن النفس، بعيدًا عن الالتزامات والهموم، بل هي مسرح ابتلاء وامتحان، لبلورة إرادة الإنسان، وإظهار الطاقات والقدرات الكامنة في داخله، حتى تتكامل شخصيته.
الرؤية الدينية للحياة
هذا ما تؤكد عليه الرؤية الدينية للحياة، ولوظيفة الإنسان ودوره فيها، فقد تحدّثت عدة آيات قرآنية عن مفهوم الابتلاء كعنوان وغرض لوجود الإنسان في هذه الحياة.
فالإنسان لم تنتجه صدفة عشوائية، بل أوجده خالق مبدع حكيم، لغرض وغاية.
يقول تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٢﴾ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾. [سورة الإنسان، الآيتان: 2-3].
والنطفة لها ثلاثة إطلاقات:
1/ النطفة المذكرة: وهي الحويمنات المنوية التي يقذفها الرجل.
2/ النطفة المؤنثة: وهي البويضة التي يفرزها مبيض المرأة.
3/ النطفة الأمشاج: وهي المختلطة من الحويمن والبويضة بعد تلاقحهما. وهو المقصود في هذه الآية الكريمة.
ويقول علماء الأجنة في العصر الحديث: إنّ دفقة المني التي تخرج من الرجل تحمل مئتي مليون حيوان منوي (حويمن)، والذي يلقح البويضة هو واحد منها فقط.
يقول تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ﴾. [سورة السجدة، الآية: 8].
والسلالة هي الخلاصة. فأكثر الحويمنات المنوية تهلك في الطريق إلى البويضة، ولا يصل منها إلّا بضع مئات، ينجح واحد منها في تلقيح البويضة، فهناك اختيار بعد اختيار لهذه الحيوانات، فلا يصل منها إلّا ما أرادته المشيئة الإلهية، التي جعلت كلّ شيء بقدر.
وقد ورد عن رسول الله : «مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ»[1] .
كما تنمو في مبيض المرأة كلّ شهر مجموعة من البويضات، لكنّ يد القدرة الإلهية تختار واحدة منها فقط لتكمل نموها، وتخرج لملاقاة الحيوان المنوي[2] .
هكذا يبدأ خلق الإنسان بقصد وإرادة إلهية، من هذه النطفة الأمشاج/ المختلطة، ليدخل مسرح الحياة لغرض أداء الامتحان فيها. وهو ما تشير إليه قوله تعالى: ﴿نَّبْتَلِيهِ﴾: أي نمتحنه ونختبره.
تحدّيات متنوعة متجدّدة
يواجه الإنسان في هذه الحياة مختلف التحدّيات، وهي موادّ امتحانه واختباره، تحدّيًا من داخل ذاته، حيث يتعرض جسمه للإعاقات والأمراض والآلام، وتتعرض نفسه للأزمات والاحباطات، ويتردّد فكره بين مختلف الآراء والخيارات.
كما يواجه التحدّي في علاقاته مع أبناء جنسه ومحيطه الاجتماعي،
ويواجه التحدي مع ظروف الطبيعة ومتغيّراتها وكوارثها.
وهناك تحدّي توفير متطلبات العيش والحياة.
وكلّما تطورت الحياة، اتسعت اهتمامات الإنسان، وازدادت رغباته وتطلّعاته، وارتفعت حدّة المنافسة بين بني البشر، وبذلك تتضاعف التحدّيات وألوان الامتحانات التي يواجهها الإنسان.
وهذا ما تتحدّث عنه التقارير حول ارتفاع منسوب القلق والضغوط النفسية التي يعانيها الإنسان المعاصر.
فقد (كشف تقرير جديد أنّ الشباب أقلّ سعادة من الأجيال الأكبر سنًّا، وفقًا لصحيفة "الجارديان".
وقال مدير مركز أبحاث الرفاهية ومحرر الدراسة، البروفيسور جان إيمانويل دي نيفي: إنّ الشباب في جميع أنحاء أميركا الشمالية "أصبحوا الآن أقلّ سعادة من كبار السن"، مع توقع حدوث نفس هذا التحول "التاريخي" في أوروبا الغربية. وأضاف: إنّ تقرير السعادة العالمية، وهو مقياس سنوي للرفاهية في 140 دولة ينسقه مركز أبحاث الرفاهية بجامعة أكسفورد ومؤسسة جالوب وشبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، أظهر "انخفاضات مثيرة للقلق (في سعادة الشباب) خاصة في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية".
وفي وقت سابق من شهر (مارس 2024م)، قال غالبية المراهقين البريطانيين لمستطلعي الرأي إنّهم يتوقعون أن تكون حياتهم أسوأ من الجيل السابق.
ووجد التقرير أنه "بالنسبة للولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، انخفضت السعادة في جميع الفئات العمرية، ولكن بشكل خاص بالنسبة للشباب، لدرجة أنّ الشباب الآن، في 2021-23، الفئة العمرية الأقلّ سعادة"، وفي عام 2010، كان الشباب أكثر سعادة من أولئك الذين هم في منتصف العمر.
ولا يكشف التقرير عن أسباب التغييرات، لكنها تأتي وسط قلق متزايد بشأن تأثير ارتفاع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وعدم المساواة في الدخل، وأزمة الإسكان، والمخاوف بشأن الحرب وتغيّر المناخ على سعادة الأطفال والشباب)[3] .
إمكانات الإنسان لمواجهة التحدّيات
وحين خلق الله الانسان في هذه الحياة، وجعله في معرض الابتلاء والامتحان بألوان التحدّيات والمشاكل، فإنه زوده بالوسائل والأدوات التي يخوض بها معركة الحياة ويواجه تحدّياتها، وهبه قدرة عقلية، ومنحه إرادة نفسية، وزود جسمه بالحواس والعضلات.
ولعلّ هذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٢﴾ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ إنه تذكير بالقدرات الجسمية وهداية الفطرة والعقل، التي منحها الله للإنسان، ليدير بها حياته، ويواجه بها التحدّيات.
كما سخر له ما في الكون من إمكانات. كلّ ذلك ليوفر للإنسان فرص النجاح في الامتحان، والقدرة على مواجهة التحدّيات والتغلب عليها.
لكن مركز القرار في المواجهة هو نفس الإنسان وهي منطقة العواطف والميول والنزعات والرغبات، وهي خط المواجهة الأول، فضمنها يقرّر الانسان المواجهة أو الاستسلام، والهزيمة أمام التحدّيات.
أما العقل فإنّ دوره دور المشير والمرشد، قد يطيعه الإنسان وقد يخالفه. فالعقل أداة تحت تصرف النفس.
ورد عن الإمام علي : «كَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ عِنْدَ هَوَى أَمِير»[4] .
إنّ بعض الناس حينما تعترضه المشكلة لا جرأة له على اتخاذ القرار بمواجهتها، وحينئذٍ يستسلم للمشكلة وينهار أمامها.
إنّ مواجهة الأزمات والمشاكل يحتاج إلى تعزيز ثلاث سمات أساس في نفس الإنسان:
الثقة بالنفس
السمة الأولى: الثقة بالنفس، فالله سبحانه منحك قدرات وطاقات، وسخر لك الكون والحياة
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾. [سورة لقمان، الآية: 20].
ورد عن أمير المؤمنين علي : «هَلَكَ امْرُؤُ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُ»[5] .
إنّ الله يقف إلى جانبك إذا توكلت عليه في مواجهة أيّ أزمة، فلماذا تخاف وتنهار؟
ولماذا تشعر بالضعف؟ إنّ الشعور بالضعف يشلّ قدرة الإنسان، بينما الشعور بالثقة والقوة يطلق مارد التحدّي في نفس الإنسان.
هناك ثقافة وتربية تضعف ثقة الإنسان بذاته.
يذكرون أنّ نابليون كان يردّ بثلاث على ثلاث: من قال لا أقدر. قال له: حاول. من قال: لا أعرف. قال له: تعلّم. من قال: مستحيل. قال له: جرب.
الأمل والتفاؤل
السمة الثانية: الأمل: وهو الوقود الذي يحرك الإنسان نحو الإنـجاز ومواجهة المشاكل والأزمات.
ورد عن أمير المؤمنين علي : «تَفَأَّلْ بِالْخَيْرِ تَنْجَحْ»[6] .
وعنه : «قَتَلَ اَلْقَنُوطُ صَاحِبَهُ»[7] .
يقول أحد علماء الطبيعة: (إنّ الإنسان يستطيع أن يعيش أربعين يومًا بدون طعام، وثلاثة أيام بدون ماء، وثمان دقائق بدون هواء، ولكنه لا يستطيع أن يعيش ثانية واحدة بدون أمل).
وكما قال الشاعر الطغرائي (توفي 513هـ):
أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ
إنّ فقدان الأمل أمام الأزمات والمشاكل، يقود إلى الإحباط والاكتئاب، وهو من أمراض العصر السائدة.
الهمة والنشاط
السمة الثالثة: الهمة والنشاط: فمواجهة المشاكل تستلزم بذل الجهد والحركة، وليس التمنّي، ولا الاكتفاء بالدّعاء.
يقول أحد الحكماء: الرجال ثلاثة: رجل يعمل، ورجل يتردّد، ورجل ييأس، فالأول ينجح في كلّ شي، والثاني لا يتم أيّ شيء، والثالث يفشل في كلّ شيء.
ورد عن الإمام محمد الباقر : «الكَسَلُ يُضِرُّ بالدِّينِ والدُّنيا»[8] .
وعنه : «إنِّي لَأبْغِضُ الرَّجُلَ يَكُونُ كَسْلانًا عَنْ أمْرِ دُنْياهُ، وَمَنْ كَسَلَ عَنْ أمْرِ دُنْياهُ فَهُوَ عَنْ أمْرِ آخِرَتِهِ أكْسَلُ»[9] .
إنّ بعض المشاكل لا تحلّ بين عشية وضحاها، بل تحتاج إلى اهتمام ومحاولات متكررة، وقد يفشل الإنسان في حلّها مرة أو أكثر، لكن عليه أن يتحلّى بالصبر والنفس الطويل.
إنّ أبناءنا وفتياتنا وهم يواجهون تحدّيات الحياة المختلفة في هذا العصر، في حاجة كبيرة لإحاطتهم بالأجواء الإيجابية، والثقافة الواعية، لرفع معنوياتهم، وترسيخ الثقة في نفوسهم، وفتح نوافذ الأمل أمام أعينهم، ليستقبلوا الحياة بوعي وثبات، وليكونوا أقدر على استيعاب الضغوط ومواجهة التحدّيات.