ثقافة الرفاهية وجودة الحياة
يقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [سورة الأعراف، الآية: 32].
تتفاوت مستويات المعيشة ودرجات الرضا عن الحياة بين أبناء البشر أفرادًا ومجتمعات، فهناك تفاوت داخل المجتمعات، وتفاوت بين الشعوب والمجتمعات.
منذ زمن بعيد كان التفكير في تطوير حياة الإنسان وتحسين مستوى عيشه، يشغل بال الفلاسفة والقادة الاجتماعيين، لملاحظتهم معاناة قطاعات واسعة من أبناء البشر في هذه الحياة.
الفيلسوف الإغريقي أفلاطون الذي ولد عام 427 قبل الميلاد بأثينا، تحدّث عن إدارة متقدمة للمجتمع البشري أطلق عليها (المدينة الفاضلة) وألف كتابًا بعنوان (الجمهورية أو المدينة الفاضلة) التي أصبحت حلمًا لكثير من القادة والفلاسفة والمفكرين، لم تتحقق أبدًا.
وتوالى الفلاسفة والمفكرون في عصور التاريخ، وإلى حاضرنا المعاصر، في تقديم آرائهم ونظرياتهم حول مناهج الحياة الأفضل للمجتمع الإنساني.
مفهوم جودة الحياة
مفهوم جودة الحياة من المفاهيم الحديثة السائدة للتعبير عن همّ إنساني قديم، وهو بأبعاده الشاملة يتجذّر في محدّدات منظومية متعدّدة، بدءًا من المنظومة السياسية إلى المنظومة التعليمية، والمنظومة الاقتصادية والاجتماعية، وأبرز تجلياتها: جودة العيش، ويعني السكن النظيف الملائم، وجودة الدخل، وجودة الرعاية الصحية، وجودة التعليم، وتوسّع الترفيه، والابتكار والإبداع، وجودة المحيط البيئي والاجتماعي.
ونجد كيف يبحث بعض أبناء الشعوب والبلدان التي تنعدم فيها ظروف الحياة المناسبة، عن طريق للهروب من بلدانهم، إلى بلدان تتوفر فيها سبل الحياة الكريمة، وبعضهم قد يفقدون حياتهم غرقًا أو بأيدي عصابات مارقة.
وقد أفادت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة بأنّ نحو 9 آلاف مهاجر لقوا حتفهم خلال عام 2024.
وأوضح تقرير المنظمة أنّ عدد الوفيات المسجلة هذا العام تجاوز الرقم القياسي السابق البالغ 8747 حالة وفاة في عام 2023.
ورجح التقرير أن يكون العدد الفعلي أعلى بكثير نظرًا لعدم توثيق العديد من الحوادث بسبب محدودية المصادر الرسمية.
وأشار التقرير إلى أنّ عام 2024 شهد ارتفاعًا حادًا في وفيات المهاجرين بمختلف المناطق، حيث سُجلت 2778 وفاة في آسيا، و2242 في إفريقيا، و233 في أوروبا[1] .
إنّ جودة الحياة هي حصيلة جهد مشترك بين الفرد والمجتمع، والمجتمع والدولة، بين ما تقدّمه الدولة من مرافق وخدمات، وما يحافظ عليه الفرد ويضيف إليه.
وبفضل تقدّم النظم المعلوماتية وبرامج الإحصاء، فقد أصبحت الأوضاع الحياتية العامة لمختلف الشعوب والمجتمعات مكشوفة معروفة.
كما تأسست منظمات وهيئات عالمية تعنى بمتابعة مستويات المعيشة في مختلف البلدان، وعلى مختلف الصُّعد.
ووضعت مقاييس ومعايير تقاس بها تلك المستويات، لمعرفة مدى جودة الحياة في كلّ مجتمع من المجتمعات.
فهناك مثلًا: التصنيف العالمي لقابلية العيش، يصنّف المدن في 140 دولة حسب جودة الحياة فيها.
وهناك مؤشر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لجودة الحياة ومقارنتها بين البلدان، بناءً على 11 جانبًا أساسيًا: الأمن، والصحة، والدخل، والوظائف، والتوازن بين الحياة والعمل، والتعليم، ومستوى الرضا، والسكن، والبيئة، والمجتمع، والمشاركة المدنية.
ثقافة جودة الحياة
جودة الحياة ضمن مفهومها المعاصر ليست شأنًا فرديًا يتقوم بجهد الفرد، إنما هو نتاج لمنظومة متكاملة من السياسات والبرامج على المستوى الاجتماعي والوطني، إنه يرتبط بتخطيط الدولة الوطنية في إدارة شؤون البلاد والمواطنين.
لكنّ دور المواطن مقوّم أساس من مقومات نجاح أيّ خطة وبرنامج وطني لتحسين جودة الحياة.
من هنا تأتي أهمية تعزيز ثقافة جودة الحياة، في نفوس وسلوك أبناء المجتمع، لكي يتجاوبوا مع البرامج والمشاريع المعتمدة لتحقيق جودة الحياة. ولكي يضيفوا إليها بإبداعاتهم وابتكاراتهم ومساهماتهم الأهلية.
ويكفي للتدليل على هذه الحقيقة، أنك قد تجد مدنًا أو أحياءً متخلفة في دول متقدمة، لأنّ سكان تلك المدن والأحياء ينقصهم الوعي والالتزام بالسلوك الحضاري.
كما أنّ الفرد الواعي والمتوفر على ثقافة جودة الحياة، يمكنه أن يحسّن وضع حياته بدرجة ما، حتى لو كان يعيش في محيط متخلف، ويكون أقدر من غيره على الاستفادة من الإمكانات والفرص.
إنّ بعض الجاليات قد تصنع لنفسها محيطًا من التقدم والرفاهية في بلدان متخلفة كما هو حاصل في بعض بلدان أفريقيا، وأمريكا اللاتينية.
الثقافة الدينية تدفع لجودة الحياة
وهنا نشير إلى أهمية بثّ الثقافة الدينية الصحيحة التي تدفع الإنسان المتديّن إلى التطلع لجودة الحياة والارتقاء بمستوى المعيشة. في مقابل ثقافة ضمن الحالة الدينية، تقلّل من الاهتمام بالشأن الدنيوي، وتدعو إلى الاكتفاء بالحدّ الأدنى من مستوى المعيشة.
وفيها تأثّر بثقافة بعض المرتاضين الذي يرون أنّ السعادة تتحقق بالكمال النفسي والسمو في الجوانب الروحية، وأنّ ذلك يتناسب طرديًّا مع حرمان الجسم من الراحة واللذات والشهوات، فإذا أراد الإنسان أن يحقق السعادة، عليه أن يسعى لكمال روحه، ويرون أنّ التكامل الروحي نقيض الراحة الجسمية، فإذا أردت أن تتكامل روحيًّا ينبغي أن تعرّض جسمك للآلام، حتى إنّ بعضهم كان ينام على المسامير، أو كان يتعلّق بأغصان الأشجار!
كانوا يقلّلون من الطعام والشراب، ويعيشون الخشونة في الحياة!!
إنّ القرآن الكريم يَعدّ المؤمن إذا أخذ بقيم الدين وتعاليمه، فإنّ ذلك يقوده إلى حياة طيبة في هذه الدنيا، وهو تعبير عن جودة الحياة ورفاهيتها. ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال الإيجابية والمفيدة على كافة صعد الحياة العلمية والعملية.
﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ والمقصود بذلك الدنيا ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ هذا في الآخرة.
ويقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [سورة الأعراف، الآية: 32].
جاء في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين علي دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلما رأى سعة داره قال
: «مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِه الدَّارِ فِي الدُّنْيَا، وأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ، وبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ، تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإِذًا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ».
فَقَالَ لَه الْعَلَاءُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ، قَالَ : «ومَا لَه؟»، قَالَ: لَبِسَ الْعَبَاءَةَ، وتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا، قَالَ
: «عَلَيَّ بِه»، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: «يا عُدَيَّ نَفسِهِ، لَقَدِ استَهامَ بِكَ الخَبيثُ! [يعني الشيطان] أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ، أَتَرَى اَللَّهَ أَحَلَّ لَكَ اَلطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا؟ أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ»، قَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ، قَالَ
: «وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ، إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ اَلْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ اَلنَّاسِ كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ[2] بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ»[3] .
وحينما يصف الإمام علي المتقين يقول عنهم، إلى جانب الحديث عن عباداتهم وسموهم الروحي: «سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ، فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِه الْمُتْرَفُونَ، وأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَه الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ، ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ والْمَتْجَرِ الرَّابِحِ»[4] .
ونجد في الأدعية الواردة عن أئمة أهل البيت أنهم يطلبون من الله الرفاهية وجودة الحياة في الدنيا، إلى جانب طلبهم لرضا الله تعالى وعفوه ونعيم الآخرة.
ففي دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين : «اللّهُمَّ إنّي أسأَلُكَ حُسنَ المَعيشَةِ»[5] .
وفي دعاء الإمام محمد الباقر : «أسْأَلُكَ اللّهُمَّ الرَّفاهِيَّةَ فِي مَعِيشَتِي ما أَبْقَيْتَنِي، مَعِيشَةً أَقْوى بِها عَلى طاعَتِكَ وَأَبْلُغُ بِها رِضْوانَكَ، وَأَصِيرُ بِها بِمَنِّكَ الى دارِ الْحَيَوانِ غَدًا.
اللّهُمَّ ارْزُقْنِي رِزْقاً حَلالًا يَكْفِينِي، وَلا تَرْزُقْنِي رِزْقًا يَطْغِينِي، وَلا تَبْتَلِيَنِي بِفَقْرٍ أَشْقَى بِهِ مُضَيِّقًا عَلَيَّ، اعْطِنِي حَظًّا وافِرًا فِي آخِرَتِي، وَمَعاشًا واسِعًا هَنِيئًا مَرِيئًا فِي دُنْيايَ»[6] .
وهذه الأدعية تعني محبوبية التطلع والطموح إلى رفاهية وجودة الحياة.
الأئمة يعيشون جودة الحياة
بل ورد في سيرة أكثر من إمام من أئمة أهل البيت ، أنه كان يُظهر ارتداء الملابس الأنيقة الفاخرة، كمظهر من مظاهر الرفاهية وجودة الحياة، وكانوا يردون على المعترضين على ذلك.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِأَبِي عَبْدِاَللَّهِ [الإمام جعفر الصادق ] إِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
كَانَ يَلْبَسُ اَلْخَشِنَ مِنَ اَلثِّيَابِ، وَأَنْتَ تَلْبَسُ اَلْقُوهِيَّ[7] اَلْمَرْوِيَّ قَالَ
: «وَيْحَكَ، إِنَّ عَلِيًّا
كَانَ فِي زَمَانٍ ضَيِّقٍ، فَإِذَا اِتَّسَعَ اَلزَّمَانُ، فَأَبْرَارُ اَلزَّمَانِ أَوْلَى بِهِ»[8] .
وعَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ، قَالَ، سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِاَللَّهِ يُحَدِّثُ: أَنَّ سُفْيَانَ اَلثَّوْرِيَّ دَخَلَ عَلَى أَبِي عَبْدِاَللَّهِ
، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ جِيَادٌ، فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِاَللَّهِ، إِنَّ آبَاءَكَ لَمْ يَكُونُوا يَلْبَسُونَ مِثْلَ هَذِهِ اَلثِّيَابِ! فَقَالَ
: «إِنَّ آبَائِي عَلَيْهِمُ اَلسَّلاَمُ كَانُوا فِي زَمَانٍ مُقْفِرٍ مُقْتِرٍ، وَهَذَا زَمَانٌ قَدْ أَرْخَتِ اَلدُّنْيَا عَزَالِيَهَا[9] ، فَأَحَقُّ أَهْلِهَا بِهَا أَبْرَارُهُمْ»[10] .
وعَنِ اِبْنِ اَلْقَدَّاحِ قَالَ: كَانَ أَبُو عَبْدِاَللَّهِ [الإمام جعفر الصادق ] مُتَّكِئًا عَلَيَّ، أَوْ قَالَ عَلَى أَبِي، فَلَقِيَهُ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ مَرْوِيَّةٌ حِسَانٌ، فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِاَللَّهِ، إِنَّكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نُبُوَّةٍ، وَكَانَ أَبُوكَ وَكَانَ، فَمَا لِهَذِهِ اَلثِّيَابِ اَلْمُزَيَّنَةِ عَلَيْكَ، فَلَوْ لَبِسْتَ دُونَ هَذِهِ اَلثِّيَابِ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِاَللَّهِ
: «وَيْلَكَ يَا عَبَّادُ، ﴿مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّٰهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَاَلطَّيِّبٰاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ﴾؟ إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَاهَا عَلَيْهِ»[11] .
وقد ورد عن رسول الله : «إنَّ اللهَ تعالى إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً، يُحبُّ أن يَرَى أثرَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ»[12] .
إنّ على الإنسان أن يعمل للارتقاء بمستوى حياته إلى الأفضل، دون الوصول إلى حدّ الترف والإسراف والتبذير ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾.
وعلى الإنسان أن يرتقي بحياة من حوله في محيطه الاجتماعي، ويساعدهم على الوصول إلى مستوى متقدم من جودة الحياة، فيوفر لأولاده أفضل تعليم، ويساعدهم في بناء حياتهم، وتوفير الجودة فيها، ويوسّع على عياله، ويتفقّد أحوال أرحامه وسائر الضعفاء في مجتمعه.