الذكاء الاصطناعي: الفرص والتحدّيات

 

يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ‎* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *‏ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق، الآيات: 3-5].

فتح الله تعالى أمام الإنسان آفاق العلم والمعرفة، ومنحه القدرات العقلية الجبارة لارتيادها، وحفّزه لمواصلة السعي والبحث عن أسرار الكون والحياة، فالعلم لا حدود له ولا نهاية.

يقول تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الإسراء، الآية: 85].

ويقول تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [سورة طه، الآية: 114].

وكلّ إنجاز أو تقدّم علمي يحققه الإنسان، يهيّئ له فرصًا جديدة، ويدفعه إلى إنجازٍ أكبر، وتقدّم أوسع. إنه فضل إلهي مستمر على الإنسان، فدائمًا يصدق قوله تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق، الآية: 5].

علّم إنسان اليوم ما لم يُعلّمه إنسان الأمس، ويُعلّم إنسان الغد ما لا يُعلّمه إنسان اليوم.

التقدّم العلمي الأبرز في هذا العصر

ومن تجلّيات تقدّم العلم والمعرفة لإنسان هذا العصر، برامج الذكاء الاصطناعي.

والذكاء في الأصل سمة إنسانية، تتمثل في سرعة التعلّم والفهم، وفي سرعة البديهة واستحضار الأفكار والمعلومات، وفي القدرة على تقديم الحلول للمشكلات، وابتكار المعالجات.

ويتفاوت الناس في اتصافهم بسمة الذكاء، وفي مستوياته ومجالاته، وهناك اختبارات مصمّمة لقياس نسبة الذكاء عند أفراد البشر.

لكنّ ما يحصل الآن هو إسباغ هذه السمة المهمّة الذكاء على الآلة التي يصمّمها الإنسان، وهو ما يطلق عليه الذكاء الاصطناعي.

يعرّف الذكاء الاصطناعي بأنه: البرمجيات التي تمكّن الآلات المحوسبة من محاكاة الذكاء البشري في التعلّم واتخاذ القرارات، وحلّ المشكلات والتنبؤ بالنتائج، والتوصيات والمفاضلة بين الخيارات، لتحقيق أهداف محدّدة، وعُرّف بأنه علم وهندسة صنع الآلات الذكية بما يحاكي الذكاء البشري.

ويعتبر الذكاء الاصطناعي سمة العصر الحديث البارزة، طوّره الإنسان لخدمته في إنجاز مهمّاته بدقة كبيرة وسرعة عالية.

ويعود طرح مصطلح الذكاء الاصطناعي إلى عالم الحاسوب الأمريكي جون مكارثي (1927-2011م) الذي صاغه عام 1956م، إذ انعقد مؤتمر علمي حول إمكانية تصميم آلة ذكية قادرة على تقليد ومحاكاة عمل البشر.

كيف يعمل الذكاء الاصطناعي؟

يعتمد الذكاء الاصطناعي على أنظمة التعرّف على الوجوه والأصوات والأشكال، وفي مجال الطب توجد برامج لتشخيص الأمراض بناءً على أعراض معروفة، وابتكرت بعض الروبوتات التي تشخّص الأمراض وتجري عمليات دقيقة جدًّا.

وفي المجال اللغوي تم استخدام الأنظمة الذكية في التدقيق اللغوي، ويستطيع الذكاء الاصطناعي التعرف على الكلام وتحويله إلى نصٍّ مكتوب، ويستمع للمتحدّث ويطبّق ما سمعه، ويجيب أيضًا ويولّد الرسائل الصوتية من النصوص المكتوبة، ويستطيع الترجمة من لغة إلى أخرى، لكن مستوى الجودة في الترجمة لم تصل إلى الدرجة المطلوبة.

وفي مجال الأعمال الرقمية فهو قادر على خدمة الزبائن عبر إرشادهم إلى السلع الأكثر ملاءمة، والإجابة عن الأسئلة الخاصة بعمليات الشحن وطرق الدفع، واقتراح الألوان والقياسات تبعًا لذوق الزبون.

بات من الممكن من خلال تقنية الـ (شات جي بي تي) (ChatGPT) أن يطلب الشخص بحثًا أو دراسة حول موضوع محدد وبخصوصيات معينة، وباللغة التي يريدها، فتؤمِّنُ له ذلك في غضون ثوانٍ معدودة.

وذكروا من الأمثلة العملية أنّ نائبًا في البرلمان الياباني استجوبَ قبل مدة رئيس الوزراء بأسئلة اقترحت عن طريق الـ (شات جي بي تي)[1] .

وانتشر الرجل الآلي، وهو أحد تجسيدات الذكاء الاصطناعي في العديد من المجالات، خاصة الصناعية وعوض اليد العاملة البشرية، وفي التجارب والأعمال الخطيرة.

قلق عالمي من الوافد الجديد

وهناك طموحات كبيرة لا تتوقف عند حدّ في مجال الذكاء الاصطناعي، حتى حذّر فريق من العلماء من سيطرة الآلات على دور البشر.

كما أنّ هناك تحدّيات أخلاقية يتحدّث عنها العلماء والباحثون في مختلف المجتمعات الإنسانية، فالآلة صناعة بشرية تتأثر بنزعات البشر، من هنا قد تستخدم في التضليل والخداع، وقد توجه لخدمة فئات أو جهات على حساب الآخرين، وقد تستخدم لترويج فكر أو ثقافة أو سلوك فيه ضرر على مصالح الإنسان وحقوقه.

إنّ التحدّيات التي يثيرها هذا التقدّم العلمي (الذكاء الاصطناعي)، أحدثت قلقًا تجاه هذا الوافد الجديد، ينتاب مفكرين في شرق العالم وغربه، وحتى ممن ساهموا أو يساهمون فعليًّا في تطوير منصّات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته.

ففي يونيو 2023م نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالًا عنوانه «التهديد الحقيقي الذي يمثله الذكاء ‏‏الاصطناعي»[2]  بقلم إفغيني موروزوف، وهو باحث تخصص في دراسة الانعكاسات السياسية والاجتماعية ‏‏للتقنية. أثار المقال اهتمامًا واسعًا، وغذَّى جدلًا محتدمًا بالفعل بين الباحثين وزعماء المجتمع المدني، حول التأثير المتوقع ‏‏لتطبيقات الذكاء الاصطناعي على نظم المعيشة.

وفي مايو من العام نفسه 2023م، صدر بيان وقَّعه 300 من كبار الباحثين ومديري الشركات العاملة في مجال التقنية، ينبّه إلى المخاطر الوجودية التي ربما تنجم عن التوسع المنفلت في تطبيقات الذكاء الاصطناعي[3] .

ويوجد لدى حوالي 32 دولة في العالم قوانين مطبقة في مجال الذكاء الاصطناعي، و29 دولة بصدد إقرار قوانين، و53 دولة تتخذ إجراءات أولية لتدوين القوانين المتعلقة بالذكاء الاصطناعي.

وقد أقرّت منظمة اليونسكو عام 2021م (إطار العمل المعياري العالمي الأول للاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي).

من هنا تأتي ضرورة التحصين الأخلاقي، والتّحذير من استعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي، فيما ينافي التشريعات الدينية والأخلاق الإنسانية.

الاستفادة من فرص التطور

من الأهمية بمكان التفكير في الاستفادة من الفرص التي يتيحها هذا التطور العلمي الهائل لخدمة المجتمعات وخدمة الدين والقيم الإنسانية.

إنّ أيَّ تطور أو إنجاز جديد ترافقه تحدّيات، وهناك إمكان لسوء استخدامه، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون سببًا للتشاؤم واتخاذ موقف سلبي تجاهه، بل يجب أن يدفعنا للمبادرة للاستفادة منه وتوظيفه بالاتجاه الإيجابي ومعالجة السلبيات.

إنّ الذكاء الاصطناعي مسيرة بدأت لتستمر وتتطور، كما حصل لسائر التطورات العلمية السابقة التي تأخرنا في الاستفادة منها، بسبب المبالغة في القلق من آثارها السلبية، كالتلفزيون والهاتف والإنترنت، وقبلها طباعة الكتب.

فحينما ظهرت المطابع في أوروبا لطباعة الكتب، أبدت مؤسسة المشيخة الإسلامية في الدولة العثمانية تحفّظها تجاه إنشاء المطابع العربية، بحجة الخوف من استعمالها في تحريف القرآن، وأصدر السلطان بايزيد الثاني (توفي 1512م) أمرًا بمنع إدخال تقنية المطابع باللغة العربية والتركية في جميع أنحاء السلطنة، وتكفير من يُقدِم على الطباعة، بل والحكم بإعدام من يقوم بذلك.

وبعد حوالي 200 سنة صدرت فتوى شيخ الإسلام عبدالله أفندي سنة 1716م بإجازة طباعة كتب الحكمة واللغة والتاريخ والطب والهيئة، وتأسيس المطابع بشرط التعهّد بعدم طباعة الكتب الدينية، وبعد مدّة أجازتها المشيخة العثمانية وأذنوا بطبع وتجليد القرآن[4] .

وأصدر بعض علماء الأزهر فتاوى بتحريم طباعة الكتب الشرعية بدعوى كونها تحرّف العلوم[5] .

كما خطّ الفقيه المغربي محمد بن إبراهيم السباعي (توفي 1332هـ/ 1914م) فتوى ووثيقة سمّاها (رسالة في الترغيب في المؤلفات الخطية، والتحذير من الكتب المطبوعة، وبيان أنها سبب في تقليل الهمم وهدم حفظ العلم ونسيانه)[6] .

الحوزة العلمية استجابة إيجابية

من نماذج الاستجابة الإيجابية لهذا التطور العلمي، انعقاد سلسلة جلسات من قبل علماء وباحثين في الحوزة العلمية في قم، وبالتعاون مع جامعات أكاديمية في طهران، تحت عنوان (دور الذكاء الاصطناعي والنظم الخبيرة في دعم الاجتهاد الفقهي).

وبادرت إدارة الحوزة العلمية في قم إلى تأسيس (اللجنة التوجيهية للتكنولوجيا الذكية)، بهدف تعزيز البحث العلمي، والتطبيق العملي في هذا المجال.

وأعلن مدير الحوزات العلمية عن إطلاق مشروع بحثي ضخم يضم حوالي مئة باحث حاصلين على درجة الماجستير والدكتوراه، يعملون تحت إشرافه مباشرة في مجال الذّكاء الاصطناعِي.

ويجري تصميم وإنتاج نظام تحت عنوان “ناصر جامع للفقيه” يُعدّ أحد أهم المشاريع المشتركة بين الحوزة العلمية والجامعة. يهدف هذا المشروع إلى تطوير مساعد خبير وذكي للمجتهد، بحيث يتمكن من الوصول إلى جميع مصادر التفقه، كآيات القرآن والأحاديث وقواعد الاستنباط ومدى الاعتماد على الرواة، ومن ثم تقديم اقتراحات تساعد المجتهد على الوصول إلى الحكم الشرعي بدقة أكبر. يمثل هذا المشروع جسرًا يربط بين العالمين العلميين للحوزة والجامعة، ويسعى إلى تطوير نماذج من الذكاء الاصطناعي مصممة خصيصًا لتلبية احتياجات الاجتهاد. وعلى وجه الخصوص، يستهدف المشروع استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي لتحليل النصوص الدينية واستخراج الأحكام الشرعية منها.

وقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الذكاء الاصطناعي: أحكامه وضوابطه وأخلاقيّاته، في إحدى جلسات الدورة السادسة والعشرون، في دولة قطر، بتاريخ 6 - 10 ذو القعدة 1446هـ الموافق 4 - 8 مايو 2025م.

رؤية وموقف

1/ يجب أن يكون التعامل مع الذكاء الاصطناعي على أنه وسيلة لا غاية، وعلى أنه إضافة وليس بديلًا عن العقل البشري، أو أيٍّ من وسائل إنتاج المعرفة الأخرى.

2/ المطلوب من المؤسسات العلمية والدينية أن تكثّف دورها في ساحة العالم الافتراضي ومجال التقنية الإلكترونية، وأن تهتم بتدريب كوادر متخصصة لتعزيز حضور المعرفة الدينية والقيم الأخلاقية في هذا الميدان، ولتستفيد من فرص التطوير في المعرفة وفي وسائل البث والانتشار.

3/ وعلى كلّ ذي كفاءة في هذا المجال، أن ينهض بما يمكنه من دور، وأن يبذل ما يستطيعه من جهد على هذا الصعيد، لخدمة دينه ومجتمعه، ولتوعية الناس وتثقيفهم للاستفادة المثلى من الذكاء الاصطناعي، وتجنّب السلبيات والمزالق.

4/ لا بُدّ من الوعي والانتباه في التعامل مع هذا الفضاء الإلكتروني الفسيح، والالتزام بمعايير التقويم السليمة في استقبال الأفكار والمعلومات والتثبّت من صحتها.

5/ لا يصح اعتبار برامج الذكاء الاصطناعي كالـ (شات جي بي تي) مرجعًا في أخذ الآراء والفتاوى الدينية، وكذلك في التعامل مع القضايا الطبية، ويمكن الاستفادة منها في المعلومات الأولية مع الرجوع إلى الجهات المختصة في الرأي الأخير.

إنّ الباحث الديني والطبيب المعالج مثلًا، يمكنهما الاستفادة كثيرًا من الذكاء الاصطناعي، لتكوين الرأي واتخاذ القرار، لكنّ الذكاء الاصطناعي ليس بديلًا عن الفقيه والمجتهد، ولا بديلًا عن الطبيب. وإنّما يمكن الاستفادة منه في نقل الآراء، وعرض الخيارات.

 

خطبة الجمعة 30 محرم 1447هـ الموافق 25 يوليو 2025م

[1]  الجزيرة نت، برامج الذكاء الصناعي لاعب جديد في عالم السياسة، 24 أبريل 2023م.
[2]  الجزيرة نت، مقال بنيويورك تايمز: هذا هو التهديد الحقيقي للذكاء الاصطناعي، 5 يوليو 2023م.
[3]  الشرق الأوسط: لماذا ينبغي أن نطمئن لتطور الذكاء الاصطناعي؟، 22 مايو 2025م.
[4]  مؤسسة آراب، “المطبعة” الآلة التي صنعت وعيًا جماهيرًا وهوية مشتركة، 2 يوليو 2020م.
[5]  صحيفة العرب، الطباعة حرام، الطباعة حلال!، 21 سبتمبر 2019م.
[6]  عبدالحفيظ بن محمد الطاهر بن عبدالكبير الفاسي، معجم الشيوخ، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 2003م، ج1، ص49.