الكُتب والقِراءة في حياة الشيخ الصفار
تشكَّلت عَلاقة سماحة الشيخ حسن الصفار بالكتب مُذ كان في عَقده الأول؛ إذ بدأ الخطابة الدينية في التاسعة من عمره، حينها صار يجمع الكتب التي يحتاجها الخطيب وقراءتها، وذلك في بيت والده الحاج موسى، رحمه الله، في القطيف. ولكنه لم يكتفِ بالكتب التي تُناسب المجالس الحُسينية، بل قرأ كلَّ ما يقع تحت يديه منها، من كتبٍ فكريةٍ وثقافيةٍ، بما في ذلك كتبُ الشِّعر والأدب. وما الخطابة المتميزة التي وضعته في الصف الأول من خطباء المنبر الحسيني إلا نتيجة لقراءاته المتنوعة والغزيرة في مختلف مراحل عمره.
وعن هذه المرحلة يقول الشيخ الصفار: كان كتاب الأزهار الأرجية «للشيخ فرج العمران» من أوائل الكتب العامة التي قرأتها خارج سياق كتب تحضير الخطابات، وقد تعلقت بالكتاب كثيرا، وكنت أترقب أجزاءه الجديدة، ولعل السبب الأساس أنه كان يلبي حاجتي للتعرف على أجواء الوسط الديني الذي أصبحت جزءا منه كخطيب وطالب علم، ففيه تراجم للعلماء والخطباء والأدباء، واستعراض لمواد وكتب ومراحل الدراسة في الحوزات العلمية، من خلال تلك التراجم والسير، وتوصيف للمناسبات والأعراف والتقاليد داخل المؤسسة الدينية، كما يضم معلومات تاريخية وأدبية عن المجتمع القطيفي. موسوعة الموسم المجلد 172 السنة 36 - ص 46. ويضيف: لقد قرأت أجزاءه أكثر من مرة، وأعددت فهرسا لعلماء المنطقة المذكورين في كل أجزائه الخمسة عشر، كما وضعت فهرسا آخر لما يرتبط بحياة المؤلف الشيخ فرج، بتصنيف موضوعي: شعره، أسفاره، إجاباته على الأسئلة، وكالاته وإجازاته، أخلاقه، أطيافه ومناماته إلى سائر الجوانب. المصدر السابق ص 46.
وفي علاقتي بسماحة الشيخ، وفي كل مرة كنت ألتقيه كان هناك سؤال يتكرر معي - ومع غيري - وهو: «ماذا تقرأ هذه الأيام؟» أو «ما آخر كتاب قرأته؟». وبالنسبة لي فقد كنت أحاول تحضير الإجابة عن هذا السؤال دائمًا قبل لقاءاتي به. وفي حال انشغالي بأمور عدة كنت أحاول قراءة أو مراجعة بعض الكتب قبل موعد لقائي به، لأنه كان يُناقشني فيها، وقد يطلب تقييمًا عنها.
ودائمًا ما يقترحُ سماحته على مَن يجتمع به مجموعة كتب للقراءة، بما يتناسب ومستوى واهتمام كل شخص، كما كان يُهدي نُسخًا من كتبه إلى زُوَّاره مع كتب لمؤلفين آخرين في حال توفر نسخ إضافية منها لديه.
وفي مذكراته «ظلال من الذاكرة» تحدث عن مرحلة شبابه بقوله إنه كان يستهويه الأشخاص الذين لديهم مكتبات في منازلهم، وذكر منهم في القطيف: ملا علي الطويل، والملا عبد الله بن سعيد آل سيف، وكان ضريرًا ولديه مكتبة منزلية. وارتاد مع والده مكتبة الشيخ سعيد أبو المكارم «في العوامية»، وجلس فيها ساعات طويلة للقراءة، وعمل فهرسًا لها، «ظلال من الذاكرة، ص 24».
وكان سماحته آنذاك يشتري الكتب من بعض المكتبات، أو البائعين الجوالين، «ص 24 و 25». وقال عن نفسه في تلك الفترة: «وهكذا انفتحت على عالم الكتاب الرحيب، وترسخت قيمته في نفسي، وعشقت القراءة والمطالعة، ووجدت نفسي أمام آفاق جديدة واسعة من الثقافة والمعرفة، تتخطى حدود ما كنت أسمعه من الخطباء سابقاً، فصرت أعتمد على نفسي في التحضير وإعداد موضوعات الخطابة، وأدركت أهمية الاطلاع وتوسيع الأفق الثقافي والمعرفي». وأستطيع أن أضيف هنا أنه كان يستعد لموسم شهر محرم كل عام بالتحضير المبكر بالقراءة والاطلاع قبل عدة شهور من الموسم.
وفي مقتبل عمره أسَّسَ سماحته مكتبة خاصة به، وصفها بقوله: وفي بضعة أشهر تكونت لدي مكتبة، وأصبحت بحاجة إلى مكان يستوعب توسعها، فهيأ لي الوالد غرفة فوق سطح المنزل، تحتوي على دواليب ورفوف للكتب، وحين اشترى الوالد أرضاً جديدة لبناء منزل جديد في حيّ «المسعودية» كانت غرفة المكتبة جزءاً من مخطط البيت. المصدر ص 25
وعندما سافر سماحته للدراسة الدينية في النجف الأشرف لم يكتف بكتب الحوزة العلمية بل كان يزور المكتبات العامة والخاصة هناك، ومنها مكتبة أمير المؤمنين. ومن الكتب المهمة التي قرأها آنذاك وتأثر بها كِتابا السيد الشهيد محمد باقر الصدر «فلسفتنا» و«اقتصادنا»، ومتابعة مجلة «الأضواء» التي كانت تصدر عن جماعة العلماء، وكتابات الشيخ محمد أمين زين الدين «إلى الطليعة المؤمنة» و«الإسلام ينابيعه وغاياته» و«العفاف بين السلب والإيجاب». «ظلال من الذاكرة، ص 79».
وقد استمرت علاقته بالقراءة وبالكتب وثيقة أينما حلّ وارتحل، ومهما كثرت مشاغله فإن القراءة كانت أمرا أساسيا في حياته، وهو ما لاحظتُه في الفترات التي كنت فيها قريبًا منه، حيث كنت ألاحظ وجود كتب جاهزة للمطالعة في مكاتبه في المدن التي أقام فيها.
ومما يُثير إعجابي في شخصيته تنوُّعُ اهتماماته القرائية ما بين دينية حوزوية خالصة، إلى ثقافة دينية عامة، إلى فكرية وسياسية وحتى اقتصادية وعلمية. كل هذا إضافة إلى اطلاعه على أهم الصحف والمجلات التي كانت تصدر في أي بلد يقيم بها، وهو ما يتكشف من محاضراته العامة أو أحاديثه وحواراته مع زُواره وتلامذته.
كما يتمتع سماحته بذاكرة قوية؛ ينعكس ذلك في المقتطفات التي يذكرها من الكتب التي يقرؤها، وحتى من بعض تواريخ الأحداث التي يرويها. وطالما سمعته يقترح كتبًا معينة على مَن يسأله عن موضوع ما لبحث يكتبه.
وأخيرًا.. فقد دأبَ على تشجيع الآخرين على كتابة وطباعة الكتب «وأنا منهم»، ولم يكن يتردد في قبول كتابة مُقدّمة للكتب التي تعرض عليه، حيث أخبرني أحد المقربين منه أنه كتب قُرابة 150 مقدمة لكتب صدرت، وهو رقمٌ قياسيٌّ في الساحة العربية يَشي بمدى اهتمامه بعالم الكتب والمؤلفات والتشجيع على طباعتها.