حين يختلف العلماء
قد يحدث الاختلاف والنزاع داخل أي شريحة من شرائح المجتمع، وعلى أي مستوى من مستوياته، وهو أمر سيئ ضار، لكن أضراره تبقى ضمن حدود معينه ، أما إذا حدث الاختلاف والنزاع في وسط علماء الدين، فإن الأضرار ستكون اشد، والخطر اعظم .وذلك لأنه ينطوي على الأبعاد التالية:
في الخلاف بين علماء الدين، يصبح الدين هو ميدان الصراع، وتكون القضايا الدينية هي أدوات النزاع والخلاف، حيث يسعى كل طرف للتحصن بالدين، في مقابل الطرف الآخر، وتعزيز موقفه في النزاع بمبررات دينية، وقد يكون جوهر الصراع في بعض الاحيان اختلافاً مصلحياً، لكنه ما يلبث أن يأخذ المنحى الديني، أو يكون في البداية اختلافاً محدوداً، ضمن مسألة من المسائل الدينية، لكن حالة الصراع توسّع رقعة الخلاف، وبشكل مفتعل متكلف، يطال اغلب المسائل والقضايا الدينية، حتى يصبح الدين الواحد دينين، والمذهب مذهبين، والمدرسة الفكرية تنشطر إلى مدرستين..
ثم يزايد كل طرف على الآخر في التمسك بالدين، ويتهمه في دينه وعقيدته والتزامه، ويعطي لنفسه الحق في إصدار أحكام التكفير والتفسيق والمروق والخروج من الدين..
وهكذا يصبح الدين ساحة صراع، وخنادق للقتال، ومواقع للمهاجمة والرمي وتصويب السهام، فتتمزق الأمة وتحترب وتتشرذم باسم الدين، وتحت رايات تحمل شعاراته وخلف قيادات تلبس مسوحه.
لعل من أسوأ واخطر آثار الصراع والخلاف بين علماء الدين، انعكاسه على طرح وتبيين الحقائق الدينية. فقد يلجأ بعض أطراف الصراع أو كلاهما إلى إنكار حقيقة دينية، أو طمسها، لأن الطرف الآخر يستفيد منها، أو يقول بها.
وقد يحرّف شيئاً من مفاهيم الدين، أو ينسب للدين ما ليس منه، نكاية بالطرف الآخر، وكم حصل في الديانات السابقة وحتى في الإسلام، تحريف وتزوير وإضافة وإنقاص، بسبب حالات الخلاف والصراع، بين المذاهب والمدارس والجهات الدينية.
وفي اكثر من آية في القرآن الكريم، جاء التحذير من التحريف والتزوير، والطمس للحقائق الدينية، بدوافع مصلحية، وعلى خلفية التعصب والاختلاف. يقول تعالى: ﴿من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه﴾ أي يصرفونه عن المعنى المقصود منه وينسبونه إلى معنى آخر. وحينما يجد عالم الدين نفسه في مقابل عالم آخر، فان الدوافع الذاتية قد تدفعه لإثبات تميزه، أو تفوقه على مقابله، وإن كان ذلك على حساب الحق والحقيقة، إلا من عصم الله من الورعين المخلصين الأتقياء.
من هنا جاءت شريعة الإسلام، وتوجيهات أئمة الهدى، للتحذير من الدخول في أي نقاش أو مناظرة تشوبها الدوافع الذاتية ، فالحوار والجدال مع الآخرين المختلفين مع الإنسان دينياً، يجب أن يكون خالصاً لخدمة الحق، واستكشاف الحقيقة ، وضمن الآداب والضوابط، التي ترتقي بالحوار والجدال إلى افضل مستوى، واحسن أسلوب، كما يقول تعالى: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾، ﴿وجادلهم بالتي هي احسن﴾.
إن الإخلاص للحقيقة والموضوعية في الحوار والمناظرة عند الاختلاف، تستلزم القبول بالحق، وإن جاء على لسان الخصم ، وحتى لو كان الطرف الآخر مبطلاً في اصل دعواه واتجاهه، لكنه أورد برهاناً صحيحاً في معرض جداله، فانه لا يصح رفض البرهان الصحيح بسبب العجز عن مقابلته . وقد افرد الإمام أبو حامد الغزالي باباً في موسوعته ( إحياء علوم الدين ) لبيان آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق.