الأمة ومشاريع الوحدة
الوحدة اصل ثابت من أصول مقاصد الإسلام، وهدف أساس للامة الإسلامية التي أرادها الله أمة واحدة ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾ والاختلاف والنزاع حالة مضادة ومناقضة لأساس الدين وغايته يقول تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾ ويقول تعالى: ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾.
لسنا بحاجة للوقوف طويلاً، للحديث حول ضرورة الوحدة، وأهميتها، وموقعيتها، على المستوى الديني، فذلك أمر مفروغ منه، واضح لدى كل مسلم واع.
لكن، وبالنظر إلى الواقع التجزيئي الذي تعيشه الأمة، فان السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو : ما الخطوة الأولى في طريق الوحدة؟
فمنذ اكثر من نصف قرن، كان هناك من يراهن على دور الأنظمة والحكومات، في العالم العربي والإسلامي، لكي تصنع واقع الوحدة، من خلال الأطر والمؤسسات الرسمية، وعبر العلاقات والتحالفات الثنائية بينها .. وكانت جماهير الأمة تهلل فرحاً، لكل مؤسسة رسمية، ترفع راية الوحدة، أو إطار إقليمي يتبنى التعاون والتنسيق، أو أي صيغة تبشّر بتوجه وحدوي، ولو بين دولتين وقطرين من أقطار المسلمين.
لكن اغلب الحاكمين، تسيطر عليهم نزعة التسلط والتفرد، وليسوا مخلصين لمصلحة الأمة، ولا جادّين في تحقيق آمالها وتطلعاتها ، كما لا يمتلكون مستوى من الوعي السياسي الحضاري الذي يدفعهم للتعاون فيما بينهم.
من هنا، أصبحت المؤسسات الرسمية ذات الطابع الوحدوي هياكل شكلية، وبقيت الأطر دون محتوى ومضمون حقيقي، وانتهت أغلب مشاريع الوحدة إلى التفكك والخلاف والنزاع، كمجلس التعاون العربي الذي دعا إليه صدام قبيل غزوه للكويت والاتحاد المغاربي.
وهناك من يرى أن الوحدة يجب أن تبدأ من جماهير الأمة، وذلك بتعبئة الجمهور، ودفعه لفرض الوحدة، وان يمارس الناس السلوك الوحدوي، ويجسدون عملية الوحدة في تعاملهم الاجتماعي.
وإذا ما أصبحت الوحدة مطلباً للناس، وتحركوا لتحقيقه، فان إرادتهم ستنتصر على القوى والعناصر المناوئة والمضادة للتوجه الوحدوي.
ولكن، كيف يمكن تعبئة الناس باتجاه الوحدة ، وهناك واقع من التمايز والتنوع القومي والعرقي والمذهبي والإقليمي والسياسي والطبقي؟ .. وكل لون من ألوان التمايز، قد صنع له فلسفة وتنظيراً، وشاد عليها مواقف وهياكل ومؤسسات، بهدف الدفاع عن الذات، والخصائص المميزة، في مواجهة ما يعتبره تهديداً لتلك الخصائص ومحاولة لفرض الذوبان وتجاوز الحقوق.
كانت الأمة في سالف عصورها الأولى، تعيش حالة حضارية ونموذجية للوحدة حيث انصهرت في بوتقة الإسلام شعوب مختلفة ومتمايزة عرقياً وقومياً وقبائلياً ، ومع انبثاق مدارس اجتهادية متعددة دينياً وسياسياً إلا أن الأجواء العامة للأمة كانت تنعم بمشاعر الوحدة، وكانت الأنظمة والقوانين السياسية والاجتماعية قائمة على هذا الأساس.
ومع حصول الكثير من الانحرافات السياسية والإدارية على الصعيد الرسمي إلا أن الحالة الشعبية كانت تعيش واقع الوحدة والاندماج ولم يكن هناك شعور بالتناقض والتعارض بين الخصائص والميزات العرقية والقومية، التي لم تكن ممارستها تثير أية حساسية، ولا كان يترتب عليها أي اثر، في الحقوق العامة، يميز بين ذوي تلك الانتماءات وما بين الانتماء إلى الكيان الواحد للامة الواحدة.
لكن المؤسف والمؤلم هو ما حصل في هذه العصور المتأخرة، من حصول زخم من المشاعر والأحاسيس العميقة في نفوس أبناء الأمة باتجاه التأكيد على جوانب التمايز القومي والعرقي والطائفي والمذهبي.
مما يجعل عملية التوعية والتعبئة باتجاه الوحدة تحتاج إلى جهد خارق وبرمجة دقيقة لكي تتجاوز حالة الشعار والمشاعر، وتتحول إلى طروحات فكرية وبرامج عملية تعالج المخاوف والتحفظات وتعطي الاطمئنان لمختلف الجهات، بأن الوحدة لا تعني مصادرة خصائصها وميزاتها، بل تفسح لها المجال لتشارك في بناء الكيان الشامل، ولتتكامل مع سائر الجهات والأطراف.
ومشكلة أخرى نواجهها في طريق تعبئة جمهور الأمة باتجاه الوحدة، هي وجود الدعاوى والمدعين، من حاملي رايات الوحدة، ورافعي شعاراتها، من حكام وأحزاب، ومراكز قوى وفاعليات ، في الوقت الذي تجيّر فيه هذه الدعوات وتستثمر لأغراض مصلحية مناقضة للهدف الوحدوي ، فكم من تجزئة وتفرقة ونزاع جرى تحت رايات الوحدة وعلى أنغام موسيقى شعاراتها؟ مما احدث شيئاً من اليأس وردة الفعل والتشكيك في الدعوات الوحدوية لدى قطاع من جماهير الأمة.
كما يحصل الالتباس والخلط، فيصعب على الناس التمييز بين الدعوات الصادقة والأخرى الزائفة.