علماء الدين والمسؤولية الخطيرة
التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي حققته الحضارة الغربية المعاصرة لم يستطع الغاء الدين في حياة الانسان، ولا التعويض عنه والحلول محله، كما توقع المنبهرون بهذه الحضارة المادية مطلع القرن العشرين.
بل على العكس من ذلك، فقد أفرزت هذه الحضارة الكثير من الأزمات الاجتماعية، وأثارت العديد من التساؤلات الفلسفية والفكرية، ووضعت الإنسان أمام تحديات صارخة في مختلف جوانب الحياة.
مما أكد لإنسان العصر ضرورة العودة إلى الدين، والتفيؤ بظلاله الوارفة وأحضانه الدافئة هربا من العراء والتصحر المادي الذي أفقد الإنسان إنسانيته، وأضاع أحاسيسه ومشاعره النبيلة، وحوله إلى أداة وسلعة تتحدى قيمته بمدى إنتاجه المادي، ويتعاطي معه على أساس نفعي مصلحي مجرد.
وعودة الدين إلى حياة الإنسان بل عودة الإنسان إلى أحضان الدين، في هذا العصر، ظاهرة عالمية واضحة في كل أرجاء المجتمعات البشرية، وضمن مختلف الديانات، إلا أن الإسلام يأتي في طليعة الديانات الأوسع نمواً وانتشاراً والأقوى حضوراً وإحياء في ساحة معتنقيه.
هذه الظاهرة تجعل الدين، من جديد، على محك التجربة العنيفة، وأمام الامتحان الصعب .. فهل يقدم للبشرية ما تحتاج إليه من إجابات ؟ وهل يمتلك الحلول والمعالجات للأزمات الحادة التي تعانيها المجتمعات الانسانية المعاصرة؟
إن علماء الدين هم الجهة المعنية أساساً بهذا التحدي الذي يواجهه الدين اليوم، فهم المتخصصون في دراسته، والمتعمقون في معرفته والمتصدون لنشره وتبيين مفاهيمه وأحكامه .
وعلى عاتقهم تقع مسؤولية تقديم البرامج والمعالجات للإشكاليات المثارة، والتحديات القائمة، على ضوء هدي الإسلام ومن خلال مبادئه وتعاليمه.
لكن المشكلة أن الكثيرين من علماء الدين يعيشون الغربة عن عصرهم، فلا يواكبون التطورات ولا يدركون عمق التحديات، وتشغلهم اهتمامات العصور الماضية في مجالات الفكر والفقه.
تعيش الأمة الإسلامية واقعا غير إيجابي فبينها وبين ركب الحضارة المادية المتقدم مسافة شاسعة.
وفي شتى مجالات الحياة، تواجه المعضلات والتحديات فالوضع السياسي مضطرب في أغلب الدول الإسلامية من جراء فقد الاستقرار والأمن.
والحالة الاقتصادية سيئة، مع وفرة الإمكانات والثروات في العديد من البلدان الاسلامية لكن الإدارة متخلفة، والتنمية الاقتصادية متعثرة.
والحركة العلمية والفكرية ضعيفة بطيئة، حيث يقل الإبداع والتطوير.
والعلاقات الداخلية بين الدول والجهات والقوى المختلفة في الأمة لا تتسم بالتفاهم والانسجام بل تسودها حالات النزاع والخصام.
لكن ما يبعث الأمل هو حركة جماهير الأمة، وانبعاث الصحوة الإسلامية المباركة في هذا العصر.
هذا الانبعاث بحاجة إلى مناهج ورؤى فكرية ثقافية تصوغ ذهنيات أبناء الأمة، وتحفظ أصالتهم، وترشد حركتهم، وتعينهم على استيعاب تطورات العلم والفكر. وبحاجة إلى برامج وخطط عملية لبناء المستقبل المنشود. وإذا لم تتوفر المناهج الفكرية والبرامج العملية، وبقي الحماس والاندفاع وحده سيد الموقف، فإن هذا الانبعاث تتهدده أخطار عظيمة، قد تنحرف بمساره وتغتال الآمال المعقودة عليه.
وما يلاحظ الآن من وجود حالات تزمت وتطرف عند بعض الجهات العاملة باسم الإسلام، أو سياسات خاطئة منحرفة تطبقها قوى إسلامية، كل ذلك مؤشر على الفقر في المناهج والبرامج الفكرية العلمية، يثير القلق على مستقبل الدين والأمة.
والأنظار شاخصة نحو علماء الدين لكي يتصدوا لإبداع المناهج، وابتكار البرامج المنبثقة من وحي الدين، والتي تساعد الأمة على إنجاز عملية النهوض والتغيير، وترسم أمامها طريق المستقبل الحر الكريم.
المطلوب من علماء الدين في هذا العصر بالدرجة الأولى استنباط الحلول والمعالجات لما يواجه البشرية من مشاكل وأزمات، وذلك يقتضي فهم قضايا العصر، والانفتاح على تطورات العلم والحياة.