الخطاب الديني من أجل التنمية والبناء

يتوفر الخطاب الإسلامي المعاصر في معظمه على لونين من الاهتمامات:

الاهتمام الأول المتمثل في عرض المعتقدات والأحكام والأخلاقيات، والاهتمام الجهادي الذي يعبأ باتجاه مقاومة الأعداء الخارجيين والداخليين، ودفع أبناء الأمة للبراءة منهم ومواجهتهم.

وقد تشكلت لكل من الاتجاهين ثقافة واسعة، مليئة بالاستشهادات من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف، وبالمصطلحات العلمية والفكرية، وبالشواهد التاريخية، والخبرات والتجارب المستجدة.

ولكل من الاتجاهين قنوات تواصل مع الجمهور عبر الوسائل المسموعة والمطبوعة، وبالاستفادة من تطورات التكنولوجيا الحديثة في مجال الإعلام والاتصالات.

بالتأكيد فإن هذين الاتجاهين نابعان من صميم المعرفة والتشريع الإسلامي، ولا يمكن الاستغناء عنهما ولا تجاهلهما في حياة الأمة. بيد أن هناك اهتماماً آخر يبدو أنه مغيب أو مهمش في الخطاب الديني المعاصر، مع شدة الحاجة إليه، وهو الاهتمام بجانب التنمية والبناء.

فمجتمعاتنا الإسلامية تواجه تحديات عميقة على صعيد تسيير أمور حياتها، وحفظ مصالحها، وانتظام علاقاتها الداخلية والخارجية، وتحتاج إلى الكثير من المعارف والخطط والبرامج لمواجهة هذه التحديات.

إن توفر العقيدة الصحيحة، وأداء العبادات المشروعة المطلوبة، والبراءة من أعداء الله، كل ذلك وحده لا يحقق مقاصد الشريعة، في إقامة العدل والقسط، الذي نصت عليه الآية الكريمة: ﴿لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ، وفي بناء الحياة الطيبة التي تحدثت عنها الآية الكريمة: ﴿مَن عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وفي تقديم النموذج الحضاري الأفضل للمجتمعات البشرية، الذي تشير إليه أكثر من آية في القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ، وقوله تعالى: ﴿وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ.

إن هذه المقاصد والأهداف وأمثالها لا تتحقق إلا عبر برامج ومناهج لتنظيم مختلف شؤون الحياة. وحينما لا تتوفر هذه المناهج في إطار عقيدة الأمة وشريعتها، فإن البديل هو الاستعارة من حضارات الآخرين، والتخلف والجمود.

وهذا هو بالضبط ما تعانيه أكثر مجتمعاتنا الإسلامية، وأول خطوة في تجاوز هذه المعاناة، هي الاجتهاد في بلورة برامج الإسلام ومناهجه، لصياغة حياة المجتمع، وبناء علاقاته الداخلية، وتحفيز قدرات أبنائه على الفاعلية والإنتاج، ورسم خطط التنمية في أبعاد الحياة المختلفة.

ومن أبرز ما يجب أن يركز عليه الخطاب الديني في مجتمعنا ما يلي:

1/ رفع مستوى التعليم: فهناك تدن ملحوظ في اهتمام الشباب بالدراسة والتعليم، وهذا ما تشكو منه الوزارة وإدارات التعليم والعوائل، ومع أن هناك عوامل عدة لهذه الحالة، إلا أن مدى جدية الطالب واهتمامه هي العامل الأهم، فنحتاج إلى تعبئة شعبية لرفع مستوى الاهتمام الدراسي، وتشجيع الأبناء على الاستمرار لمواصلة الدراسات العليا، ودعوة أهل الخير لتبني المشاريع التعليمية كبناء المدارس وإنشاء الجامعات الأهلية، وابتعاث الطلاب للدراسات التخصصية.

فذلك هو من أفضل سبل خدمة الدين والأمة في هذا العصر، ومن أبرز مصاديق العمل في سبيل الله، وليس بناء المساجد أو طبع الكتب الدينية أو مساعدة المحتاجين فقط.

إننا نريد أن يظهر أثر خطب الجمعة على المستوى التعليمي لأبنائنا بمعنى أن يخرج الطالب من صلاة الجمعة وهو أكثر حماساً لدراسته واجتهاداً فيها.

2/ التحريض على الفاعلية والعمل في مختلف ميادين الحياة، إن مختلف أجهزة الدولة، والشركات الخاصة تشكو من ضعف التزام بعض الموظفين والعاملين بأداء واجباتهم الوظيفية، فيجب أن نثير عند كل موظف وعامل الشعور بالمسؤولية أمام الله تعالى ثم تجاه الشعب والوطن، ليكون أكثر انضباطاً وأفضل أداءً وإنجازا.

إن التساهل في أداء العمل الوظيفي لا يقل إثماً عن التساهل في أداء الصلاة وسائر العبادات الدينية، بل قد تكون تبعاته أسوأ أثرا في حياة المجتمع.

فتساهل الطبيب أو الممرّض قد يؤدي بحياة إنسان، وتساهل أي موظف في جهاز حساس قد يضيع مصالح الوطن والمواطنين.

3/ التأكيد على وحدة المجتمع وسلامة العلاقات الداخلية بين أبناء الأمة، فقد أثخنت جسم الأمة جراحات التفرقة والخلافات، وبمختلف العناوين الدينية والقومية والقبلية والفئوية، فيجب مكافحة توجهات التحريض والتعبئة بين كل الأطراف، والدعوة إلى التعايش والتحاور والتعاون، بما يعني ذلك من قبول التعددية واحترام الرأي الآخر، والاهتمام بالمصالح المشتركة.