ثقافة الاستهتار بالحياة
هذا الدين العظيم الذي يقدّس الحياة، ويعتبر العدوان عليها أشد جريمة، كيف سادت في بعض أوساط أبنائه ثقافة الاستهتار بالحياة؟! وكيف أصبح ستاراً وغطاءً لأفظع جرائم العدوان على الحياة؟!
لقد تناقلت الصحافة السعودية أن شاباً أندونيسياً (روسلي سادي 26 عاماً) قدم إلى الحج عام 1423هـ ولتوه قد تزوج، ألقى بنفسه من الطابق التاسع من فندق بشارع أم القرى في مكة، تاركاً رسالة تفيد بأنه سمع عن فضل من مات في مكة وأنه يدخل الجنة، فقرر ألا تفوته هذه السعادة، فودّع زوجته قائلاً: «إلى اللقاء في الجنة» وقفز أمامها لتتحول جثته إلى أشلاء!! (جريدة عكاظ 4 ذو الحجة 1423هـ).
وفي حادثة أخرى: ضبطت شرطة الحرم المكي الشريف حاجاً أوروبيا إثر اعتدائه على حاج يمني الجنسية بسكين غرسها في ظهره، زاعماً أن الحاج اليمني هو المسيح الدجال! ذاكراً أنه قبل قدومه إلى مكة المكرمة رأى في المنام أنه سيتمكن من رؤية المسيح الدجال في مشاعر الحج، واصفاً شكله بأنه ذو لحية طويلة، وكريم عين، وهي المواصفات نفسها التي تنطبق على الحاج اليمني الضحية لذا راقبه أثناء الطواف وهجم عليه صارخاً: «إنه المسيح الدجال.. إنه المسيح الدجال»، يذكر أن هذا الحاج المعتدي أوروبي في العشرينات من العمر ويدرس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة!(جريدة الوطن السعودية 23 فبراير 2002م).
كما ذكرت الأنباء أن الشرطة الألمانية اعتقلت مهاجراً تركياً يبلغ من العمر 59 عاماً، أقدم على قتل تركيين آخرين بالرصاص بعد صلاة الفجر في مسجد في بلدة غلزنكيرشن غرب ألمانيا، واعترف القاتل بجريمته مدعياً أن القتيلين كانا تفوها بألفاظ تضمنت إهانة لشرفه ومساساً بشرف زوجته.
وقد عرف عن القاتل شدة تدينه ومواظبته على الصلاة، وقيامه بالحج إلى مكة المكرمة(جريدة الحياة 27/1/2004م عدد 14915)، أليس مخجلاً صدور مثل هذه الممارسات من أشخاص يعيشون أجواء دينية؟ ألا يشير ذلك إلى خلل في الثقافة التي ينهلون منها؟ صحيح انها حالات فردية، لكنها مع تكرارها جرس إنذار يجب أن يدفعنا إلى الدراسة والفحص عن الخلفيات والأسباب.
وفي هذا السياق تأتي جرائم العدوان والقتل تحت عنوان الدفاع عن الشرف أو جرائم الشرف، وذلك بأن يقوم الأب أو الأخ أو الزوج بقتل المرأة عند الشك في سلوكها الأخلاقي، وتكثر هذه الحوادث في الأردن لأن القانون يتساهل في عقوبتها، وقد أزهقت أرواح كثير من الفتيات لمجرد الظنون والشكوك، وبأيدي أقربائهن، وضمن صور ومشاهد مأساوية فظيعة!!
وقد تأتي الوفود لتهنئة القاتل ومساندته ويلقى تعاطفاً واسعاً. ويقتل في الأردن ما لا يقل عن 25 امرأة سنوياً بهذا الشكل.
وقالت منظمة العفو الدولية في تقرير لها عام 1999م عن باكستان: إن عدة مئات من النساء يتعرضن للقتل باسم الشرف في باكستان كل سنة، ونادراً ما يحال القتلة إلى ساحة العدالة. ففي يوم 6 يناير 1999م أضرمت النار في فتاة تدعى (غزالة) وورد أن أخاها هو الذي أشعل النار فيها حتى ماتت حرقاً، في مدينة جوهر آباد بمقاطعة البنجاب، لأن أسرتها كانت تشتبه في أنها أقامت علاقة غير مشروعة مع أحد الجيران، وورد أن جسدها العاري المحترق ظل ملقى على قارعة الطريق لمدة ساعتين بسبب عزوف الجميع عن التدخل في الموضوع(موقع منظمة العفو الدولية على شبكة الانترنت، وثيقة رقم ASA 23/2/99).
وتأتي الآن العمليات الانتحارية والإرهابية التي تستهدف الأبرياء من رجال ونساء وأطفال تحت عنوان الجهاد ومحاربة الكفار والموالين لهم، كأفظع نتاج لثقافة الاستهتار بالحياة وباسم الدين مع الأسف الشديد.
في مقابل إفراط الإعلام الغربي في اثارة الغرائز وتأجيج الشهوات، وتجاهله للقيم الروحية، والمبادئ الانسانية غالباً، فإن الخطاب الإسلامي يعاني التفريط غالباً في التذكير بقيمة الحياة، وأهمية حمايتها، ودعوة الإنسان للاستمتاع بخيراتها ومباهجها.
حتى ساد تصور في بعض الاوساط الدينية وكأن الإسلام دين من أجل الآخرة فقط، وبرنامج للحياة الأخرى، اما الدنيا فلا قيمة لها، ولا أهمية للحياة فيها.
يبدو للبعض إن هناك تعارضاً ظاهراً بين طائفتين من النصوص الدينية: إحداهما تؤكد على قيمة الحياة واهميتها، وضرورة استثمارها والاستفادة منها، والأخرى توجه نظر الإنسان إلى الدار الآخرة باعتبارها المقر النهائي والحياة الخالدة، وتنصح بالزهد في الدنيا والابتعاد عن شهواتها.
وينبغي النظر إلى هاتين الطائفتين من النصوص بموضوعية وتوازن، ولا يصح الاهتمام باحداهما وإهمال الاخرى.
إن النصوص الدينية التي تتحدث عن أفضلية الآخرة وضرورة التوجه إليها، وتدعو إلى الزهد في الدنيا، إنما تريد كبح جماح الشهوات والغرائز الهائجة عند الانسان، والتي تسف به إن استجاب لها دون حدود إلى المستوى الحيواني الهابط، إنها تريد تذكير الإنسان بالجانب الاهم في شخصيته، جانب العقل والضمير والوجدان، ليمارس حياته ملتزماً بالقيم والمبادئ.
أما النصوص التي تتحدث عن قيمة الحياة واهميتها فهي واضحة صريحة، إن القرآن الكريم يقدم الدعوة الإسلامية باعتبارها دعوة الحياة، يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم﴾
والمؤمن الواعي -كما يصفه القرآن الكريم- يطلب من الله تعالى النجاح في الدنيا اولاً ثم النجاح في الآخرة، يقول تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾.
ولتذكير المؤمن بالحفاظ على دوره وحصته من الاستمتاع بخيرات الحياة يتوجه إليه الامر الالهي: ﴿وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِن الدُّنيَا﴾.
إن واجب الانسان شرعاً أن يحرص على أي لحظة يعيشها في هذه الحياة الدنيا فلا يفرّط فيها. لان الحياة الدنيا مزرعة للآخرة وهذا حكم شرعي يجمع عليه فقهاء الإسلام، فلا يجوز للإنسان أن ينهي حياته ولو حدد له الاطباء ساعة معينة سيفارق فيها الحياة، إن الله تعالى يقول: ﴿وَلاَ تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلَى التَّهلُكَةِ﴾.
وفي كتب الاحاديث الدينية باب حول كراهة تمني الموت. جاء في صحيح البخاري حديث رقم 5671 عن انس بن مالك رضي الله عنه، قال النبي : «لا يتمنين احدكم الموت من ضر أصابه».
نعم هناك حديث عن قيمة الشهادة في سبيل الله تعالى، ولكنها تعني الموت من اجل توفير حياة افضل للبشر، أي للانتصار لقيم الحق والعدل، ضمن معركة شرعية وبقيادة شرعية، تلتزم الحدود والضوابط.
أما أن يستهتر الإنسان بحياته أو حياة الآخرين فهو تهور وتهلكة وإجرام وليس من الجهاد والشهادة في شيء.