كيف ننمي إرادة التعاون؟
إن واقع التعاون داخل الشعوب والمجتمعات الإسلامية ليس أحسن حالاً منه بين الحكومات، فحالة التنافر والتباعد هي السائدة بين مختلف القوى والجهات، من مذاهب وطوائف وأحزاب ومؤسسات، وحتى ضمن المذهب الواحد والمدرسة الواحدة، هناك عجز عن التعاون وتنسيق المواقف والجهود.
في هذا السياق نشرت الصحف هذه الأيام خبراً من العراق يحمل الكثير من الدلالات، حيث دشن ممثل (الكنيسة الانغليكانية) البريطاني (اندو وايت) المركز العراقي للحوار والمصالحة والسلام، وباشر دوره للقيام بالمصالحة بين القيادات الدينية العراقية السنية والشيعية، ونجح في عقد أول لقاء من نوعه بين السيد حسين الصدر كبير علماء الشيعة في بغداد وبين الشيخ عبدالقادر العاني من كبار علماء السنة هناك.
هكذا يحتاج عقد لقاء بين عالمين مسلمين عربيين عراقيين في مدينة واحدة، يعيش بلدهما أصعب الظروف حيث الاحتلال الأجنبي، وخطر التمزق الطائفي، يحتاج ذلك إلى وساطة من قبل ممثل الكنيسة البريطانية!!
إن هذه المفارقة المذهلة بين عجزنا عن التعاون فيما بيننا على مختلف المستويات، ونجاح الآخرين في اعتماد التعاون والمشاركة منهجية عامة لحياتهم وعلاقاتهم، تجعلنا أمام تحد كبير، وسؤال خطير، عن الأسباب الكامنة وراء هذه المفارقة؟
إننا ننتمي إلى دين يقرر الوحدة بين أتباعه كأصل لازم، إلى جانب أصل عبادة الله تعالى وتقواه، يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُم فَاعبُدُونِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُم فَاتَّقُونِ﴾.
ويوجه القرآن الكريم أمراً صريحاً بوجوب التعاون والمشاركة في أعمال الخير، يقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى﴾.
إن نصوصاً دينية أخرى تأمر الإنسان بالقيام بأعمال البر والتقوى، لكن هذه الآية تأمر بالمشاركة واعتماد منهجية العمل الجمعي لإنجاز أعمال البر والتقوى.
وفريضة الحج أوجب الله تعالى أداءها بشكل جمعي بتحديد زمان ومكان ونسك واحد لجميع الحجيج.
وقد جاء في الحديث عن رسول الله أنه قال: «يد الله مع الجماعة» (كنز العمال، حديث رقم 20241).
هذه التعاليم الدينية تهدف بعث روح العمل الجمعي، وتربية الأمة على منهجية التعاون والمشاركة. فلماذا لا تترك أثرها المطلوب في واقع حياة المسلمين؟
إن الوحدة والتعاون بين قوى الأمة شعار يرفعه الجميع، وقضية لا يعلن أحد معارضتها، ولكن كيف السبيل إلى تحقيق ذلك وتجسيده على أرض الواقع؟
يبدو أن هناك عوائق وإشكاليات أمام إرادة التعاون في مجتمعاتنا، تحتاج إلى تسليط الأضواء، والمعالجة الصريحة، وهي في غالبها ذات بعد نفسي سلوكي، ومن أبرزها:
عدم الشفافية والمكاشفة عند بحث العلاقات، ومشاريع التعاون، ففي المجتمعات الأخرى يتكلم كل طرف أمام الآخر عن مصالحه بجرأة ووضوح، ويحدد ما يريد وما يرفض، ويعرب عن هواجسه ومخاوفه بدون مواربة، أما في مجتمعاتنا فإن أسلوب المجاملة والمداراة هو المتداول، حيث تتكلم الأطراف حينما تلتقي بلغة المبادئ، وتزايد على بعضها في إظهار التسامي على المصالح، وإبراز الثقة المتبادلة، وإعلان الموافقة على ما يطرح، مع إضمار ما يخالف كل ذلك!!
وقد شاع التعبير عن مثل هذه الحالة بأنها معالجة المشاكل على طريقة «تبويس اللحى».
وأذكر مرة أني شاركت في لقاءٍ جمع بين جهتين دينيتين متنازعتين لإصلاح ذات بينهما، وفوجئت بما ساد اللقاء من أجواء إيجابية، حيث أكد كلا الطرفين بأن ليس هناك ما يستحق النزاع، وأن رضا الله تعالى هو الهدف، وبعد اللقاء أبدى كل منهما شكوكه في كلام الآخر، وإصراره على التمسك بمواقفه؟!
إننا بحاجة إلى تجاوز هذه الازدواجية، واستخدام لغة المكاشفة والمصارحة، فالاهتمام بالمصالح والدفاع عنها ليس عيباً، وعرض المطالب والرغبات أمر مشروع، والإعراب عن الهواجس والمخاوف ليس إساءة، إن الوضوح والشفافية بين الأطراف هو الخطوة الأولى في طريق التفاهم والتعاون.