الأسرة في فكر الإسلام وتشريعاته
رسالة الشرائع الإلهية إحياء إنسانية الإنسان، وبعث النوازع الأخلاقية القيمية في وجوده، وحمايتها من طغيان الدوافع الشهوانية المادية، لذلك من الطبيعي أن تهتم بنظام الأسرة في المجتمع البشري، وتعطيه الأولوية والعناية اللازمتين، لترسيخ وجوده، وتقوية بنيته، ومكافحة كل عوامل إضعافه.
وهذا ما نجده في جميع الشرائع الدينية، كاليهودية والمسيحية والإسلام، حيث تتفق على محورية الأسرة في نظام حياة المجتمع، وإن اختلفت في تفاصيل التشريعات، لذلك وجد ممثلو هذه الديانات أنفسهم في موقف متقارب تجاه القضايا الاجتماعية، في المحافل الدولية، كما حصل في مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994م، ومؤتمر المرأة في بكين عام 1995م.
والإسلام كآخر رسالة ودين أنزله الله تعالى للبشر، يمثل كمال الشرائع الإلهية، وصيغتها المتطورة المتقدمة، أولى موضوع الأسرة اهتماماً محورياً مميزاً، لا نظير له في أي شريعة سماوية أو أرضية.
ويتجلى هذا الاهتمام المميز في وفرة التشريعات الإسلامية، التي تتناول وتعالج كل شؤون الأسرة، في مختلف الجوانب، وحول أدق التفاصيل، فيما يرتبط بتأسيس الأسرة وتكوينها، وطريقة إدارتها، وتحديد خريطة الحقوق والواجبات لأعضائها، ومعالجة المشاكل والعقبات التي قد تواجهها، وتعزيز موقعيتها في المجتمع، وحمايتها من التفكك والتصدع.
ويشتمل القرآن الحكيم، على عدد كبير من الآيات الكريمة، التي تتناول موضوع الأسرة، كأطر مفاهيمية، وأحكام تشريعية، ونماذج تاريخية للعبرة والإقتداء.
كما تتضمن مصادر الحديث والروايات الإسلامية، عدداً هائلاً من النصوص المرتبطة بشأن الأسرة، في أبعادها المختلفة.
وفي كتب الفقه والتشريع الإسلامي، يحتل موضوع الأسرة مساحة كبيرة واسعة، يلحظها كل مطلع على التراث الفقهي.
لكن هذه الثروة المعرفية الهائلة، من مفاهيم وتشريعات إسلامية حول الأسرة، لم تتوافر لها فرص العرض والحضور، على مستوى المجتمعات الإنسانية العالمية، بل إن حضورها في وعي وثقافة جمهور الأمة الإسلامية، لايزال ضعيفاً محدوداً.
في الوقت الذي تجنّد فيه وسائل الإعلام والاتصالات المتطورة، كل طاقاتها وإمكانياتها الهائلة، للتبشير بقيم وأنماط الحياة الغربية المادية، التي تُضعف شأن الأسرة، وتهزُّ موقعيتها.
كما تنشط جهات مشبوهة، عبر المؤتمرات والمؤسسات الدولية، للترويج لتشريعات عالمية، تصب في صالح الابتذال الأخلاقي، والضياع القيمي، وإضعاف الكيان الأسري، كتطبيع العلاقات المثلية الشاذة، وتسويغ العلاقات الجنسية خارج الإطار الزوجي، ونشر ثقافة الإباحية، تحت عنوان الصحة الجنسية، والسماح بالإجهاض.. وغير ذلك من المفردات، التي تعكس توجهات الحضارة المادية، في الصدام مع القيم الإنسانية الأخلاقية.
إن الحاجة ماسّة لعرض رؤية الإسلام، ونشر منظومة مفاهيمه وتشريعاته، حول قضايا الأسرة، على مستوى المجتمعات الإنسانية بشكل عام، وعلى صعيد جمهور الأمة الإسلامية بشكل خاص، ليكون أمام المجتمع البشري خيار آخر، غير ما تطرحه حضارة الغرب.
وذلك يستلزم تحويل هذه الثروة المعرفية، من مادة علمية جامدة، إلى خطاب معرفي جماهيري واضح.
ونلحظ هنا أن المفاهيم والتشريعات الإسلامية حول الأسرة وقضاياها، تتوافر عادة في مصادرها من كتب النصوص والفقه، بلغة علمية تخصصية، وبمنهجية وأسلوب ينقصه التطوير والتجديد. وحتى الرسائل العملية الفقهية - كتب الفتاوى التي يضعها الفقهاء للجمهور - غالباً تعاني هاتين المشكلتين، لذلك لا تجتذب المثقف المعاصر، ولا يجد فيها القارئ البيان والوضوح.
ومن خلال عملي الديني الاجتماعي، الذي يرتبط جانب منه بقضايا الأسرة، كالمساعدة في موضوع الزواج، وإجراء عقود النكاح، وإيقاع الطلاق، والسعي لإصلاح ذات البين، ومعالجة المشاكل العائلية، ومتابعة الشأن التربوي، والانفتاح على الشباب ورصد علاقتهم بأهاليهم.. من خلال ذلك لاحظت نقصاً، وفراغاً كبيراً، في وعي الجمهور ومعرفتهم، بتعاليم الإسلام وأحكامه في هذه الأبعاد، مما يتيح المجال واسعاً للتلقي من وسائل الإعلام، التي تروّج لأنماط الحياة الغربية المادية، أو الاسترسال مع العادات والتقاليد السائدة، التي قد لا تكون متوافقة مع رأي الدين ورؤيته.