الأسرة وتحديات العصر
تمثل الاسرة خط الدفاع الاخير عن انسانية الانسان، وآخر القلاع والحصون لحماية ما تبقى للبشرية من قيم الفضيلة والصلاح.
فقد استهلكت الاهتمامات المادية انسان هذا العصر، واستنزفت كل توجهاته وميوله المعنوية والروحية، ومسخت هويته الانسانية القيمية، وحولته الى شيء من الاشياء، وسلعة من السلع.
لقد اصبح الناس ينظرون الى بعضهم بعضا، من خلال معادلة الربح والخسارة المادية، فيتقاربون او يتباعدون، ويتعاونون او يتحاربون، ضمن ايقاعات معادلة المصالح.
اما الاخلاق والقيم والمبادئ، فهي آثار وذكريات لماض انساني غابر، مكانها سجلات التاريخ، ومتاحف الآثار.
بلى قد يستفاد من هذه المفردات، كاعلانات دعائية، وشعارات براقة، لتحقيق مصالح ومكاسب.
كان الانسان يولد في جو عائلي مفعم بالمودة والحنان، حيث تأتي (القابلة) ـ المرأة المتخصصة في التوليد ـ الى البيت، لمساعدة من طرقها مخاض الولادة، ويخرج الوليد من بطن امه، تستقبله التهاليل والزغاريد، وتتلاقفه اكف العائلة، وتحتضنه صدورهم، بمنتهى البهجة والسرور.
وينشأ الطفل في احضان العائلة، يتغذى من ثدي امه، وتنمو احاسيسه ومشاعره من فيض حنانها، ويترعرع تحت رعاية ابيه، ويتقلب بين احضان افراد اسرته الكبيرة: جده وجدته، وعمه وعمته، واخيه واخته..
وهكذا ترافقه العواطف النبيلة، فاذا ما اشتد عوده، وتكاملت شخصيته، واصبح مؤهلا لبناء حياة عائلية مستقلة، هب الاقرباء والاصدقاء لمساعدته، وتسابق ابناء المجتمع للاحتفاء بزفافه، فيدخل حياته الزوجية، وسط تيار من الحب والفرح.
وحين يعتري الانسان مرض، او تصيبه مشكلة، او تحل به مصيبة، او يتقدم به العمر، يجد الى جانبه المواسين والمتعاطفين، مما يرفع معنوياته، ويساعده على مواجهة التحديات، ومقارعة الصعاب.
واذا حانت ساعة المغادرة والرحيل عن هذه الدنيا، ودع الانسان بحفاوة بالغة، وتكريم كبير، عبر مشاعر الحزن والاسى، ومراسيم التشييع والعزاء.
هذه الاجواء المفعمة بالعواطف النبيلة، ومشاعر الحب والاحترام، هي التي تنمي انسانية الانسان، وتثير نزعاته الخيرة، وتؤكد حضور الاخلاق والقيم في شخصيته وحياته.
لكن انسان هذا العصر قد حرم من كثير من هذه الاجواء الطيبة، فهو يولد في المستشفى، ضمن وضع مهني تجاري، تستقبله الممرضات كرقم من ارقام عملهن اليومي الوظيفي، الذي لا يتسع كثيرا للمشاعر والعواطف.
وما عاد وقت الام يتسع لارضاع الولد ـ غالبا ـ لذلك يتلقى غذاءه من الحليب المجفف، عبر قنينة ومصاصة من البلاستيك، كما قد يقضي الكثير من ايام طفولته في دار الحضانة، او تحت رعاية الخادمة، بعيدا عن عواطف الوالدين.
لقد اصبح التعامل مع احتياجات الانسان، وحالات ضعفه، ومشاكل حياته، يمثل فرصا للاستثمار التجاري، والكسب المادي، بشراهة ونهم، لامكان فيها للاخلاق والقيم.
وهذا واضح في صناعة الدواء، وعلاج الامراض لدى الاطباء وفي المستشفيات، وفي امور المحاماة، وتهيئة برامج الزواج، وحتى الموت تحولت مراسيمه الى صناعة تجارية.
بالطبع لم تكن هذه الخدمات تقدم كلها مجانا في الماضي، ودون اي مكافأة مادية، لكن الجانب الاكبر منها كان تطوعيا، يقوم به الاقرباء والاصحاب والجيران، باندفاع ذاتي، ورغبة صادقة.
وما يقدم للبعض كالاطباء من مكافأة مالية، كان في حدود الميسور، دون ان تتوقف الخدمة على حصوله، او يشكل فرصة للجشع والابتزاز.
والاخطر من ذلك مايعانيه انسان اليوم، على مستوى السياسات الدولية، ففي ظل نظام العولمة الشاملة، تتحكم مجموعة من الشركات المتعددة الجنسية، والمؤسسات الاقتصادية العالمية، في مصائر الشعوب والامم، عبر ادارات الحكم في الدول الكبرى، وتحت غطاء المؤسسات الدولية، فتسحق خصوصيات الشعوب، وتصبح سيادتها واستقلالها وثروتها نهبا لاطماع النافذين الدوليين، كما يجري العبث بالبيئة وافسادها، حسبما تقتضيه مصالح الشركات الصناعية المهيمنة.
هكذا احاطت بالانسان حالة الجفاء المادي، لتنتزع منه جوهر انسانيته، وتجفف ينابيع ميوله الخيرة، وتطلق العنان لانانيته ونوازعه الشهوانية المصلحية.
وهنا يأتي دور الاسرة، وتتجلى قيمتها، كرافد اساس، مازال يصارع عوامل التصحر والجفاف، ليغذي عروق شخصية الانسان، من ينابيع العواطف النبيلة، والقيم الاخلاقية الفاضلة.
فكيان الاسرة لا يقوم على اساس مادي بحت، واذا بني كذلك لايلبث ان ينهار، لان الله تعالى بلطفه وحكمته، جعل العلاقة الزوجية قائمة على اساس المودة والرحمة، يقول تعالى: ﴿ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة﴾.
كما شاءت الارادة الالهية ان يكون مجيء الانسان الى هذه الحياة، وبداية نشأته، ضمن حالة ارتباط عاطفي وثيق تستنهض كل دوافع الخير، ونوازع النبل، في اعماق النفس البشرية.
ان عواطف الامومة، وفيض حنانها الدافق، ومدى انشداد الطفل وتعلقه بامه لايمكن قياس ذلك بالموازين المادية، ولا اخضاعه للمعادلات المصلحية.
فطبيعة الحالة الاسرية، تغذي وتنمي البعد الانساني الاخلاقي، في حياة الانسان وشخصيته. وكلما قوي كيان الاسرة، وترسخت موقعيتها، زاد ثراء الانسان المعنوي، ورصيده القيمي، وكان اقرب الى استهداف الخير والصلاح.
ولعل ذلك هو مايفسر شدة ضغوط الحضارة المادية على نظام الاسرة في المجتمع المعاصر، لوجود التضاد بين الاندفاع المادي العارم لهذه الحضارة المادية، وبين التوجهات القيمية التي تغذيها الحالة الاسرية.
ففي ظل الحضارة المادية، هناك تشجيع للعزوف عن تكوين الاسرة، وتحمل مسؤوليتها واعبائها، حيث يتم تحريض الغرائز الشهوانية، وتوفير مجالات اشباعها، وحيث تزدحم العراقيل والعقبات امام تأسيس الكيان الاسري، بدءا من طبيعة نظام التعليم، الى واقع سوق العمل وفرص التوظيف، الى رفع سقف متطلبات الحياة، وصولا الى التبشير بأنماط السلوك والحياة المادية المصلحية.
لقد اصبحت طبيعة العيش والحياة، في ظل الحضارة المادية، تضعف انشداد الانسان العائلي، وتستقطب اهتماماته على حساب ارتباطه الاسري.