مؤسسات أهلية للسلم الاجتماعي
تبدو الحاجة إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي كواحد من أهم الحاجات، وأبرز التحديات، التي تواجه الأمة الإسلامية في هذا العصر. فالاستقرار السياسي والاجتماعي هو الذي يضع الأمة على طريق الوحدة، ويتيح لها فرص التنمية والبناء، ويمكنها من التوجه للتحديات الخارجية. ومع انعدام الاستقرار يبقى التطلع للوحدة مجرد شعار وأمنية، وتتلاشى اهتمامات التقدم والبناء، وتضعف الأمة أمام مواجهة التحديات. ونقصد بالاستقرار السياسي والاجتماعي وجود نظام مقبول من العلاقات بين قوى الأمة وأطرافها. ويقابل ذلك حالة الاضطراب، حين تختل علاقة الأطراف مع بعضها، فيقع بينها العداء والنزاع والاحتراب. وقد حذر القرآن الكريم الأمة من خطر التنازع، الذي هو نـــاتــج طبيعي لاضطراب العلاقات. يقول تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
فالتنازع يؤدي إلى الفشل الداخلي في انجاز التنمية والبناء، وإلى الضعف الخارجي الذي عبرت عنه الآية بذهاب الريح ﴿وَتَذهَبَ رِيحُكُم﴾، أي تضيع قوتكم.
وبينما ركز أغلب مفسري الآية الكريمة على تحذير الله تعالى ونهيه عن التنازع، دون أن يشيروا إلى أرضية تكوّنه، وأسباب وجوده، والتي تتمثل في اختلال العلاقات الداخلية واضطرابها، فإن الشيخ ابن عاشور التونسي، قد نبّه إلى هذه الحقيقة عند تفسيره للآية الكريمة، حيث قال ما نصه: "وأما النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك: بالتفاهم والتشاور ومراجعة بعضهم بعضا". "التحرير والتنوير، ج 9 ص 123، مؤسسة التاريخ بيروت 2000م".
إن وجود المؤسسات الأهلية، التي تتبنى الدعوة إلى تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي بين الدول الإسلامية، وبين الحكومات والشعوب، وبين الفئات والتجمعات داخل الأمة، أمر مطلوب، ويشكل استجابة لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إننا نجد في المجتمعات المتقدمة آلاف المؤسسات الأهلية، ذات الاهتمام بقضايا العلاقات الاجتماعية، بينما نفتقد مثل ذلك في مجتمعاتنا. لقد تأسست قبل خمسين عاماً دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة، بجهد أهلي من قبل مرجعيات شيعية وسنية، وكانت تجربة رائدة، تجاوب معها العلماء المصلحون من مختلف المذاهب، وأصدرت مجلة رائعة تحت عنوان (رسالة الإسلام) وهي مجلة فصلية، صدر منها ستون عدداً، من سنة 1368هـ إلى سنة 1392هـ، وكانت منبراً جامعاً لعلماء ومفكري مختلف المذاهب، الذين يبشرون بثقافة الوحدة والحوار، ويدعون إلى التقارب والتواصل، لكن هذه المؤسسة (دار التقريب) لم تستطع الصمود أمام تقلبات السياسة، ولم يتوفر لها الدعم الشعبي المطلوب، فتوقف نشاطها، وشلّت حركتها.
إن الأمة بحاجة إلى مئات المؤسسات الأهلية، التي تتبنى الدعوة إلى السلم الاجتماعي، وتبذل الجهود لإصلاح ذات البين بين مختلف فئات الأمة، من قوميات ومذاهب وتيارات. لقد تفجرت أمام أعيننا في هذه العقود صراعات قومية عنيفة، في العالم الإسلامي، بين القوميات الإسلامية، وأبرزها: المشكلة الكردية في العراق وتركيا وإيران، وتطورت إلى نزاع دموي، قتل فيه الألوف، وشردّ مئات الألوف، واستخدمت فيه حتى الأسلحة الكيماوية، كما حدث في (حلبجة) حيث استخدم النظام البائد في مارس 1988م فأودت بحياة خمسة آلاف من المواطنين الأكراد من الرجال والنساء والأطفال!! وكان مخجلاً جداً أن يأخذ العلماء والمفكرون والواعون من الأمة موقف التفرج على أحداث هذا الصراع، أو الاكتفاء بالإدانة وبشكل فردي، دون أن تتأسس في الأمة على سعة رقعتها مؤسسة أهلية واحدة، تدعو للتعايش بين القوميات الإسلامية، واحترام حقوق وخصوصيات أبنائها في إطار الإسلام، وضمن قيم العدل والمساواة. وكذلك الحال بالنسبة للصراعات المذهبية الطائفية، والتي برع السياسيون في إثارتها واستغلالها، وتجاوب معهم ذوو العقليات الساذجة من الزعامات المذهبية، فصدرت فتاوى التكفير وكتب التحريض على الكراهية، بل تكونت ميلشيات طائفية للتصفيات المتبادلة، كما في باكستان، ووصل الأمر إلى الاعتداء المتبادل على المساجد وقتل المصلين، ومن أواخر الشواهد ما حدث في مسجد كويتا في باكستان، حيث حصل تفجير إرهابي أصاب أكثر من مئة من المصلين بين قتيل وجريح. وبعض مساجد بغداد في العراق.. يحصل كل هذا، مع فراغ ساحة الأمة من أي جهد أهلي مؤسسي، للوقوف أمام هذه الفتن الخطيرة. لقد شاركت في مؤتمر عقد في الكويت تحت عنوان(الجماعات الإسلامية ودورها في الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط) في الفترة من 6-8 ديسمبر 2003م. وكانت الجهة التي بادرت بالدعوة إلى المؤتمر هي: (معهد كارينجي للسلام الدولي) بالتعاون مع دار صحيفة الوطن الكويتية. وقد جاء في تعريف (معهد كارينجي) أنه مؤسسة أبحاث سياسية مرموقة في واشنطن عاصمة الولايات المتحدة ، تأسس سنة 1910م على يد (أندرو كارينجي)، أحد أهم رواد الصناعة في تلك الحقبة، والذي جنى ثروة كبيرة في صناعة الفولاذ، ثم قرر تكريسها لتحقيق الأهداف التي شعر بأن المنظمات الخاصة لا يسعها أن تعهد بها كلياً إلى الحكومة، وأحدها قضية نشر السلام في العالم. فأين دور علمائنا وأثريائنا في مجال تأسيس المؤسسات الأهلية التي تعمل لتوحيد صفوف الأمة وإطفاء فتن النزاع والتفرقة؟!
تحتاج مجتمعاتنا إلى ثورة ثقافية لجهة الوعي بحقوق الإنسان، وقبول التعددية، واحترام الرأي الآخر، واجتناب أساليب العنف.إن تاريخ الاستبداد الطويل الذي عاشته الأمة، مسخ الكثير من معالم ثقافتها الإسلامية الأصيلة، التي ترتكز على أساس الاعتراف بكرامة الإنسان بما هو إنسان وبغض النظر عن أي عنوان آخر، يقول تعالى: ﴿وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ﴾. وترفض أي مساس بحرية الإنسان ولو كان لجهة خضوعه لربه، يقول تعالى: ﴿لا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ﴾. وحتى الأنبياء والرسل لم يعطهم الله تعالى حق الفرض على الناس أو المسّ بحرية اختيارهم ﴿وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرضِ كُلُّهُم جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤمِنِينَ﴾. ﴿فَذَكِّر إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ، لَستَ عَلَيهِم بِمُصيطِرٍ﴾. وقد أنتج واقع الاستبداد الذي سيطر على الأمة ثقافة استبدادية، جيّرت لها بعض النصوص الدينية، فكانت أرضية للتكفير والتبديع، وسياسات الإقصاء والتمييز والإرهاب الفكري. وهو ما يؤدي إلى التشنجات والاضطرابات الاجتماعية.
فلا بد من حركة ثقافية واسعة تعود بالأمة إلى معالم دينها الصحيح، وتربي أجيالها على الحوار وآداب الاختلاف، ومبادئ التعايش.